المشاهد لا تنتهي

فاطمة أديب الصالح

المشاهد لا تنتهي

فاطمة أديب الصالح

[email protected]

المشهد مجهول الترتيب

نزل عن حصانه برشاقة لا تناسب عمره، ربت عنق الحصان بحنان .. مرر أصابعه بين خصلات شعر العنق الجميل الممدود..  اقترب منه ووضع عليه قبلة طويلة هادئة.. ثم، ودون سابق إنذار، عاد إلى الوراء خطوات.. وضرب الحصان على مؤخرته ضربة قوية.. فعدا ورمح بعيداً.. ليغيب عن الأنظار. التفت إلى امرأة كانت تقف قريباً منه، تبدو أنيقة جداً، في بساطة وثقة وكأنها تريد أن توحي إليك أن مظهرها هو آخر ما تفكر فيه.

جميلة وأنيقة، وفي عينيها بريق الثقة بالنفس والجرأة.. مدت إليه ذراعها فتأبطها بجذل، ومشت بخطوات ثابتة كأنها تقوده.. لم تعترض حين ألقى بذراعه على كتفيها.. إذ بدا لها عجوزاً فجأة.

كلما سارا أكثر كانت تحس بثقل ذراعه وحرارتها على كتفيها، كان الطريق أمامهما صحراوياً متشابهاً، لكن فيه درباً عبدته أقدام كثيرة سبقتهما..بدا الاثنان متفاهمين، ومع كل خطوة يخطوانها كان ينبعث خلفهما ضباب أزرق كدخان دون رائحة.. يلاحقهما ويخفي المعالم خلفهما.. ربما كانا يشعران بالوحدة، لكن دون قلق، حتى الصرخاتُ القليلة التي كانت تصل سمعهما دالة على فزع أو نزع أو قهر.. لم تكن لتوقفهما إلا لثوان.. إن مصدرها أفق بعيد.. يصعب الوصول إليه.

لابد من الوصول إلى الدار المنشودة .

ربتت كرشه المهتز قليلاً بفعل المشي الجاد:

_كيف تمكنت من صنعه في سني الغربة؟

ابتسم ابتسامة رضىً عريضة، وهو يمسح عليه بباطن كفه: الإخوان كانوا في غاية الكرم.. قدروا كل جهودي، تنهد ثم تابع: قفزت على حواجز، بعضها كان مشتعلاً، زحفت وقارعت، استجديت وبكيت، احتضنت كل من ظننته يفكر في مساعدتي، رغم أن بعض الروائح كانت منتنة.. جربت كل شيء، و كان لا بد أن أرتاح أخيراً.. لابد من العودة ولو وحيداً..

قالت بثقة باردة: لست وحدك .

"لكنه يحلم وحده، أن يصل فيخلع لباسه العسكري، ليرتدي ثوباً فضفاضاً نظيفاً، معطراً بطيب صنعه الوطن.. لن يبالي بعد، إنه متعب جداً.. ولا أحد يريد أن يفهم، حتى لو قالوا أنه فقد كل شيء، وأنه لم يحقق سوى المرارة والدهشة له ولأهله وناسه الذين ظنوا أن غربته في كل مكان ستثمر من أجلهم، الذين قدموا له كل شيء حين قال سأعيد لكم كل شيء، ولكن منذا يستطيع أن يعيد كل ما ضاع ؟ ألا يكفيه أنه حاول، ودفع الثمن شباباً وأحلاماً.. حقاً آن له أن يعود ولو بكفين خاليتين، ولن يخشى أحداً بعد.. ليظنوا ما شاؤوا، فهو يريد الراحة مع امرأة اختارته.. فاختارها.

عندما يصل سيخلع هذا الحذاء الضخم الذي كاد يأكل من قدميه، سيأمرها.. يعني سيطلب منها أن تملأ طستاً بالماء الساخن، وتأتي به إلى غرفة نومهما:

_ألست تسمينني جدك الصغير؟ فلنكن مثل جدي وجدتي مرة واحدة، أضيفي إلى الماء ملحاً .. سأضع قدميّ فيه، وتدلكينهما أنت بأصابعك اللطيفة .

"ربما تعجبت، لكنها ستفعل، أصبح يعرفها إلى حد أن يتوقع منها تلبية رغباته الصغيرة، حتى لو فاجأتها "

_مالك تتباطأ؟

_ أنا في قمة نشاطي ولهفتي للوصول .

_فور وصولنا سنتخلص من لباسك العسكري هذا، سنحرقه .

_لا، سأحتفظ به .

مطت شفتيها: إنه ينشر رائحة كريهة، لابد من غسله مرات ..

" سيتمسك برأيه هذه المرة "

_لا لن أغسله، إما أن نعتاد رائحته، أو أن تتلاشى مع الوقت!

_وأين سنحتفظ به؟

_سأخصص غرفة لملابسي العتيقة، لسلاحي وأوراقي الصفر، لقصاصات الصحف والصور التي تراكمت.. وتحمل نكهة حياتي التي مضت .

_ كل هذا ماض، شيء مضى.. أنا أحب المستقبل .

وشمخت بأنف دقيق لم يألف الهواء الحار .

_ بالطبع، أنت المستقبل وأنا الماضي الذي يريد أن ينسى نفسه معك.

_وكيف نعيش معاً ؟

_أنت تجيبين على هذا السؤال .

_لابد من وجود صيغة تضمن استمرارنا معاً.

