سلة الرمان
سلة الرمان
إبراهيم عاصي *
أشرف الخريف على الانقضاء ، وأطل الشتاء برأسه على الدنيا قاتم الوجه مقطب الجبين ، مكشر الناب مرعب الصوت ، مهدداً متوعداً جلود الفقراء ، وجيوب البؤساء ، وصحة المحرومين .
وكان هذا يعني بالنسبة (لأبي قدور) أن موسم قصد (الأجاويد) قد حان ، فانطلق كعادته في كل عام ـ وقد كاد ينتهي موسم قطاف القطن ـ يحمل على كتفه الناحل المتداعي رفيقة طريقه ، ومؤنسة دربه ، وحاضنة مجهوده وآماله ، والحفيظة على سر زاده ... يحمل سلته تلك التي نسجتها له (أم قدور) منذ عدة سنوات من أصلب أنواع العود والقصب ، والتي ما زالت توصيه بها خيراً في كل سفرة إلى المدينة أو منها . ولكنه قد ملأها في هذه المرة رماناً وانطلق يمشي بها ـ وقد نخرت عظامه السنون ، وعشعش في جيوبه الممزقة وفي ثنايا أسماله المهترئة الفقر والحرمان ـ يمشي بها متهدل القامة ، حاني الظهر من ضعف ووهن ، ولكن مع ذلك فإن وجهه الشاحب الغامض ، المغضن بفعل الهموم وشدة السنين ما كان ليخلو من بارقة أمل تشع من عينين لا تبدوان للرائي إلا بصعوبة من خلال شعر خشن أشمط ، كث قصير، تناثر فوق جبهته ـ إلا رقعة منها ـ وحول باصرتيه وفوق وجنتيه ، وعلى بقية السفوح والتلاع والأخاديد من وجهه المليء بمعاني الفطرة والبساطة والطيب .
وكانت بارقة الأمل تلك تحدوه طوال طريقه الوعرة من قريته الصغيرة إلى المدينة المجاورة حيث ذلك الرجل الغني النازح من ريفه منذ عدة سنين والذي اعتاد أن يجود عليه في مثل هذا الوقت من كل عام ببضع عشرة ليرة يشتري بها قمحاً وذرة مؤونة سنوية للعيال .
وصل المدينة وقرع باب دار (أبي حاتم) فخرجت خادمته لتفتح لهذا الطارق السنوي ولتتناول منه هديته التقليدية (سلة الرمان) . ولكنها في هذه المرة ألقت إليه بخبر خطف منه كل بارقة أمل ، ووقع على مسمعه وقوع الخيبة ، وذلك عندما قالت له : " سيدي أبو حاتم مسافر" . ومتى يرجع ؟ لا أدري ...
كتم أبو قدور أنفاسه التي أخذت تتصعد حارقة .. وكتم أبو قدور لواعج المرارة والألم الممض إثر هذه الخيبة غير المنتظرة .. وقال للخادم : " على كل فأنا غداً سأعود " .
وكان المساء قد حل ثقيلاً مكرباً ، وقد مهد لحلوله بصفير من ريح قارصة هي من نذر الشتاء الذي أخذ يدق الأبواب . فهام أبو قدور على وجهه .. أين يبيت ليلته ؟ أين يأكل وكيف السبيل إلى الطعام؟.. لقد أضناه التعب ، وهده المسير، إنه لا يملك شيئاً من نقود ، ولفافاته قد نفدت .. إذن كيف يقتل ليله ؟ ويصرف همه ؟ وينفث غمه ؟ ها هو ذا يرتعد برداً ، وها هو ذا يتكور على نفسه في محاولة منه يائسة لمدافعة عصف الريح ولسعها ، ولكن هيهات أن تدفع تلك المحاولات كلها شيئاً ... وصاح المؤذن " الله أكبر" داعياً للصلاة فولج أقرب مسجد . وبعد أدائه لصلاة العشاء تخلف عن الخروج ولاذ بأحد أركان المصلى وأسلم نفسه لأحلام مزعجة وسهاد طويل ...
إلا أن أحلامه على إزعاجها ما كانت لتضن عليه بين الحين والآخر بطيف (أبي حاتم) يدنو منه مسلماً ، ويحدثه مرحباً ، ويمد يده إليه باراً ومتكرماً ، ولا يفوته هو أن يهش لمقدم أبي حاتم وأن يقوم له إجلالاً ويمد يده متلقفاً عطاءه ، ولسانه شاكراً حباءه .. ثم لا يلبث أن يستيقظ على صوت نفسه ، ويفيق على حركات يديه ورجليه ، ويستشعر أنه في حلم فيعاود النوم من جديد .. ولكن ليأكل ما لذ وطاب على خوان أبي حاتم في بيته ، وليدخن أعذب اللفائف إلى قلبه ثم لا يلبث أن يصحو على مضغ لسانه أو اصطكاك أسنانه ويحس أنه في حلم ويعاود النوم من جديد .
