بين عيادتين
بين عيادتين
إبراهيم عاصي *
(1)
.. وعليكم السلام ورحمة الله .. أهلاً وسهلاً بالعم (أبو جمعة) .. يا مرحباً بالخالة (أم جمعة) .. كيف الأحوال طمنونا ؟.. بعد زمان ؟!.
ـ الحمد لله بخير من الله .
ـ كيف صحتك يا أم جمعة ؟ أراك متعبة !.
ـ والله يا أستاذ لا أشكو لك إلا العافية .. الليلة الماضية ما نمت أبداً من شدة المغص في بطني . وما ظننت أن الصبح سيطلع علي . ومن أجل هذا بكرنا وحضرنا لعندك لكي تأخذنا إلى طبيب ناصح فنحن غرباء ولا نعرف أحداً هنا في المدينة .
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .. نسألك العافية يا رب . ثم أطرقت ملياً وأخذت أفكر : إلى أي طبيب آخذها ؟ إن عليها كثيراً من علائم الإعياء .. وإن بها كثيراً من دلائل الخوف والجزع .. إنها عجوز صالحة .. لقد رعتني كما ترعاني أمي عندما كنت جاراً لهم وأنا معلم في قريتهم منذ سنة .. طبيبنا مسافر منذ أسبوع وما سبق لي أن تعاملت مع غيره فاستوثقت من معاملته حتى أذهب إليه الآن . هؤلاء قوم فقراء جاؤوني من القرية ليتخذوا مني دليلاً فماذا أقول لهم إن لم احسن الدلالة ؟ !
وبرق في ذهني اسم طبيب كانت تصلني به معرفة سطحية قديمة ترجع إلى أيام الدراسة ، فقلت لعل هذه المعرفة القديمة تشفع لنا عنده فيزيد من عنايته بنا .
ـ " دايمة " يا أستاذ (قالها أبو جمعة ، وتبعته أم جمعة) .
ووضعا جانباً فنجاني القهوة ، وهنا انتبهت من تفكيري فقلت : " صحة " .. هيا بنا نخرج إلى الطبيب قبل أن يزدحم عليه الزبائن .
وفي الطريق التفت إلى أبي جمعة مداعباً فأخذت أسأله :
ـ لماذا لم تأخذ أم جمعة إلى دكتور الضيعة (أبو نوفل) أفما كان ذلك أيسر لكم ؟ فتنهد أبو جمعة ثم انطلق يقول :
ـ ماذا أصنع يا أستاذ ؟ النسوان عقلهم صعب .. وهل تظن أنني لم أحاول أخذها إليه ؟ والله (أبو نوفل) رجل طيب (وإيده طيبة) شهادة لله .. ولكنها رفضت أن تذهب إليه أو نأتي به إليها .. ورضيت أن تتحمل أشد الآلام طوال الليل دون أي علاج !.
وفجأة انفجرت أم جمعة بغيظها وحنقها الذي ما كنت أتوقعه منها وهي المتعبة المريضة . انفجرت تقول :
ـ إذن كانت غايتك يا (أبو جمعة) أن أموت بين يدي (أبو نوفل) مثلما مات (فياض) قبل شهر!. فرد أبو جمعة للحال :
ـ كفى .. كفى يا أم جمعة ..(صار عشرين مرة كررت هذا الكلام) حرام إن الناس لا يموتون إلا بيومهم . ولولا أن (فياض) كان أجله منتهياً لما مات .
وإذ كنت أعرف فياضاً ، فلم أستطع صيراً على تبادل هذا الحوار بينهما فسارعت أسأل :
ـ فياض مات ؟؟ فأجابني العجوز :
ـ نعم مات .
ـ رحمة الله عليه وعلى شبابه الغض . وأخلاقه الرضية .
وقبل أن أسأل عن كيفية موته ، تابعت أم جمعة تقص علي قصة موته بنفس لاهث وألم مكتوم :
ـ لقد كان نائماً ذات يوم في البرية فأحس على (قلنج) شديد في بطنه ومغص حاد فجاؤوا به إلى (أبو نوفل) ولما كشف عليه قال : هذا يحتاج إلى حجامة (بكاسات الهوا) ثم حجمه ولكن (بالجرة) بدلاً من (كاس الهوا) ، وقال إن ذلك أسرع في شفاء البطن .
