بريد عاجل
بريد عاجل
لبنى ياسين
يسودني مزاج ضبابي للكتابة.
و أراك تخرج من بين الحروف ...علامات تعجب و إشارات استفهام.
أراك تخرج...فتقف بحزم لا املكه, نقطة في آخر السطر تنهي بها الكثير الكثير ...من حكايتنا الغريبة.
و ما زال يسودني ذلك المزاج الضبابي...
ألأنني رضيت بعلاقة شرعيتها ورقة عند شيخ لا غير,لاصبح الزوجة الثانية لزوج لم يعد لديه وقت كاف ٍ لكلتينا.
ألأنني و بعد انتظار خمسة عشر عاما صادفتك مرة أخرى فأشعلت بي كل الحرائق التي اعتقدت مخطئة أنني أخمدتها ذات يوم ...فإذا هي جذوة تحت الرماد...لم يكن ينقصها اكثر من رؤيتك من بعيد..لتنطلق مرة أخرى و تكتسحني روحا و جسدا.
بعد خمسة عشر عاما التقيك زوجا لأخرى و أب لأطفال ثلاثة ..وأمير متوج على إمارتك الصغيرة,,وتقنعني بتلك القدرة الهائلة التي حباك الله بها على الإقناع ...أن تعود ثانية لحياتي...كما أقنعتني يوما بخروجك منها.
كلا أنت لم تقنعني يومها...لقد اختفيت و حسب ..كأنك لم تكن, كأني نسجتك من أوهامي و عندما فتحت عينيّ لم أجدك.
تركتَ بعدها بصماتك علامات استفهام كثيرة و إشارات تعجب اكثر ...و جرحاً غائراَ كهاوية لا قرار لها على ثنايا الفؤاد.
تناسيتك..لكنني لم أنسك..كنت تمر بخاطري بين الحين و الآخر و يواجهني السؤال مؤلماً: لماذا...كيف...وأين اختفيت؟؟
و تعود تلك الإشارات إلى دهاليز حياتي لتغتالني للمرة الألف..لتحرقني..وأنا ما كان ذنبي سوى أنني أحببتك كما لم تحب حواء يوماً.
ثم...كان ذلك اليوم
كنت في طريقي إلى حفلة موسيقية أغسل بها تراب ملل وشح أيامي بلون مغبر اسود, و ربما إمعانا مني في إغاظة الملل أو تضليله أو ربما تضليل نفسي ..ارتديت ثوبا ابيض..كما لو كنت عروساً, و تزينت..كما لو أني ذاهبة للقائك الذي لم احسب له حساباً.
وهناك...و قبيل ابتداء الحفل ...برزت أمامي فجأة ,وقع قلبي من مكانه ..و ارتعشت قدماي..و غشيني إحساس خفي بأنني قد اسقط إن أنا تزحزحت من مكاني,فاتجهت أنت إلى..صافحتني بقوة محتضناً كفي بكلتا يديك , رحبت بي بشوق أظنك اقتبسته من قلبي ,كأنك كنت تنتظرني..قلت لي يومها..ما زلت جميلة..بل انك اليوم اجمل ..تبدين كملاك في اللون الأبيض.
كنت أجيبك آلياً..بكلمات حمقى تخرج من فمي بلا ترتيب و لا حتى تدبير,كلمات تتساقط سهواً من بين شفتي دون تفكير إذ أن عقلي دخل فجأة في متاهات أخرى لا تتسع إلا لشخص واحد, و ذكريات مذ وقعت عيناي عليك استيقظت من غيبوبة لم تكن طويلة.
أكملنا ذلك الحفل سويا..و أوصلتني إلى المنزل..تخليت أنا بدوري عن حرصي و عن قلقي تجاه مجتمع لا يرحم امرأة جل ذنبها إنها وحيدة في الحياة و المسكن ,و جلست جوارك في سيارتك ..ربما لامنّي نفسي ..إنني لم اجلس إلى جوارك في حفل زفافك....فلأكتفي إذا بمقعد إلى جوارك بالسيارة.
بعدها تحادثنا كثيرا و مطولا..و تلاقينا ..و قضينا أو ربما قضيت أنا اسعد أيام حياتي معك, ثم اقترحتَ زواجا عرفيا يجمعنا...زواجا كنت أنا من ألد أعدائه ..و كنت أشن حرباً ضروساً كلما ذكر أمامي ,ناعتة عروسه بالغباء و الذل, فإذا بي أصبح فجأة إحدى بطلاته...أليس للقدر أحياناً مفارقات مضحكة حد الدموع و الألم.
بل إنني كدت أطير فرحاً ...فقط لأجل الاقتران بك..ولو على ورقة..ما كان غيرك يعنيني.
و ها أنت اليوم ,و لم تمض ِ سنة بعد على زواجنا...تلوح بمسؤولياتك في وجهي..و كأنك تكتشفتها تواً و لم تكن موجودة من قبل, تهجرني لأسابيع ..و تزورني بالهاتف بين الحين و الآخر لتعتذر عن موعد لم تكن تنوي أساسا الوفاء به, متذرعاً يوماً بمرض ابنتك..و آخر بامتحانات الأولاد...و ثالث بالسفر مع العائلة.
و أنا ..ألم أكن عائلتك يوماً و لا حتى مع تلك الورقة؟؟
فجأة اكتشف أنني كلما اعتقدت أنني وطنك..و بوسعك أن تقتحمني بدون خوف , وأن تنام في داخلي باطمئنان ,فاجأتني بأنك لا ترى في سوى المنفى....الغربة!! و أنني لم اكن احمل إليك إلا الشعور بالخوف..كأنني مجهولك الذي تخشى وأنا التي كنت أعتقد بأني يقينك..كما كنت دوما يقيني ,بينما كنت أنا وهمك الذي امتلكته بورقة.
و ماذا بعد؟؟
هل سأنتظر ذلك اليوم الذي تمزق فيه تلك الورقة و تخرجني بنفس الشرعية التي تملكها أنت الرجل من حياتك و حياتي؟؟
و لم الانتظار..ما دام هذا اليوم آت ٍ لا محالة.
منذ خمسة عشر عاماً....و أنا لا أفعل شيئاً سوى الانتظار, أما آن لي أن استقيل من منصب الانتظار هذا و اترك ذلك الكرسي شاغراً بانتظار حمقاء أخري غيري.
أظن أنه قد آن الأوان منذ زمن بعيد..
و هكذا أخرجت تلك الورقة..و بشرعية اغتصبتها من نفسي و من ألمي ومن وجع صار إدماني و من جرحي الغائر ذاته الذي لم يجد له سبيلا للشفاء بعد ...مزقتها إربا إربا ..ووضعتها في ظرف .. و توجهت إلى مركز البريد لارسلها لك في البريد العاجل