الوحش الطيب

زبيدة هرماس

أحب أن أنتقل من هذا القسم، أستاذ العلوم سيجعلني مجنونة يا عزيزتي.

- كفي يا ليلى، أسنانه صفراء وعينه اليسرى حولاء، حركاته تقرفني، أرجو أن تهتمي بدراستك، ما الذي حدث لك؟.

- سميرة يا غاليتي، هذا رأيك أنت، أنا أبوح لك بأسراري حتى تساعديني، هل تقبلين أن تخبريه بحبي له؟ لا أستطيع أنا أن أفعل ذلك، إنني أغبط زوجته.

- وماذا عن زوجته يا سميرة؟ نصيبك رجل آخر، لا بد أن تضبطي نفسك، وتبتعدي عن حلول المسلسلات، إنها مجرد مشاكل مفتعلة على الشاشة، صدقيني.

- ليتني كنت في مسلسل يا صديقتي العزيزة وأنتهي من هذه المعاناة بعد أداء المشهد الأخير، ما زلت أحتفظ بحبة لوز ناولنيها أثناء الدرس حين كنت أنظر إليه بإعجاب وهو يقضمه في السنة الماضية، ظن أنني جائعة، يا إلهي كيف أجعله يشعر بعذابي؟

أطرقت ليلى رأسها قليلاً ثم قالت بنبرة حزينة:

- أصغي إلي جيداً يا سميرة، سأجعل نفسي في حصته كأنني مغمى علي، حين سيقترب مني سأعانقه، أحب أن أهمس له بحبي.

- يا للخيبة يا ليلى، لا أدري متى تنتهين من هذا الموضوع السخيف، أتمنى أن تحترمي..

قاطعتها سميرة:

- عزيزتي، أظن أنني غنية عن نصائحك هذه المرة، وسأخوض مغامرتي وحدي.

بعد يومين كان الأستاذ ببذلته البيضاء يرسم مسار الدورة الدموية على السبورة، إذ سمع صياحاً وجلبة، التفت فإذا ليلى ملقاة على الأرض وشعرها مسترسل تطأه أحذية الفتيات الحائرات أمام المشهد الحزين، صرخت إحداهن حين ظنت أنها فارقت الحياة، بعد وقت وجيز حضر أستاذ في القاعة المجاورة حين سمع جلبة الفتيات، نادى على أعضاء الإدارة الذين هاتفوا والدها لاصطحابها إلى أقرب مستشفى، لم يكن بوسعها فتح عينيها مباشرة لتمييز أستاذ العلوم ومعانقته كما كانت تخطط، فشعرت أن خطتها فشلت بينما انصرف هو لإكمال الحصة الدراسية.

قامت ليلى وهي تتظاهر بالتعب معتذرة بعدما حضر والدها الذي أصر على مرافقتها وقال:

- ليلى يا بنيتي، ما الذي ألم بك؟

- هل أبدو شاحبة يا أبي؟ لم أتناول فطوري اليوم في الموعد.

فتح باب السيارة وأصعد ابنته برفق وشغل المذياع، فإذا بأغنية غرامية كلها ولع وعذاب زادت من لوعة ليلى واحتراقها فأجهشت باكية.

احتاجت إلى ثلاثة أيام للراحة زارتها خلالها أستاذة التربية الإسلامية ومعها كتيب صغير بالأزرق والأخضر عنوانه: "إلهي.. هاك قلبي" وبعض الأشرطة والأقراص الدينية فقالت لها ليلى:

- أستاذتي العزيزة. أشكرك على زيارتك لي، ولكنني أطلب منك أن تصحبيني إلى بيت أستاذ العلوم لأعتذر عما حدث لي أثناء حصته.

- لا بأس يا بنيتي، لا تهتمي كثيراً وسأنوب عنك في ذلك، اهتمي بصحتك أولاً، أتمنى لك الشفاء العاجل.

- رافقتك السلامة.. أشكرك.

محاولة انتحار

انطوت ليلى على نفسها كأنها حلزون صغير، وذرفت دمعاً وهي تستحضر صورة أستاذها الذي وقعت في حبه حتى الجنون، بدأت كل الفتيات يلامسن حقيقة هواها، ويتحدثن عن هذا الذي شغفها حباً وهن يسخرن منها، ما زاد من عذاباتها ومعاناتها فقررت مغادرة المدرسة إلى مدرسة أخرى، إلا أن شعورها المجنون لم يفارقها وأطلقت له العنان، فأصبحت تختفي قرب باب الثانوية لترى أستاذها القديم وهو داخل في الصباح يتأبط بجد كراسته ويحرك نظارته السوداء وهو يلقي التحية، وفي أحد الأيام أقبلت نحوه وقالت:

- أستاذي العزيز، هل تذكرني؟ أنا درست عندك ثلاث سنوات.

- نعم.. نعم.. إنني أذكرك جيداً، ربما غادرت مؤسستنا.

- أجل هذا ما حدث بالضبط، أما علمت أنني قمت مؤخراً بمحاولة انتحار؟ ألم تخبرك صديقتي سميرة؟

- يا إلهي! انتحار؟ أنت ما زلت صغيرة وأمامك الكثير من...

- من ماذا؟.. ساعدني أرجوك.

