ضياع
ضياع
أحس بخدر شديد يسري في جسده ، فأنفلت العود الصغير من بين أنامله بعد أن حفر في الأ رض شقا يتسع لدفن ضفدع . تحسس بيده خده المتورم غير الحليق ، ثم انساب بكفه نحو الخد الأخر الحليق ، ليلمس نعومته العذبة ، قال لنفسه : في الوجه خدان ، في الرأس وجه ، في الخد الأيمن أورام تتكوم ، ألام تتكدس ، شعر لا يحلق ، في الخد الأيسر تنساب نعومة ظل تداعبه نسيم ورديه .
مد جسده للأمام ، فظهر جلده شديد اللمعان تحت سياط الشمس أللاهبه . نفرت اوردته من تحت الجلد ، امتزج سمار بشرته بخضرة عروقه ، نفرت عروقه بشده ، تصلب جلده ، تحسس بكف يده بطنه بشكل دائري ، ضغط قليلا مكان المعده ، جحظت عيناه ، ضغط من جديد ، تربد وجهه ، بدت تقاسيم وجهه تأخذ شكلا أسطوريا ، تليفت أعصابه ، وبدا العرق يتفصد من جبهته ومن تحت أذنيه . أحتضن بطنه بشده ، اصبحت حاجته للتقيؤ ماسه . هم بالنهوض لكنه عاد واجل ذلك لمرة أخرى .
رفع عينه للسماء وكفه اليسرى تغلق فمه المتثائب ، بدت السماء أشد عمقا وزرقة أحس بأنجاس نباتات شائكه في أعماقه ، أشتدت وخزاتها ، أحتضن خصره بيديه بشكل دائري ، شعر بحاجه ماسة للتقيؤ من جديد ، ضغط بيديه على معدته ، بقوه ، كان يضغط بشكل تناغمي وكأنه يعزف لحنا ، أو بضرب طبلا ، طريقته بالضغط تدل على خبره طويله . دارت عيناه في الحديقه ، فظهرت النباتات وهي تنشق عن أخضرار كثيف . تأمل الأخاديد الدقيقه التي تخلفها الديدان عادة أثناء مسيرتها فوق ، وتحت الأرض حسب ما يحلو لها .
شعر بأنه يطفو فوق دوائر مائيه كالتي تتكون حيث يلقي شخص ما حجرا في بركة ، أو نهر ، دوائر ذات مركز واحد ، حاول أن يتكىء بظهره على الجدار ، لكنه لم يجده مكانه . عاد شعوره اليه بضرورة التقيؤ ، اتجه صوب المغسله ، أنزل رأسه ، وضع أصبعيه بفمه وأخرجهما بسرعه متناهيه ، ليفسح الطريق أمامه السبل المندفع من داخله .
نظر إلى المواد الخارجه من جوفه ، خليط مركب ، تتداخل فيه الألوان ، وتمتزج الروائح ، نظر من جديد وكأنه يتفحص مشهدا خرافي . أحس زئبقيتها دون أن يلمسها ، صدمت أنفه الأبخره المتصاعده منها ، أحس بأنها رائحه معهودة ، تفوح من كل مكان يتواجد فيه ، وكأنها رائحه
ملتصقه بوجوده متمسكه ببقائه . أصبحت هذه الرائحه معهودة له . لم يتذمر منها ، وان كان في بداية ألأمر قد شعر بالتذمر ألشديد ، هو في ألحقيقه - وللحقيقه فقط – لا يعرف ان كان تذمر منها سابقا أم لا ، ان كان قد تعود عليها أم لا ، ان كان يستحسنها أم لا. كل مشاعره مبهمه ، مغمضه، بفعل حالة التشتت ، التفرق ، بين محاولات ألتحديد ألمضنيه ألتي عاشها وهو يحاول بكل مضاء عزيمته أن يوجد الصله بين تواجده وبين هذه الرائحه ، لكنه كان دائما يفشل، فقط يفشل.
امتدت يده نحو صنبور المياه ، أراد أن يغرق هذا الخليط ، ان يغيبه من أمامه، لكن شعورا غريبا أوقف يده عن الحركه . تأمل ألخليط من جديد ، أحس بأنه جزء منه ، راوده شعور بابتلاعه ، إلا أن ألتقزز دفعه لفتح صنبور ألمياه بسرعه عصبيه ، لكن وهو مغمض ألعينين .