فقلت :
ـ أعوذ بالله إن ذلك لمضحك حقاً .. الحجامة .. يجريها بالجرة ؟! أنا لم أسمع بهذا من قبل !..
ـ نعم يا أستاذ بالجرة ـ جرتنا الصغيرة ـ ولكن هل تدري ماذا حصل له بعد ذلك ؟
ـ ماذا حصل ....
ـ لقد امتصت الجرة معظم بطنه فاندلق إلى داخلها . وعندها أخذ فياض يصيح ويستغيث . ولما حاول أهله انتزاع الجرة لم يستطيعوا . فهموا بكسرها لكن (أبو نوفل) صاح بهم وتقدم بنفسه إليها فجذبها إليه جذبة قوية ماهرة ، فانجذبت بلمح البصر سليمة لم يمسها أدنى سوء . أما بطن فياض فقد ارتد إلى مكانه من جديد ، مع صوت لم يبق أحد في القرية إلا سمعه واجتمع عليه .. وقد كان هذا الصوت المدوي ، آخر ما صدر من فم الرجل بعد أن تقطعت أمعاؤه فأسلم الروح ومات .
(2)
" الدكتور خيري لقمان " للأمراض الداخلية والنسائية والأطفال . خريج جامعات أوروبا ومستشفياتها . أخصائي بأمراض الأنف والأذن والحنجرة والتصوير الشعاعي والتحليل . جراحة عامة وعظمية . خبرة سنتين في الأمراض التناسلية والمسالك البولية والجلدية والأسنان ..."
***
صدمتني تلك اللوحة المكتوبة بخط عريض وأنيق فعلمت أنني وصلت بصاحبي إلى الطبيب المقصود فقلت لهما :
ـ ها نحن وصلنا . تفضلوا . ودلفنا في باب عريض معتم وأخذنا نرقى سلم البناية درجة ، درجة ، وأسهم سود عند كل عطفة منه ترشدنا وتقودنا إلى عيادة الطبيب ، إلى أن غدونا في قاعة الانتظار فجلسنا مع الجالسين ، وما هي إلا فترة من زمن حتى أذن لنا فدخلنا غرفة العيادة . وإذا الطبيب بصدارته البيضاء ، ونظارته الغليظة ، وسماعته حول عنقه ، ولفافته على جانب فمه لم يبق إلا أقلها توشك أن تحرق شفتيه .. إذا به يرحب بنا و " يؤهل ويسهل ". ثم خصني بالتحية والمصافحة وأجلسني على كرسي بجانبه ، بينما ظل أبو جمعة وزوجته واقفين بكل وقار وإجلال . كان أبو جمعة متهيباً من الموقف الذي يبدو لي كأنه يقفه لأول مرة . أما أم جمعة فقد كانت تصرخ بين الحين والآخر صرخات مكتومة كلما جاءتها نوبة من نوبات المغص الحاد .. وكانت تبدو في ثيابها المهترئة التي يغلب عليها لون السواد ، وفي وقفتها الرزينة الساكنة .. كأنها تمثال من الغرانيت .
وبعد شيء من كلام المجاملة واستذكار الماضي البعيد توجه إلي يسألني :
ـ خير إن شاء الله .. ما بال العم ؟
ـ حبذا لو قلت ما بال العمة . العمة هي المريضة . والعم زوجها . لقد طرقا علي الباب منذ ساعة لمعرفة بيننا ، ورغبا إلي أن أرشدهما إلى الطبيب الناصح فجئت بهما إليك .
ـ شكراً .. شكراً لك ثقتك يا أستاذ ـ وانفرجت أساريره عن ابتسامة مهينة عريضة ـ خففت بعض الشيء من هول الموقف بالنسبة للعجوزين . وتسطحت أم جمعة على منصة المعاينة وجعل هو يتفحصها في فمها تارة وفي خيشومها أخرى .. مرة يطبل على بطنها بأصابعه ، ومرة يصيخ السمع إلى ضربات قلبها بسماعته ثم انطلق معها في استجواب :
ـ متى حصل معك الألم ؟
ـ البارحة ليلاً .
