مشروع لم يكتمل
سما حسن - فلسطين
هناك.. لايزال لي حلم لم يكتمل.. مشروع لم يكتمل، هناك فوق سطح فيللا صغيرة كان يملكها أبي وأعمامي في مصر، وبمنطقة الهرم بالتحديد، كانت هوايتي الوحيدة والتي أمارسها كلّ ليلة، بعيداً عن المُتلصّصين الذين هم جيشٌ من أبناء وبنات أعمامي، حيث نلتقي كلّ عام في إجازة الصيف، هم يفدون إلى مصر من بلاد الخليج، حيث استقرّوا بعد النكبة، ونحن نفدُ من غزة، لأنّ أبي الوحيد، وهو أصغر إخوته، الذي تمسّك بغزّة وطناً، وبمثابة الابن الوحيد الباقي لوالديه العجوزين.. لم أكن أتخلّى عن عادتي في التسلّل خلسةً إلى سطح الفيللا الصغيرة لكي يكون لي لقاء مع.. لا تتعجّلوا الأحكام، فلغاية الآن كل لقاءاتي بريئة، فقد كنت أهوى أن أطالع ليل القاهرة وخاصة منطقة الأهرامات وتمثال أبي الهول، كان هذا المنظر يمنحني مشاعر كثيرة مختلطة، أولاً أسرح مع عظمة الفراعنة في بناء هذه الصروح، ولا ألبث أن أمتلئ حقداً عليهم، فهُم بنوها بالذُلّ والعبودية والسُّخرة للشعب المصري، وهم كانوا يريدون تمجيد أنفسهم وتخليدها على حساب شعبٍ فقيرٍ لا حول له ولا قوة.. كانت هذه الفلسفة كبيرة جداً على عقلي الصغير، لأنني في ذلك الوقت كنت في الرابعة عشرة من عمري فقط. وشاءت الأقدار أن أبلغ مبلغ النساء في ذلك الصيف لأوّل مرّة، ولم تنسَ أمّي أن توصيني بالوصية التقليدية والتي لم أستفد منها شيئاً: أن تدفع شخصاً إلى الحرب ولا تمنحه حتى ولو مجرد سيف من خشب، ثم تهمس في أذنه: خلّي بالك من نفسك.. وهكذا أمّي بعد أن منحتني وسائل الحماية والوقاية لهذه الفترة قالت لي هذه العبارة التقليدية التي وجدت نفسي أكررها لابنتي بعد حوالي عشرين عاماً من ذلك الوقت، كنت أشعر أن هناك تغيراً ما في جسدي، صدري بدأ ينمو، وأصبح عبارةً عن حشودٍ طلابيةٍ صغيرةٍ في جامعة تستعدّ لمُظاهرة أو ثورة، أصبحت مشيتي مُلفتةً ولفتاتي موحية، كنت جميلةً، لا أحد يُنكر، ولكنني كنت جذّابة، هل هي الهرمونات الأنثوية التي بدأت تنشط من غفوتها في ذلك الصيف الحار؟ ومن سوء الحظّ أنني قد بلغت، وأمّي لم تُحضر لي أيّة ملابس مستورة، فقد كنت حتّى وصولنا القاهرة، تلك الطفلة التي تتعارك مع إخوتها، وتلوك اللبان، وتعمل منه فقاقيع هوائيّةً كبيرةً، لا تلبث أن تُفجّرها في وجه من يسوقه سوء الحظ أمامها.
إذا كنت أنثى صغيرة، وملابس قصيرة تكشفُ أكثر مما تستُر، وقفزٌ ولهوٌ رغم تحذيرات أمّي، وهذا القفز يزداد الآن فهناك اعتراف خفيّ أنني أنثى، تسلّلت تلك الليلة إلى سطح الفيللا، وتخيّلت أن الفراعنة الرابضين في الجيزة عرفوا السّر، وربما سيقيمون لي احتفالاً فرعونياً بطقوس خاصة، كنت أقرأ ولعهم الشديد بالطقوس والأعياد، ولم يتركوا شيئاً أو حادثةً تمرّ دون احتفال، بدأت في النظر إلى التمثال الضخم لأبي الهول، وتذكّرت درس القراءة المقيت الذي كان مقرّراً علينا في المرحلة الإعدادية: أبو الهول يتكلم، كنا أصغر من أن نعي الاستعارة والتشبيه، حتّى تهامسنا نحن التلميذات، بأنّ هذا التمثال الضخم يتكلّم في ساعات متأخرة من الليل، هل الخرافة هي التي تسحبني كل ليلة إلى هذا المكان؟ قرّرت أن أتكلّم قبله تلك الليلة، وكنت أريد أن أخبره أنني كبرت، وأن نظرة والدتي لي تغيّرت، وهي حائرة كيف تعاملني، وأنني يجب أن أثبت نفسي، سأُطالب بحقوق جديدة، ماذا سأطلب؟ الأمر يحتاج إلى بعض التفكير، لمَ لا أطلب غرفةَ نومٍ مُستقلةً؟ لا.. لا.. أخاف النوم وحدي بعيداً عن أختي الوحيدة، سأدع التفكير بالمطالب الجديدة إلى حين العودة إلى غزة.