لقد تطاول عليه الليل ، ولقد برحته الآلام والهموم ، ولكن ها قد سمع صوت المؤذن ينادي " الله أكبر" . واجتمع القوم لصلاة الصبح . وعندئذ تحرك من مكانه وانتصب على أقدامه يسعى للصلاة وفي هذه اللحظة بالذات أتيح للمصلين أن يتبينوا أن المكان كان مشغولاً بآدمي ملفوف على نفسه وليس بكومة من بساط عتيق !
أشرقت الشمس ، وسعى الناس إلى أعمالهم ودبت الحياة في الأسواق والأحياء وحان الوقت لأن يرجع أبو قدور إلى بيت صاحبه يتفقد عودته ومعه حجة استرجاع السلة الفارغة ، وها هو ذا يمشي بخطوات مترددة حائرة ، وها هو ذا يقرع الباب لتخرج الخادم نفسها قائلة له : (لم يرجع سيدي بعد) ويرد عليها طالباً منها السلة الفارغة فتدفع بها إليه ، فيأخذها ويرتد عن الباب لا يلوي على شيء . وخانته أقدامه في المسير، وتخلف عنه عزمه في العودة إلى القرية بعد أن طالت به المخمصة وبعد أن خارت قواه .
يا رب ماذا أصنع ؟ وماذا أفعل فقد خذلني حظي ، وخذلتني عزيمتي ، وخذلتني أوصالي كلها حتى رجلاي .. لم أعد أقوى على المسير، ولم أعد أقوى على تحمل الجوع أو تحمل لؤم البرد الشديد .. وذهب يخاطب نفسه بمثل تلك التساؤلات ، وذهبت به الخواطر كل مذهب وأخيراً اهتدى .. اهتدى إلى منفذ النجاة .
لماذا لا أبيع هذه السلة الفارغة وأدفع ثمنها أجرة طريق لأول سيارة تحملني إلى القرية فأوفر على نفسي مشقة المشي ، وأقع على أي طعام أجده في بيتي ؟!.
إن السلة غالية علي ـ ولا شك ـ وهي عزيزة عندي كعزتها عند أم قدور، وإن لي معها ذكريات دروب لا أنساها .. ولكن ما حيلتي ؟!.
إن ثمنها في المدينة هو ضعف ثمنها في القرية على أي حال ، إن ثمنها يعادل ليرتين على الأقل .. وكان آنئذ قد وصل السوق .
أخذ يتفرس في وجوه القوم من باعة وخضرية ثم توجه إلى من توسم أنه أنبل القوم أصلاً ، وأسخاهم يداً وابتدره قائلاً : أتشتري هذه السلة يا أخ ؟
ـ نعم أشتريها .
ـ كم تدفع ثمنها ؟
ـ كم تريد أنت ؟
ـ (على وجدانك).
وكان لابد وقد غدت القضية قضية (وجدان) من أن يفكر المشتري ملياً بالسعر قبل أن يحدده . فأمسك بالسلة وأخذ يقلبها على وجوهها وينظر إليها من أسفل وينظر إليها من أعلى ، ويحس مقاومتها ، ويسأل عن تاريخ صنعها .. وأخيراً وبعد طول تقدير وتفكير مد يده إلى درجه دون تردد وأعطاه تسع فرنكات عداً ونقداً وأتبعها يقول له : "مسامح فأنت رجل فقير".
فانتفض أبو قدور كمن لسعته عقرب ثم اعتراه الذهول فجأة فتسمر في مكانه ، فعقد لسانه وجحظت عيناه ـ على رخاوتهما ـ وهما تحملقان في وجه صاحب " الوجدان الكبير". إلا أنه لم يطل به الوقوف فبادر إلى رد الفرنكات التسع لصاحب " الوجدان " ثم انتزع السلة من بين يديه ، وأدار ظهره محنقاً في يأس ، غاضباً في قنوط ، وهو يردد بصوت خافت : " مسامح فأنت رجل فقير.." " مسامح فأنت رجل فقير" !. قاتله الله أيظنني سارقاً لها أم يظنني مصروعاً مخبولاً ؟!. أهذا هو النبل الذي توسمته ؟ أهذي هي السماحة التي تخيلتها ؟
ولم يبتعد بضع خطوات حتى سمع من روائه صوتاً يناديه : يا عم .. يا عم . فالتفت فإذا برجل واقف في باب دكانه يشير إليه : " تفضل ..! تفضل استريح " وشرح يلحف عليه " بالتفضيل " وبالدخول للاستراحة . وبعد قليل من التردد والحيرة دخل وإذا به في دكان حلاق يقع في مواجهة دكان صاحبه الخضري صاحب " الوجدان " فأدرك أبو قدور للحال أن الحلاق كان على علم بالصفقة الفاشلة مما زاده اطمئناناً واستئناساً بالرجل إلى أنه رثى لحاله وأشفق على سنه ورغب في أن يجبر انكساره ويطيب خاطره بشكل ما !.