ـ ماذا تعشيت ؟
ـ برغل .
ـ أين كنت تنامين ؟
ـ في البرية أنطر الكرم .
ـ هل تشعرين بآلام هنا (وكان يضغط على مكان الزائدة من بطنها) .
ـ لا.. أبداً .(فقلت في سري : الحمد لله هذا آخر دليل على أن المغص لا صلة له بالزائدة كما كنا متوهمين ، وكا ما في الأمر هو برد ليل و كظة طعام ثقيل).
ـ انهضي ... انهضي .
نهضت أم جمعة عن المنصة وهي أشد ما تكون إعياء ومرضاً من رهبة الموقف (وحراجة الأسئلة) التي كانت توجه إليها ، فضلاً عن أن رجلاً أجنبياً كشف على بطنها لأول مرة في حياتها .. فيا للخجل ، ويا لذل شيباه !.
ـ طمنا يا دكتور.. (عبارة تجرأ بها الزوج المسكين على طرحها على الطبيب وهو في غاية التهيب والتلجلج) .
فأجاب الطبيب :
ـ لم ينته الفحص بعد .
ولم أتمالك نفسي أن أخذت أردد في سري : ويحه وماذا بقي للفحص ؟
لماذا لم ينته بعد ؟ لقد توضح كل شيء : نوم في العراء دون غطاء .. الفصل خريف .. العشاء برغل .. أعراض زائدة لا يوجد !.. فأسوء الاحتمالات هو (القلنج) على رأي أم جمعة في فياض !.
على أن الطبيب أردف يقول :
ـ إنها بحاجة الآن إلى (إبرة) ثم إلى تصوير وبعدها أعطيكم النتيجة ..
هيا يا (لطيفة) .. هيا احقني العجوز بإبرة من النوع الممتاز .
وقدمت لطيفة ـ على غير استحياء ـ تمضغ (الشيكلس) بين فكيها ، وتتراشق في حركاتها ، وتتكلف في مواساتها .. يشفع لها في ذلك كله وجه مليح من الصعب إلا على المتفحص الدقيق أن يعرف أنه مستعار.
وما هي إلا لحظات حتى كانت لطيفة قد حقنت أم جمعة بالإبرة التي علمت فيما بعد أن قوامها الماء المقطر الخالي من كل غش !.
ثم نودي على العجوز : هيا إلى غرفة الأشعة . وكان الطبيب قد سبقها إليها فترددت بادئ الأمر.. وتردد معها زوجها الذي بات يحسب حساب أجر الطبيب بعد أن تفاقم أمر المعاينة .. أطرقت في الأرض وهالها النداء .. وكلمة (أشعة) بالذات هالتها أكثر.. وأخذت تجمجم بصمت : أشاعة !. أشاعة؟ ! لم أسمع بها بحياتي .. يا رب ما هذه الأشاعة ؟ ما هذه النكبة ؟
وكنت أنا الآخر في شبه ذهول مما يجري على (خشبة) العيادة من فصول ، ولكنني مع ذلك كنت أراني مدفوعاً من حيث لا أدري لأن أتابع المشاهد حتى النهاية . ولذلك لم أتدخل فيما يجري لا سلباً ولا إيجاباً ، في حين ألقت لطيفة بظلها الثقيل على أم جمعة وساقتها نحو غرفة الأشعة وهي تقول مشجعة :
ـ لا تخافي .. لا تخافي .. لن يشق الدكتور بطنك ، إنه يريد أن يصور بطنك تصويراً فقط .
ـ يا ويل شيبتي يا بنتي ، بعد كل هذا العمر تريدون أن تصوروني ؟!. بعد كل هذا العمر تريدون أن تكشفوا عن بدني ؟! أما كفى أول مرة ؟ يا فضيحتي يا (أبو جمعة) .
