عربة الزمن

عربة الزمن *

أيوب المزين

[email protected]

خرج الدكتور علي الأيوبي من معمله في الأكاديمية الإسلامية بفاس محترق اللحية, مسود الوجه والهندام, وهو يصرخ في جموع الأدباء والفلاسفة, السياسيين ورجال الدين: وجدت الخلاص.., أكملت الاختراع.

التف حوله رفاقه وسؤالهم على شفاههم: عن أي خلاص تتحدث!؟, فقد احتلت الصهيونية كل أراضينا, لم يبق لنا غير القاهرة وفاس, مكة والمدينة.

دنى الفيلسوف عابد صاحب الشوارب المقوسة من المخترع ثم أخرجه من بين الأدمغة الحاضرة هامساً في أذنه في تهكم يعكس خيبة أمله: ما اختراعك يا صاحبي؟ هل استطعت إدخال الجمل في ثقب الإبرة؟ أم أنك " انتزعت السفود من الصوف المبلولة" بسهولة؟ و إلا فقد أصابتك أم ملدم فارتفعت حرارتك ولتعد تعي ما تقوله.

أجابه علي وعلى وجهه علامات أسى ممزوجة ببسمة طفيفة: إني في كامل وعيي, واختراعي عبارة عن سيارة خارقة, عربة زمن تمكننا من الانتقال عبر السنوات, تجيز لنا السفر إلى مستقبل مفعم بالعزة والكرامة دون جواز سفر ولا تأشيرة مغادرة.

شرد فكر الفيلسوف ثم تمتم بكلمات مبعثرة: نهرب!..., الحقيقة !, الزمن ! الخوف ! الشجاعة ! التاريخ !.

كانت خزانة المسلمين المكتظة بإنجازات عظيمة لا تزال راسخة بذهنه.

تبادل الصديقان إشارة حسية انعكست على وجههما في ملامح تختزن جبن الانسان المسلم في هذا الآن, بل يظهر لك العجب وأنت تسمع المتنبي يقول:

عش عزيزاً أو مت وأنت كريم        بين طعن القنا وخفق البنود

ثم تعود لتحاول أن تصدق أن القائل الأول له نفس ثوابت الثاني الذي يقول:

الشجاعة تقتضي الهرب والفروسية هي أن لا تركب الحصان ولا تدخل الحرب.

على كل حال, فقد انصهرت كل الشعارات السامية في نار الخوف فأعطت الفرار.

ولج الفيلسوف عابد العربة ومعه رجل دين وطفل صغير وهم يقرؤون سورة الفاتحة. كانوا أول المجربين. ضغط علي أزراراً متعددة حتى أغلق الباب ثم أدار بعض المفاتيح المرتبطة بمولدات كهربائية فانبعثت أشعة بنية اللون من الداخل صحبتها أتربة اندفعت من بين ثقوب العربة, كان الأمر كما لو أن الأشخاص هناك يموتون لكي يحيوا في سنة 2205م أي بعد مرور مئة سنة.

كانت المشكلة في كيفية العودة من المستقبل إلى الماضي, لم يكن علي قد توصل إلى معرفتها, لكن هذا لا يهم, المهم هو مغادرة الواقع المر.

لم أحرم نفسي من خوض هاته التجربة, فما إن قرأت الإعلان الموجه إلى الراغبين في رحلة المستقبل حتى وجدت نفسي داخل العربة وإلى جانبي ثلاثة أشخاص, لا أعرفهم, الأساس هو أننا كنا أربعة فالآلة لا تستوعب أكثر. كرر المخترع عمليته السابقة, وما هي إلا ثوان معدودة حتى وجدنا أنفسنا في صباح يوم الجمعة 22 شتنبر 2205م على رصيف " إلى القدس".

سألت أحد المارة: أمحطة قطار هذه أم محطة سيارات أجرة؟

رد بسرعة في اغتباط: إنها محطة الحافلات الضوئية.

ناجيت نفسي: ما هذا؟ شخص مغتبط والأمة مشرذمة, زد على ذلك هذه الحافلات الضوئية.

كتمت استغرابي وسألته مرة أخرى: وما سبب اكتظاظ هذا الرصيف دون غيره؟

مرر مخاطبي أصابعه بين شعرات رأسه وقال: من أي كوكب أنت؟ ثم قطع حديثه متأملا في سكوتي وانبهاري الشديد بما يدور حولي من غرائب لم أكن أشاهدها إلا في أفلام الخيال العلمي, وأكمل: اليوم عيد المسلمين, والناس هنا في انتظار الحافلة الضوئية للتوجه إلى بيت المقدس وتأدية صلاة الظهر به.

علمت حينها أن اختراع الدكتور علي جعلنا نقفز فوق قرن من الزمن دون أن نعيش أحداثه ولا نتأثر بها. لقد تمكنا من الهرب فهل نحن قادرون على التخلص من حمولة التاريخ؟ ومن التفكير في مجريات السنوات التي لم نعشها واقعياً ومررنا عليها زمنياً؟.

تعليق:

بعد إجابتكم على الأسئلة المطروحة سنتمم النص: لأن الإجابة تعني قدرة, وإذا توفرنا عليها فلا بد أن هناك شخصاً – في سنة 2205م – قادرا على اختراع عربة أخرى تعود إلى التاريخ, إلى الواقع... .

           

* حائزة على جائزة محمد الحلوي للقصة القصيرة