في ألحقيقه هو لا يعرف ، ولا يستطيع أن يعرف ، أو يحدد ،تماما ، ان كان هناك أصلا شعور بالتقزز في نفسه ، فالخليط كم هو متيقن ، جزء منه ، من ذاته ، مكون أساسي داخل تركيبته ألصعبة. هل كان متقززا فعلا حين غيب ألخليط في جوف ألمغسله ، فشل كعادته في ألحصول على اجابه ، فقط فشل. دفع نفسه للخارج ، ليس هناك مكان يود ألتوجه إليه ، لكنه لا يريد أن يبقى وحيدا ، هذا كل ما في ألأمر . ابتلعه ألزحام، وسارت به قدماه دون أن يتحكم بها ألدماغ. توقف قليلا أمام ألأشاره ألضوئية ، تفرس ألوجوه ألمحيطه به . بدت رجراجه غير واضحة ألمعالم أو ألتفاصيل ، بدون لون ، بدون نكهه ، بدون رائحه ، عدا ألرائحه ألمعهودة ألتي يشتمها أينما تواجد ، وجوه ملفعه بموجات ضباب مثقل غير متوازن . أحس زئبقيتها دون أن يلمسها . قفزت ألفكره إلى رأسه مرة واحده ، ألشبه بين هذه ألوجوه , والقيء ألذي ابتلعته مياه ألمغسله واحد ، انبجست ألنباتات في جوفه انبجاسا مفاجئا حادا ، وخزته بقوه .
انتشرت وخزاتها انتشارا سريعا ، ممضا ، أحس بحاجه للتقيؤ من جديد ، جاجته للتقيؤ كانت ملحه ، ماسه ، شديدة ألضروره ، تلفت حوله ، رأى ألقيء يغطي مساحات ألأفق كلها ،ورذاذه كان ينتشر ، يتناثر في كل مكان . بدت ألجدران وهي تحتضن طحالب خضراء ، داكنة ألخضره وكأنها سوداء من شدة ألدكون . فرك عينيه بقوه ، حدق في ألأفق ألبعيد فوجده كما قبل ، مشبع بالقيء ألمتناثر رذاذه على كل شيء . انتابه إحساس قاتل ، إحساس بأن ألمدينه بكل ما فيها ، بافقها ، بامتداداتها ، بنواتها ، بذراتها ، بدأت تغوص في جنون عاصفة يهيجها ألقيء . وبدت له وجوه ألمدينه كلها تستفرغ . لم يتبق شيء أو مكان ، حتى ألحجاره ، ألطحالب ألداكنه ألخضره ،ألأرصفه ، خطوط ألمشاه ، ألإشارات ألضوئيه ، كل هذه ، كل شيء ، دخل في عملية ألأستفراغ .
توغل بأعماقه شعور ألرهبة ،ألرعب ، تحركت ألنباتات في جوفه ، انتفض انتفاضة حادة ممزوجة بصراخ تردد صداه في أفق ألمدينه .استرعى صراخه الناس ، تلفتوا إليه ، تلفت أليهم . افتقد مرة واحده صورة ألأفق ، ألطحالب ، ألوجوه ،ألاشارات ألضوئية ، ألحجاره ، خطوط ألمارة ، جميع هذه كانت على حالها ، بلا قيء ، بلا رائحه ، بلا زئبقيه . حاول أن يربط أللحظه باللحظه ، ألدقائق ألتي مضت بالدقائق ألتي بين يديه ، كي يستجمع صورة ألمدينه وهي تغوص بعجز متناه في جنون عاصفة من ألقيء ، لكنه فشل في ذلك ، فشل فقط . لكن هذه ألمره أحس بأن ألفشل لم يكن في ذاته فقط ، بل في المدينة بأسرها ، بل بالمدن ، بالعواصم ، في كل شيء وشيء . أحس بحاجته للتقيؤ ، لكنه أمسك بطنه بيده ، وحنجرته باليد ألأخرى ، وضاع في خضم ألسيل ألبشري ألمتلاحق والسريع .
دخل أحد ألمطاعم وطلب وجبة غداء ، أشعل دخينه ، تحسس جيبه ، فبدا ألاضطراب واضحا مع ألأصفرار ألذي كسا وجهه . وقف ، اتجه صوب ألخارج وهو يقول لصاحب ألمطعم : أجل ألغداء ، سأعود ، فقط ساشتري علبة دخائن . دار طويلا في ألسوق ، لكن لا جديد ،ألحوانيت ، باعه متجولون ، سيارات ، مذياع نائح هنا ، مذياع نائح هناك ،آلات بشريه تتحرك باتجاهات متعاكسه ، متضاربه ، بين ألتجار ، والأقفال .