وكان أبو جمعة يتردد بين الشماتة والغيظ ! وكان يحار بين أن ينفجر أو يحافظ على هدوئه . ولكنه برغم ذلك لم يبدر عنه شيء ، فظل متطلعاً إلى النهاية بفضول وتحرق واستسلام .
خرجت أم جمعة بعد قليل من غرفة الأشعة المعتمة ، تدب على رؤوس أصابعها دبيباً ، وقد نسيت حذاءها في الداخل ، فأنكرتها بادئ الأمر لما لاحظت على وجهها من خوف واضطراب ، وعلى مشيتها من رعدة وارتجاف حتى لكأنها الغصن الأجرد تتلاعب به الريح الهوجاء . لهاثها لا ينقطع وعيناها كثقبي خرزتين صغيرتين .. ثم التفتت إلي متفحصة ، ولما آنست أنني أنا هو!. انفجرت تلومني بغيظ مكتوم :
ـ أهكذا يا أستاذ ؟! أهكذا .. ورطتني بهذه الورطة ؟!.
يا ليتك يا أم جمعة لم تخلقي .. يا ليتك مت ولم تدخلي هذه المغارة ، مغارة السوء ليرى جسدك رجل (أجنبي) .. يا ناس أنا شفيت يا ناس .. يا ناس لم يبق معي مغص والله العظيم ..
اجتمع علينا أكثر من زبون ، وأبدى استغرابه ودهشته أكثر من زائر أو مرافق لمريض . وتمنيت أن لو غارت الأرض بي على أن أكون في هذا الموقف ولكن لم يكن بمقدوري أن أتهرب من الواقع ـ فأنا الدليل إلى الطبيب الناصح ـ فقاطعتها مهدئاً من روعها مخففاً من ثرثرتها أقول :
ـ هيا .. هيا نلحق بالطبيب إلى غرفته ، إنه الآن يكتب لك العلاج وأخشى أن يسمعك فينزعج .
ودخلنا على الطبيب فإذا هو وراء مكتبه يشعل لفافته ويدسها في فمه وقبل أن نسأله عن شيء توجه إلينا بلهجة فيها الجد والرصانة يقول :
ـ قلما تعذبت في معاينة كعذابي في معاينة هذه العجوز.. احمدوا ربكم أنكم جئتم إلى عندي .. واحمدوا ربكم أنني أقتني جهازاً للأشعة أستطيع بواسطته أن أطلع على خفايا الصدور والبطون معاً !.
فقلنا : الوصفة يا دكتور . فقال :
ـ سأكتبها بعد دراسة الصورة . ارجعوا إلي بعد العصر. ثم حدجني بنظرة ذات معنى وقال :
ـ الجماعة بأمانتك يا أستاذ .
وبأعجوبة صبرت الرجل وزوجته حتى حلول الموعد . لقد كان يتململ بضيق وكان طيلة الفترة ـ من الضحى حتى العصر ـ يعاني من هم وغم باديين على وجهه . كان يبدو لي صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء .
وعدنا في الوعد المضروب إلى الطبيب . وبعد قليل من التنحنح ، وقليل من التقلقل على الكرسي الدوار ذات اليمين وذات الشمال ، وبعد شيء من الترحيب نشر أمامه على ضوء مصباح خاص صورة شعاعية ، وقال مخاطباً أم جمعة :
ـ تعالي انظري يا عجوز.. هذه هي أضلاعك .. وهذا هو عمودك الفقري .. وهذا هو مكان الكلى .. وهذا .. وهذه .. حتى إذا انتهى وضع الصورة في مغلفها ودفع بها إلى أم جمعة وقال : خذي . فقالت:
ـ وماذا أصنع بها يا دكتور ؟
ـ احتفظي بها فإنها تلزمك مع الأيام . ثم انكب على مكتبه وشرع يكتب الوصفة الطبية . ولما انتهى منها هم بتسليمها لأبي جمعة لكنه أحجم في اللحظة الأخيرة فبقيت في يده وقد حول نظره إلي كأنما يريد استئناساً برأيي أو استلهاماً من وجهي ، أو تثبيتاً من هوية الدافع للأجرة .