- من السعادة والحبور والبهجة.. اعذريني الآن يا ليلى.. الحصة ستبدأ.. اتصلي بي لاحقاً، هذه بطاقتي.

تلقفت البطاقة وتجدد أملها، شعرت أنها حصلت على صك الدخول إلى السعادة من أوسع الأبواب، قبلتها بحرارة ثم دستها في جيبها وبدأت تتحسسها كل حين، لم تنم باكراً تلك الليلة فأرسلت بريداً الكترونياً تطلب فيه من الأستاذ اللطيف موعداً للزيارة، وافقها فوراً وحدد الوقت بعد أسبوع على الساعة العاشرة صباحاً، ثم أوصى زوجته باستقبالها لإنقاذها من محاولة الانتحار المزعومة.

الاستقبال

وقبل الموعد بساعات أخبرت زميلتها سميرة التي طلبت منها مرافقتها، لبست أحسن الثياب وقصدت البيت وهي تحمل بيدها هدية جميلة، فلطالما انتظرت هذه اللحظة وتاقت إليها، لم تكد تقترب من الباب حتى سمعت صراخاً شديداً ونداءات استغاثة، فوقفت مندهشة دون حراك وهي تمسك بقوة بيد صديقتها، خرج أحد الجيران وهو يردد: "هذا الوحش، لا أدري متى يرحم هذه المرأة؟"

وقفت وهي لا تصدق ما ترى ولا ما تسمع، كان صوت الأواني التي تتكسر مدوياً وممزوجاً بصراخ المرأة التي تستغيث وتولول، وفجأة خرج طفل صغير ينادي على بواب العمارة ليتدارك الأمر، فصعد وهو يضرب كفاً بكف ويقول:

"متى يقلع عن هذه العادة؟ متى يخرج من هذا الجحيم؟"

جذبت سميرة ليلى من يدها ودخلتا وراء البواب وهما تخطوان فوق قطع الأواني المكسرة والأثاث المبعثر، فرأتا ذئباً مفترساً ذا عينين حمراوتين وفم مزبد كأنه بركان، بيده عصا غليظة كأنه سجان من القرون الوسطى، أمامه زوجته ملقاة على الأرض والدم يسيل من وجهها ورأسها، تفرست قليلاً في ملامحه وهي تستحضر نعومته في القسم ولطافته، قالت في نفسها:

"ليس هذا الذي حرمت نومي لأجله، ليس هذا الوديع الذي يجاملنا ويتحبب إلينا ويداعبنا حتى أسر قلبي، لا.. لا.. لا يمكن أن يكون هو.. إنني لا أصدق نفسي".

رمت بهديتها على الأرض ثم التفتت إلى صديقتها وصرخت:

- هيا بنا يا سميرة، لا أحتمل البقاء في هذا المكان، صدقيني لا أحتمل.

دخلت غرفتها وهي تشعر أن الموج العاتي تقاذفها من كل مكان ورمى بها بعيداً، خلعت "جاكيتها" المزركشة واستلقت على سريرها وصراخ المرأة وصورة أستاذها تملآن خيالها، حملت كتيباً صغيراً وقرأت على صفحته الأولى:

"عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي،

يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك ولا أبالي،

يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقُرابها مغفرة".

لم تكد تكمل حتى عاد الأمل إلى قلبها وانتعشت إنابتها وكأنها تكتشف حب الله لأول مرة، كانت بحاجة إلى تلك الكلمات الرقيقة التي هطل لها دمع غزير، ضمت الكتيب وهي تردد بصوت عالٍ:

"إلهي هاك قلبي.. إلهي هاك قلبي.. سأستودعك أحاسيسي وأنا مطمئنة.. لن تتركني هكذا حائرة معذبة.. لا تعاقبني لأنني استأمنت غيرك على قلبي.. أنت أودعت في هذه المشاعر فاصرفها حيث تشاء".

ظلت ترددها وهي تعكف على قراءة الكتيب سطراً سطراً

مضت عشرة أيام تعالج فيها مشاعرها بنفسها خطوة خطوة حتى اجتازت محنتها..

وبعد سنتين تقدم مهدي ابن عمتها لخطبتها، وهو مدرس في قرية نائية على سفوح جبال الأطلس، قررت أن توافق وتصحبه إلى بيئة بدوية تماماً، إنها سعيدة بذلك كل السعادة، وفي يوم زفافها حضرت سميرة رفقة أستاذ العلوم وزوجته وهمست في أذنها:

"بارك الله لكما وجمع بينكما في خير".

اندهشت ليلى لحضورهما وقالت لسميرة وهي مقطبة الجبين:

- هذا الوحش، ماذا يفعل هنا؟ من أخبره بزفافي؟ كيف استمر حتى هذا الوقت مع تلك الضحية المسكينة؟

ضحكت صديقتها وقالت:

- هذا يوم فرحك ولا يصلح بك أن تقطبي حاجبيك بهذا الشكل.. ما حدث كان مجرد مسرحية يا عزيزتي!.. ساعدناك جميعاً حتى تعطي قلبك لغير الوحش الطيب، ولا تقيمي سعادتك على شقاء الآخرين.. مبارك زفافك أيتها العاشقة الساذجة!