وما إن جلس حتى شرع الحلاق ـ كأي حلاق ـ يسأله عن الصحة والعافية والأولاد والأحفاد والأسباط والأصهار.. ومن أي ضيعة هو ؟ وما شأنه ؟ ثم ما هي قصة سلته ؟ وشرع أبو قدور ـ على إعيائه ـ يجيبه على أسئلته ويقص عليه قصة وفوده إلى المدينة من أولها إلى آخرها بنفس لاهث وعبارات متقطعة بينما كان الحلاق يبدي كثيراً من التأثر ومزيداً من التألم والتحرق لما يسمع .
وساد بينهما فترة من الصمت أتاحت لأبي قدور أن يجيل الطرف فيما حوله من حيطان الدكان ـ وحيطان الحلاقين غالباً ما تثير فضول النظر ـ وأتاحت له أن يمتحن قوة بصره الخافت في تفحص ما علق على تلك الحيطان من رسوم وكتابات و" جلالات ".. وأتاحت له أن يمتحن مقدرته على " فك " بعض تلك الحروف عن بعضها لفهم ما تعنيه .
ودونما قصد علق بصره الضعيف على لوحة جميلة الأحرف بهية المنظر. وبعد جهد قرأها فإذا هي تقول : " القناعة كنز لا يفنى " ثم التفت إلى جدار آخر فقرأ عليه " من راقب الناس مات هماً " وقرأ على جدار آخر " اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب " وقرأ إلى جانبها أيضاً " يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف " ... ثم سمع بعد ذلك يردد في سره : الله .. الله ما أحسن اختيار الرجل لهذه الحكم .. وما أعظم دلالتها على نفسه وأخلاقه . فهو قنوع ولا شك وهو كريم سخي لا يهمه أن يصرف كل ما يأتيه في يومه دون أن يحسب حساب حساباً لغده (وهو زاهد بما في أيدي الناس) وهو إنسان يخاف الله ويخشاه . بارك الله فيه وكثر من أمثاله . ثم سمع يقول : الله الله .. لقد صدق الذين قالوا : (إذا خلت خربت) .
وبينما هو كذلك إذا بصاحبه الجديد يدعوه لأن يجلس على كرسي الحلاقة ، فأبى فألح عليه ، فأبى كذلك ، ولكن الحلاق أغراه بالجلوس قائلاً : أنظر إلى وجهك في المرآة يا عم وانظر إلى رأسك إنك بأشد الحاجة للحلاقة .. قم واجلس " ولا يهمك ". وبدافع الإلحاح ، وبدافع الإغراء ، قام من مكانه وأجلس نفسه على الكرسي وهو يتمتم : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وما هي إلا لحظات حتى قيل له " نعيماً "، فأجاب : " الله ينعم عليك "، وعاد إلى حيث كان من الدكان وأحس الآن بأن مهمة جلوسه قد انتهت ، وأشعرته قرصات معدته ، وأوصاب مفاصله بأن عليه أن يتدبر أمره ويعود سريعاً وبأي شكل إلى قريته . فهم بالخروج فانتصب الحلاق في وجهه مستوقفاً قائلاً إلى أين ؟ فأجابه على الفور: أسعى في أمري ، دعني أرجوك .. وأنا ممنون منك جداً وشاكر فضلك ومعروفك وإنسانيتك جلست عندك ما يكفي ، وها أنا قد حلقت وقد استرحت وقد ... فقاطعه الحلاق قائلاً : لا .. لا ليس هذا ما أعنيه !. أين الأجرة؟.
وأسقط في يدي أبي قدور وصعق ، ولم يعد يدري ماذا يقول !.. وأخذ يجمجم : الأجرة ؟ الأجرة . ثم جهر: أجرة ماذا يا أخي ؟ فقال الحلاق أجرة ما قصصت لك من شعرك !.. وترقرقت دمعتان باردتان في عيني أبي قدور، وجمد في مكانه ، وأحس في رأسه بدوار عجيب .. ثم انفرجت شفتاه الناشفتان ، وانطلق لسانه الجاف الضئيل المتلعثم ليقول : أما قصصت عليك قصتي يا هذا ؟ أما عرضت عليك مصيبتي يا اخي ؟ أو ما علمت منها أني منقطع في الطريق ، وأني ابن سبيل ؟ أهكذا تذل شيبتي ؟.. وابتدره الحلاق قائلاً : أنا لست صعباً ولست استغلالياً إلى هذا الحد الذي تتصور يا عم ، فإن لم يكن معك نقود فالسلة .
السلة ؟ السلة ؟ نعم السلة ويكفيني ، والتفت حالاً إلى أجيره قائلاً : قم " يا حمدو" وخذ من عمك السلة وأوصلها إلى البيت . وقام " حمدو" لينفذ الأمر فوراً ...
وأفلتت السلة من يدي أبي قدور قبل أن ينتزعها الصبي . ومضى الصبي إلى بيت معلمه يحمل الفريسة الباردة ، ومضى أبو قدور يقتلع أقدامه هائماً ذاهلاً يتحسس الطريق إلى القرية .
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979