إلا أنني لم أسعفه بشيء ، فرجح عنده بذلك ، أن الذي سيدفع هو أبو جمعة نفسه ولست أنا ـ وهذا ما رميت إليه بصمتي فلعله يرأف بحاله البائسة ـ وعندها قال ـ ولا تزال الوصفة بيده ـ :
ـ هذه هي الوصفة ، فهات يا أبا جمعة .
ـ كم تأمر يا دكتور ؟
ـ (عشرة) أجرة معاينة .. (ثلاثون) ثمن الإبرة والصورة .. يعني أن المجموع هو أربعون ليرة فقط .
ـ لا يا دكتور هذا مبلغ كبير ـ خرجت من أفواهنا نحن الثلاثة على غير اتفاق ـ ثم تابعت وحدي ، وقد شعرت بهول الصدمة التي واجهتني وأصابت صاحبي ، تابعت وحدي أقول :
ـ لا يا دكتور (أربعون ليرة) ! مبلغ باهظ لا يستطيعان سداده لك .. فهما كما ترى .. فقراء ، مساكين ، رجائي ألا ترهقهما ولن يضيع الله أجرك .
ـ طيب .. من أجلك بلا خمس ليرات من أجرة المعاينة ، بلا ليرتين من ثمن الإبرة . يبقى ثلاث وثلاثون ليرة فقط . وأمري لله . (وكانت لهجته في هذه المرة حادة وحاسمة) .
وسادت فترة صمت ووجوم تحسس خلالها أبو جمعة صرة في عبه ، ثم فضها فإذا هي فيها عشر ليرات وبضع فرنكات صبها مرة واحدة أمام الطبيب وأتبعها بقسم عظيم : إنه لا يملك سوى هذا المبلغ من كل دنياه . ولكن الطبيب أوشك أن يتقطع من الغيظ بل وهم أن يمزق الوصفة لولا أن سارعت إلى يديه، ولولا أني مددت يدي إلى جيبي في محاولة لإتمام المبلغ الذي طلبه . بقيت الوصفة سليمة ، لم يمزقها الطبيب ، ولكنني لم أستطع أن أكمل له ولو قرشاً واحداً من جيبي . ذلك أنا أبا جمعة أقسم علي يميناً مغلظاً ، بينما أرضت أم جمعة الطبيب بأن خلعت له من أذنيها بقايا قرط ذهبي ، كانت لا تزال تحتفظ به ذكرى منذ صباها وأيام عزهما الآفل القديم .
ثم خرجنا بالوصفة العتيدة التي لو نشرت في جريدة لملأت منها عمودين . ومع أن خبرتي بقراءة مثل هذه الألغاز محدودة ، فقد تمكنت من أن أعرف أن كل ما فيها إن هو إلا مقويات وفيتامينات ، وأشياء من هذا القبيل لا تمت لأي مرض بصلة !.
لم نكد نخرج من باب العمارة الرئيسي حتى كانت الوصفة الطبية والصورة الشعاعية مزقاً مزقاً بين يدي أبي جمعة دون أن يتاح لي فرصة إنقاذهما منه ..
ولقد داخلني كثير من العجب !. كيف يدفع ثمنهما كل ما يملك من حطام الدنيا ثم يمزقهما ؟ أفما كان بمقدوره أن لا يدفع وأن لا يأخذهما ؟! وأن لا يمزقهما ؟؟
وفي الطريق .. وقبل أن نفترق : أنا إلى بيتي وهما إلى القرية .. سمعته يقول لها بخفوت وألم مرير:
ـ ها نحن نعود إلى القرية بلا كيس طحين ، وبلا سترة لي ، وبلا وصفة ، وبلا قرط ، وبلا دواء .. أرجو أن تكوني قد رضيت يا أم جمعة وزال عنك العناء ..
وسمعتها تردد في مرارة والعبرات تخنقها : " نعم أنا السبب .. يا ليتني تعالجت عندك (يا أبو نوفل) .. يا ليتني لقيت مصيرك يا فياض " .
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979