سوق الحرامية
سوق الحرامية
بقلم: م.خليل الشيخة
ترك البضائع المعروضة في السوق بفوضوية واتجه إلى قفص صنع من الخيزران . وراح يتأمل الطائر الملون بداخله ذا الرأس البرتقالي والجناحين الصفراويين والعنق الأخضر . راق له المخلوق الدقيق ، فراح يخطو إلى الوراء مضيقا عينيه ليلتقط نظرة صافية مركزة . ثم تقدم وهو يميل برأسه لتكون الرؤية أكثر وضوحا. إلا أنه سمع صوت عجوز حازم ، واضح يطغى على حلبة السوق :
- ألف ليرة . . بلبل هندي .
انتصب بقامته وهو يرنو إلى مصدر الصوت فاستغرب كيف يأتي الصوت قويا من عجوز شارفت على أبواب الموت. وشده جمال البلبل الخيالي فأخذ يعوج مرة أخرى ويشبع جوعه الروحي المتكاثر إلى الطير الحبيس .
يجتمع السوق في كل يوم خميس وجمعة . يأتي الناس من كل حدب وصوب ، خليطا من الباعة والشارين . وربما تتكون معظم المبيعات من المسروقات بعد أن تتموه بالطلي بلون يضلل صاحبها . ولذلك كثرت الدراجات وأثاثات البيوت وبضائع لا تخطر على بال . وقد يتعرف البعض على بضائعه المسروقة ، فينشب شجار حاد يقوم فيه السوق ولا يقعد . في الشتاء تغمر المياه معظم السوق فيتحول إلى مستنقع يأهل بجميع أنواع الجراثيم والبعوض والحشرات . وفي الربيع تخف المياه فتنبت الحشائش القصيرة على الأطراف . وما إن يحل الصيف حتى يفتح السوق زراعيه لجميع فئات الناس من لصوص وتجار أغنام ومهربين ، ثم يقوم كل بائع بتنظيف مساحة ثلاث أمتار من الحجارة والحصى وتنكات الصفيح كان قد ألقاها الصبية في الشتاء لغاية اللهو . وتعود معالم الدرب ترتسم بخطوات الوافدين في منتصف الساحة.
يلجأ البعض إلى تبليل خرق بالماء ووضعها على رؤوسهم في النهارات الحارة بغية تخفيف صهد الشمس . على حين ينصب الأكثر حظا مظلات مؤلفة من أغطية الأسرة يثبتوها على عوارض خشبية غالبا ما تكون معوجة .
في ساعات الظهيرة ينقلب سلوك الباعة إلى خمول وإهمال ، فمنهم من يتساهل في البيع لأن الحر قد امتص معظم قوته ومنهم من لا يناقش ولا يرد حين لا يعجبه شكل الزبون أو قد يستغل البعض ساعات الحر وقلة الشارين فينقلب على قفاه ويغرق في قيلولة الظهيرة . ومن فترة لأخرى تداهم الشرطة السوق للبحث عن لص أو مهرب فتتطاير البصطات وتتبعثر الحاجات ويعلن السوق عن جنونه فيعم الساحة غبارا كثيفا يستقر فيما بعد على وجوه الذين لم يهربوا وغالبا ما يكونون من كبار السن .
لم يغب (إبراهيم طافش ) عن المجيء إلى السوق فقد أتى المرة الماضية مصطحبا معه بغلا باعه بخسارة لكبره في السن . كان السوق مكتظا أكثر من ذي قبل فشعر بضيق في صدره وهو يتنفس الهواء المخلوط برائحة الدواب وعفونة البضائع . ومر رجل يجر وراءه ثلاثة رؤوس من الغنم سببت حوافرها غبارا وصل لوجه إبراهيم جعله يهز يده منزعجا. وارتبك الطائر وجعل يتطاير في القفص ، مما اتاح له أن يسأل العجوز :
- وكيف عرفتي أنه هندي ؟ ترددت العجوز بالجواب ثم وضعت يدها على صدرها وقالت بصورة رثائية :
- الله يشهد على كلامي ، فإني اشتريته لأبني الوحيد من رجل أتى به من الهند ، هو تاجر شاي وبلابل . فقاطعها وهو يمد إصبعه من خلال القفص يداعب البلبل :
- قلت أنه تاجر شاي وبلابل . . سبحان الخالق . . يد صنعت فأبدعت.
