الملاذ الأخير
رندا المهر
ما رآه البارحة عبر القنوات من أخبار لا تسر عدواًَ ولا حبيباً ، أرقدته في نوم عميق ، وهو يفكر ...هل ما شاهده هو فيلم ، أم واقع بات يعيشه ، استيقظ أبو علي يستعيذ من الشيطان ، يبصق يمينا ويسارا على عدوه ابليس ، في الطرقات النائمة الباردة ، تطأ خطواته الأرض بقوة إلى مطعمه ، كأنه يقنع نفسه بوجوده في هذا الواقع الجديد ، كان أبو علي رجلا نحيلا رغم تفننه في الفلافل المبهرة ، التي رائحتها تستقطب الأنوف ، لم يخل في يوم ما مطعمه من الأجسام المتعبة العاملة ، تتسارع إلى صحن فول أو حمص ، وجارات الحي من حوله توصيه بالفتة أو القدسية ، رغم ان جارات الحي لم تسلمن من لسانه ، كم من مرة يمازحهن ..... زوجك تزوج عليك ، لقد رأيته عابطا بيده بنتا حلوة .... يجبن ساخطات باسمات ..... يكفينا شرك يا أبا علي ...
مؤخرا قبل يومين اكتظ مطعمه بزبائنه ، يدورون بمقاعدهم حول التلفاز ، من قناة إلى أخرى ، يستمعون إلى الخبر ، يجهلونه أو يعرفونه ، لكن يريدون التأكد ، يسألون أبا علي ..... يا أبا علي مات أم قتلوه ؟، كأن عند أبي علي الخبر اليقين ، يصنع له أسطورة خالدة ويقول .... بكرة يعود وينتقم ، تهتز الرؤوس مقتنعة أو تتظاهر بالاقتناع ، ترضي غرور أبي علي ، يطوف بصحون الفول والحمص من طاولة إلى أخرى ، تهتز الصحون كأنها تصفق له ، وهو يقول ... غدا قريب وان مت تذكروني .. لم يكن الموت بعيدا عن أبي علي، لقد فارق المستشفى من يومين ، سعال شديد ألم به ، وازداد بسبب الوضع الراهن الذي يرفضه ، على فرشته علب سجائر فارغة ، دخنها دون وعي ، وهو يتابع أخبار العراق ، .
وصل أبو علي مطعمه متهالك القوى ، هبط بجسمه يتكئ على قدميه ، يفتح مطعمه ، ربتت على كتفه يد، وصوت أبو صبحي يقول ......الحمد لله على السلامة يا أبا علي ، رفع رأسه وهو يحاول فتح قفل الباب، يرد ...... الله يسلمك يا أبا صبحي ، انه جاره صاحب السوبرماركت ، حمل كرسيين من مطعمه ، ناول أحدهما إلى جاره أبو صبحي ، بينما الآخر جلس عليه ، جلس الرجلان يقلبان جريدة ، أخفاها بائع الجرائد تحت باب المطعم ، لم تكن الأخبار تروق لأبي علي ، انتابته موجة خانقة من القهر ، تعود به الذاكرة إلى الوراء ،إلى أيام حرب الستة ، كان آنذاك في الخامسة عشرة من عمره ، رأى بأم عينه أباه يقع شهيدا ، أمام نظره ، وهو يدافع عنه وعن شرف عائلته ، لم يحتمل آنذاك الهوان ، واليوم تتقلب به الظنون وتزداد مخاوفه ، اختنق وهو يبلع ريقه ، يود ان يتنفس ، ان يقول ....... لكن روحه فارقته ، وطوى الله ما في داخله ، وفي فمه كلام لم يستطع قوله ، مات أبو علي كأنه أدرك ان الموت افضل حالا من العيش مرة أخرى ، في ظل استعمار جديد ، بل أراد الموت ، لان عصر المعجزات انتهت ، .