خلع ملابسه وارتدى منامته ، شق نافذته قليلا كي يترك نسيمات تضرب وجهه . كان بحاجه لنداوة النسيم ، طراوته . مسح وجهه بيديه وأرسل عينيه لعتمة بدأت تنسل من خيوط ألنهار الراحل ، أحس قليلا بالانتعاش ، نظر صوب ألحديقه فبدت الأشجار وهي تعانق هفيف ألنسيم ، تتمايل بتؤده ، بانسياب يشبه انسياب ألبط في ألماء . تطلع نحو ألأفق فوقع في دائرة ضياع من الهلام .
بدأ يحصي ألنجوم ، مئه وعشرون ، مئتا نجمه وواحدة ، تطلع إلى القمر ، راح يتأمل ألخارطه ألمرسومه بضيائه ، أحس بأنها تشبه خارطة الوطن العربي . تداعت أفكاره . فأحس برغبة شديدة بأن يتلو ( اقتربت ألساعة وأنشق ألقمر ). تأمل من جديد ، تلاشت ألخارطه ، تلاشى ألقمر ، التهمته سحابة عابره ، امتصته ، تداعت أفكاره من جديد . أحس رغبة عارمه لأن يتلو (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون ألقديم ).
نظر من جديد ، أضاع عدد ألنجوم ألتي أحصاها . أحس بحاجته للتقيؤ من جديد ، تحركت ألنباتات في جوفه ، بأمعائه ، بأوردته ، وخزته كعادتها بقوة ، فأحس سمها يجري بشرايينه ، يجري بدورته ألدمويه . تخاطرت دماغه مع الموت ، مع ألعجز ، مع عزرائيل . أندفع كثور محموم نحو ألمغسله ألموضوعه خارجا في ألحديقه ، ولما خفض رأسه وجدها عاجه بالبعوض والذباب والحشرات ألصغيره .
حمل علبة ألبن ليعد لنفسه فنجانا من ألقهوه ، شعر أنها خفيفه ، فتحها ونظر في داخلها . لا بأس ، إنها تساوي مقدار فنجان إذا ما كشطت حوافها بواسطة سكين حاد . فتح نافذة ألمطبخ ليسلي نفسه إلى حين غليان ألماء. تسربت إليه موجه خفيفه من هواء ناعم لامست وجهه وشاربه . مد يده ممسدا جاجبيه ،أنزلها ، حدق بها فألفاها تحمل شعرتين ، من ألحاجب ؟ أو ألرمش ؟ لا يعلم . حاول أن يميز بين ألشعرتين ، أن يجد بينهما فرقا ، اختلافا ، حتى يستطيع أن يجزم بأنهما ليس من نفس ألمكان . بل واحده من الرمش ، والأخرى من الحاجب . فكرة ألفصل بين الشعرتين أخذت منه وقتا طويلا . تعامل مع هذه ألمسالة وكأنها ستنهي مشاكل ألكون . أو كأنها ستشفيه من دائه ألمستبد فيه. وأخيرا قرر أن بين هاتان الشعرتان اختلافا واضحا –هكذا أقنع نفسه – معنى هذا أنهما ليسا من نفس ألمكان ، بل واحده من الحاجب والأخرى من ألرمش . ألمسأله هذه أضحت مستعصيه ، تمحورت حول بؤرتها ، حول نواتها ، كل مناحي تفكيره ، كل قدراته ألعقليه .
لو كانت هذه ألمسأله تعني ، أو تعود إلى منفعه واحده ، لكان استغراقه فيها مقبولا ، مبررا ، يركب على ألعقل . أصبح دماغه ثقيلا ، يخض داخل جمجمته ، يتأرجح بين ألاهتزاز والاهتزاز. ضاق صدره لدرجه أنه أحس بأن كل سوف تطير خارج إطارها.
رفع عينيه، أرسل نظره للأفق ألبعيد، كانت ألظلمه تمعن بنصل خنجرها في بقايا نهار يرحل. حدق بالشعرتين من جديد، حدق طويلا ، ثم نفخ عليهما نفخة قويه ، فغابتا عن ناظريه . عبثاّ حاول تحديد مكانهما . ولم يفق من سهومه إلا حين فارت المياه وانسكبت على عين الغاز محدثة نفس الصوت المألوف حين ينسكب ألماء على قطعة حديد ساخنة.