نظر إلى الأمام وهو يحس وقع نظراتها الشابة القوية على جانب وجهه المترهل.. على عينه المتعبة، على فردة شاربه الذي يكاد يلامس طرف شفته السفلى الغليظة..

استمرا في السير في صمت.. لا شيء يعيق سيرهما سوى هبات من الهواء.. تحمل ذرات من الرمل فتلسع جلدهما أحياناً.

تسوي هي شعرها يتمرير أصابعها فيه من الجبهة إلى قمة الرأس ،برشاقة وعفوية.. ويسوي هو شاربه باعتزاز.. دون أن ينتزع ذراعه من ذراعها.

* * * * *

المشهد (بعد يومين)

أمام بوابة الدار الكبيرة الساكنة.. تزينها النباتات المتسلقة، وتعرش في شرفاتها البيض.. وحيث استقبلا في اليوم السابق بالزهور والحجارة.. وجدا جثة شابة باهرة الجمال، ذات سمت قوي وجليل.. لم تختف بعد علامات حزن قاهر عن قسماتها.. كان الجسد دافئاً وطرياً، وكأنها لفظت أنفاسها هذه اللحظة..لم يذعرا..

_من هذه ؟

_تسمعين بعادات بلادنا وتقاليد عائلاتنا، سمَّوها لي وسمَّوني لها مع مطالع الصبا..

_ربما اتهمت بقتلها .

_مستحيل، كنا نعتبر حبيبين .

_ألا يحدث أن يقتل حبيب حبيبه؟

_لابد من دوافع.

_اليأس من اللقاء مثلاً.

_يأسُ مَن فينا ؟

_لعلها يئست من لقائك فانتحرت أمام دارنا.

_هذه لا تنتحر.. ماتت غماً.

_لازلت تفكر فيها .. تحبها؟

_لم يعد هذا مهماً الآن .

_أما تزوجت وقد غبتَ عنها هذا العمر؟

_ بلى.. أحد أولادها رمانا بالحجارة أمس، بعضهم مدّ لنا لسانه.

_ما كان أعنفهم وأقل تهذيبهم.

_بدا فيهم عنفوان الأم .

ضربت الأرض بقدمها: تريد إغاظتي ؟

_أنا عاجز حتى عن هذا.

_ ماذا سنفعل بجثتها؟

_كم هو تعبير ثقيل: جثتها..

قالت بلهجة مسرحية ساخرة: ماذا سنفعل بجسد الجميلة النائمة ؟

أتاها صوته من بعيد، من أعماقه التي شاخت ربع قرن آخر:

_سندفنها أنت وأنا في غرفة الذكريات.. تلك التي خصصناها لكل عتيق.

_مادمت ستدفنها في بيتي، فهي لم تمت .

داهمتهما فجأة رياح باردة هوج.. تساقطت أوراق صفر، وخشخشت أوراق أخرى بقوة.. صانعة حولهما دوامة.. لملمت ثوبها حولها لتحتمي .

_برد فظيع.. أسرع، أحس رياحاً قوية قادمة..

قال وهو يلف حول جسمة ثوباً يبدو أكبر من حجمه، وكأنه يخشى أن ينتزعه الهواء:

_قد تكون ريحاً صرصراً، هيا ساعديني ..
أمسك بالجسد المستلقي أمامه في مهابة من تحت الذراعين.. هوذا يلمسه.. لم يكن أقرب إليها يوماً منه الآن..ارتعش وأحس بأنه يشتعل، وكأن دماءه تتراكض في عروقه مذعورة، ثم تتجمع كلها في القبضتين والأصابع العشر والأنامل، وتكاد تتفجر من تحت الأظافر: "هل تزلزل الأرض تحت أقدامهما ؟ "

جرّ الجسد إلى الداخل والمرأة تمشي أمامه، تفتح الأبواب وتزيل ما يعترضه.

* * * * *

المشهد قبل الأخير

في الغرفة المعتمة التي استودعت الذكريات والغبار والبرودة، أمسك بمعول و بدأ يحفر:

_هل ستبقَين هنا ؟

_ سأساعدك حتى تخفيها تماماً.

* * * * *

مشهد قد لا يكون الأخير

( رجل شرطة يحرر محضراً، وقد اجتمع حوله الجيران )

_لقد شاهدتها، أقسم بالله! بعد منتصف الليل، تخترق الجدران والنوافذ، في ثوب أحمر يكاد يشتعل على جسدها الجميل، تهمس فيتردد صدى همسها واضحاً في أذني: أين تذهبان مني ؟

_أما أنا فأسمع زعيق المرأة الغريبة، وصيحات رعب وصفق أبواب ونوافذ، حتى جارنا يبدو فزعاً وهو  يهدئها.

_اسمعوني أنا.. لقد رأيته الليلة يغادر الدار كالهارب، نصف عار ( ضحك المتحدث) وهو يصيح: اتركيني! لا أستطيع .. لن أستطيع بعد، اتركيني! عودي إلى قبرك .

علقت امرأة مليحة ذات نظرة قوية،كانت تهز رأسها بالموافقة طول الوقت:

_لقد شاهدتها تغادر الدار فجر أمس، وهي تلوّح لهما مهددة.

سأل جار: ها ستقفل المحضر قبل أن نعرف الحقيقة حضرة الشرطي ؟

 أجاب الشرطي بصوت رسميّ:

- طبعا لا.. يجب أن نجد الرجل أيضاً، لقد اختفى..