توقف رجل يصطحب طفلته قرب القفص وبعد أن ألقى نظرة سريعة حاول متابعة المسير . رفضت الطفلة الانصياع للأمر مفضلة النظر إلى الطائر ومعلنة عن رفضها بالبكاء . شاهد إبراهيم من خلال الصغيرة الباكية طفلتة النحيلة وثيابها الرثة ، فقال مواسيا الرجل :
- اتركها تتفرج . . الفرجة بالمجان يا رجل .
تابع إبراهيم مشواره بالسوق فتوقف عند رجل يرتدي ثيابا ريفية يضع أمامه سلة سمك فألقى نظرة فضول إليها ، وأندفعت الرائحة قوية إلى أنفه فتخيل أنه يجلس أمام سفرة مليئة بالسمك المقلي ، وهكذا فقد سرت نشوة بداخله وامتلأ فمه من اللعاب . وفي سيره شاهد بائع فطائر ، ففعلت تلك الحلوة معه ذات الشيء الذي فعله السمك . فسأل بصوت غير حماسي :
-كم سعر الفطيرة يا أخ ؟
- خمس ليرات .
تردد قبل أن يمد يده إلى جيبه ويشتري واحدة . وبعد أن أجرى حسابات ذهنية سريعة قرر أن يمضي دون أن يتلذذ بفطيرة واحدة . وظلت فكرة واحدة تدور في رأسه وهي أن يرجع إلى الطائر . فتوقف يروزه بتأن ، أعماه جمال البلبل فأعطى فكرة شرائه جدية بالغة فالنقود التي في جيبه هي مصروف أسبوع لعائلته .وما إن تعمق في هذه الرغبة حتى وجد نفسه مستسلما تماما. ولم يدري إلا ويده تسلم النقود إلى البائعة الواجمة.
حمل القفص إلى مستوى نظره ومشى بخطى وئيدة، فهذه اللحظات تعد من أنقى أوقات حياته الطافحة بكبت رغباته التي في مجملها تتمحور في شح النقود لديه. وما إن وجد صخرة حتى جلس عليها واضعا القفص أمامه يتأمل ما بداخله ، وطرد من رأسه تصوراته حول استقبال زوجته له غاضبة، وشاتمة لما فعل من هدر مصروف أسبوع من أجل طير لا ينفع شيئا.
ومر من أمامه رجل سمين توقف بجانب القفص ينظر بدهشة وحنق، ثم سأل بنبرة جافة :
- من أين أتيت بهذا البلبل ؟
- ليس مهما من أين اتيت به … أنه ليس للبيع .
- هذا الطائر لي .. سرق من بيتي الأسبوع الماضي .. ولابد أنك السارق .
- أذهب في طريقك يا أخ . . فقد اشتريته من تلك العجوز _ وأشار إلى ناحيتها فلم يجد لها أثرا . فتابع دون اكتراث :
- كانت هناك منذ لحظات . فرد الرجل السمين وهو يلوح بسبابته :
- أنت تكذب ، تتحجج كي تموه سرقتك، هيا تعال معي إلى الشرطة .
وقف إبراهيم ولوح بيده اليمنى في وجه الرجل :
- قلت لك اغرب عن وجهي وإلا مسحت بك الأرض .
ثم أمسك بيد الرجل وقال له وهو يشده :
- تعال معي وأنا أريك البائعة.
وبعد أن دار السوق ، كتب لإبراهيم الفشل في العثور على العجوز، فتوقف في منتصف السوق واضعا القفص جانبا وعلق يديه في خصره وأراح جسمه ثم قال بصوت مرتخ وغاضب :
- والآن ماذا تريد ؟ فعبر الرجل السمين عن ضيق صدره وعدم تقبله للجدل وطول البال بأن أمسك إبراهيم من تلابيبه وهزه مرات وهو يقول :
- قلت لك أن هذا البلبل لي . . أخرج من أبواب النصب والإحتيال .
في تلك اللحظة حاول الرجل الذي يصطحب الطفلة أن يتدخل في حل الخلاف بينما راحت الطفلة تعبث في القفص وهي تلاعب الطائر السجين .
تلاحم الرجلان وغدت الكلمات غير مفهومة لأنها شحنت بجنون الطرفين، ونتيجة لذلك تلقى إبراهيم دفعة إلى الوراء تعثر من خلالها بالقفص ثم انهار مخلفا وراءه الغبار المتطاير.
وما أن استعاد توازنه على الأرض حتى بدأت معركة حامية الوطيس ، إلا أن القفص الذي تدحرج مثل كرة كان خاليا من البلبل البديع لأن الباب كان مفتوحا ولا أحد يدري إذا فتح الباب من شدة تدحرجه أم لأن الطفلة قد فتحته وتركت البلبل يتنفس حريته بطلاقة.