استغرقت كثيراً في الأحلام والقرارات، ولم أشعر بالأيدي الباردة التي تحيط بعينيّ وتهمس لي: من أنا؟؟ جفلت بعد أن دقّ قلبي سريعاً، فهذا سرّي قد انكشف ولن يلبث كلّ جيش الأولاد والبنات يهرولون على الدرج، فتحت عينيّ لأجد ابن عمي الذي يكبُرني بعامين، ومنظاره الطبي يلمعُ زجاجه في الضوء الخافت فوق أنفه، وفوق زغب شاربه الذي بدأ بالنموّ.. قال لي هامساً: لا تخافي... أنا أراقبك كلّ ليلة... وأرى وقفتك العجيبة هذه.. ماذا تفعلين؟ كنت سأروي له بصدرٍ مُختلجٍ عن الأهرامات وأبي الهول، وربما انطلق لساني لأخبره أنني بلغت مبلغ النساء، ويجب أن أستغل الوضع الجديد جيداً، ولكنني سخرت بداخلي من سذاجتي، وتذكّرت مقولةً من قراءاتي: أضعفُ الناسِ أضعفُهم في حفظ سرّه، ابتعدت عنه وقلت: لا شيء، فقط أهرب من الضجيج..
كانت عيناه في تلك الأثناء تطوف وتقف، تقف وتطوف، مثل طائرةٍ عموديةٍ تبحث عن مكان للهبوط، وشعرت بهما على عُنقي، فوضعت يدي تلقائياً عليه، وشعرت بهما على صدري الذي يستعد للثورة، فلا إرادياً أخذت أضغط عليه مُتظاهرةً بتعديل هندامي، وشعرت بهما على شفتيّ، ولكنني لم أفعل شيئاً، هو الذي فعل.. في تلك اللحظة لم أتذكّر سوى عبارة أمّي: خلي بالك من نفسك..
كانت هناك طبول تدقّ رأسي بعنف، ودقّات قلبي مرتفعة، وهو نفسه كان يرتجف، شعرت به يتصبّب عرقاً، ورائحة عطره الرّجالي الفخم، انتشرت في كلّ خلاياي، خلّي بالك، العطر أروع من أن يُقاوم. شفتاه الآن تشرعان بحثاً عن شفتيّ، التصقتا بزاوية ذقني. هبط إلى عنقي.. ثمّ ارتفع إلى زاوية شفتي اليمنى، الطيار وجد مكاناً للهبوط.. واعتصرها بقوّة.. تأوّهت.. هذه قُبلة.. نعم، أعرف أن هذه قُبلة، خلّي بالك، تذكّرت درس العلوم وما فيه عن الحمل والتلقيح والإخصاب، وتبّاً للمعلمة الحمقاء، لم تُخبرنا: هل القبلة يحدث بعدها حمل؟ المُعلّمة مرّت على الدرس تلاوةً دون شرح.. قدماي ترتجفان.. يجب أن أهرب.. هناك تلقيحٌ وإخصابٌ وحملٌ وبطنٌ تنتفخ دون زواج، وفضيحةٌ وعار.. وتخيّلت أبي يلوّح بالثأر، وتذكّرت فيلماً عربياً قديماً شاهدته، وتقتل فيه البطلة بعد قُبلة، ولكن كان هناك أكثر من قبلة، والمشهد كان من المستحيل أن يكتمل يجب أن أهرب، هو جبان وخائف، ويبدو أنها التجربة الأولى له كما هي لي، ولِمَ لا أنتظر؟ يجب أن أكون شُجاعة، يجب أن أخوض التجربة، كلّ الحياة بدأت بتجارب، ويجب أن أُجرّب وأرى ماذا سيحدث، شفتاه تبحثان عن شفتيّ من جديدٍ الآن، هو يلتصق بي أكثر ويعتصرني أكثر، ورائحة عطره، وبقايا رائحة صابون، وربّما كانت معجون حلاقة. نعم، لقد شممت هذه الرائحة على وجه أبي وأنا أُقبّله كلّ صباح... يطوف على شفتي لا يستقر سوى بأنفاسه اللاهثة اللاهبة، ويقيس شفتيّ ذهاباً وإياباً بأنفاسه، وكانت قدماي تلك اللحظة قد تخلتا عنّي، أو أنا قد تخلّيت عنهما، أنا مُخدرة وأريد النوم، أطبق ثانيةً عليهما واعتصرهما: خلي بالك من حالك.. مُعلّمة العلوم الحمقاء، الفيلم العربي ومقتل البطلة بعد قُبلة... هروب... هروب... يجب أن أهرب، الدرج أصبح درجةً واحدة، لأنني لا أدري كيف أصبحت في الطابق الأرضي، وبدأت أفتح صنبور الماء على آخره وأغسل وجهي مراراً وتكراراً، لو رأتني أمّي سترى شفتيه وتخبر أبي، وأبي سيغضب ويطالب بالثأر.. يجب أن أستحم لأن رائحة عطره تتلبسني، يجب أن أغتسل، وتحت شلال الماء المنهمر، شعرت أنني كنت في تجربة لن تتكرر… خرجت من الحمام، ولم أقرأ في وجه أمّي أي شيء، ولكنني شعرت بداخلي وأنا أتكوّم على الفراش أنني كبيرة، وأنثى بشفاهٍ يبحث عنها الرجال ومعلمة العلوم وأمي، يجب أن أتذكّر كلامهما جيداً، ومرّت السنوات وكانت تلك القبلة، ومشروع القبلة هي الأولى والأخيرة، ألم يشهدها تمثال أبي الهول، ذكرى وحيدة خالدة، لأنني حين تزوجت وطلبت هذا المشروع من زوجي قال لي: هذه أشياء تحدث في الأفلام وللنساء غير الشريفات، وأنت زوجة محترمة وشريفة… إذن المشروع الذي منحني إياه ابن عمي، كان سيحوّلني إلى امرأةٍ غير شريفةٍ لولا زواجي من الرجل الذي يلتهمني كالشّطيرة.. الرجل الذي لم يُفكّر أن يتفاوض معي يوماً في أمر جسدي، وأن يكون طياراً لطائرة عمودية أو حتى نفّاثة، الحُب في عُرفه، يا لتعاستي رذيلة.