وضع كأس ألبن ، حمل ألمذياع وبدأ يدير موجاته بحثا عن نشرة أخبار . ظل يدير ألمفتاح دون وعي. هو يريد أن يتلقى أخبار جديدة عن عالم يحيا فيه طوال حياته دون أن يفهمه، دون أن يقيم أي صله بينه وبين أحداثه. كثيرا ما فكر في هذا ألأمر وسأل ذاته : ما الذي يربطني بهذا الوجود ، بهذا المحيط المتدفق اللاواعي ، اللامسؤل. الحياة تسير بطريقه معقده ، معقده إلى حد النزول بهوات سحيقة ، عميقة الدجنة والد موس حين تحاول التواصل مع مجرياتها. كل شيء يسير بطريقة غير واضحه ، غير مفهومه ، والناس . كل الناس ، يحسبون أنفسهم واعين تماما لمسيرة ألحياة . بل أنهم يدعون، وببساطه ، بساطه تامة ، أن حقائق ألحياة ، ألوجود ، تسكن أعماقهم منذ زمن بعيد ، بعيد.
تنبه لمفتاح ألمحطات بين يديه. أداره من جديد، ولما لم يجد ما يريد – إن كان يعرف ما يريد أصلا – وقف غاضبا ، متوردا ، تكثف جلده ، تصلب ، تناثرت حبات ألعرق على جبهته ووجهه ، تكثفت ، تجدولت خلف ألأذنين وفوق ألذقن ، انسابت لاذعة ، كاويه . أطفأت بريق عينيه ألملتهب . مسح عينيه بكم منامته، فظهرت عيناه وهما تحملان توقدا . دارت في ألمحاجر دورة كامله . تأمل ألمذياع ، حقد عليه ، وجه لكمه للحائط ، لكمه قاسيه به ، لكن لم يصدر عن ألحائط أي أنين ينم عن ألم . وسكنت حركة ألمذياع سكون ألموت نفسه.
احتسى كأس ألقهوه ألمثلج مرة واحده ، خلع منامته وارتدى ملابسه ألمكوية ألأنيقة ، فابتلعه ظلام ألممر ألجانبي لفترة قصيرة قبل أن يظهر تحت أضواء ألشارع . تسلقت قدماه ألرصيف ، وأخذت ساقاه تتأرجح بين وجه ألرصيف وهفيف ألنسيم الطري ألناعم.
جلس على أحد ألمقاعد ألعامه ، أخفى رأسه بين كفيه وأجهش ببكاء متواصل ، صامت ، بكى بحرقه ، بلوعه ، بانشداد عظيم نحو ألحزن ، ألهلع ، ألكآبة ، دون أن تنزل من عينيه أية دمعه . تحركت ألنباتات في جوفه ، ببطء قاتل ، ممل ، ولكن بألم حاد . كان ألألم يتحرك في جوفه كشفرات ترتطم بحشاياه ، بأحشائه . اشتد بكاؤه ، اشتدت لوعته ، تعاظمت كآبته. فتأكد ، بل أيقن أن ألنباتات ألتي في جوفه تنتعش ، فتطل برؤوسها حين يبكي بصورة غير معهودة . لأن دموعه تنساب في داخله فترويها . لذلك انقطع عن ألبكاء وقرر ألذهاب للطبيب فورا.
ظهرت علامات ألدهشه وعدم ألتصديق واضحه على قسمات ألطبيب ألمخفيه تحت نظارتيه . لكنه تمشيا مع ألحاله ألنفسيه منح مريضه عنوان طبيب مشهور ، ونصحه بالذهاب إليه لأنه خبير بمثل هذه ألأمور.
تمدد على سرير ألكشف عاريا كما ولدته أمه . بدا جلده ملونا ، مكدما ،غريبا ، متموجا . يبث ألقشعريرة في ألنفس. اقترب ألطبيب من ألجسد ، حاول أن يتحسسه ، لكنه تراجع . بدا وكأنه جلد حرشفي ، كجلد تمساح هرم ، وظهر ألشعر ألكثيف ألمزروع فوق ألجلد كأنه ابر تحمل رؤوسا سامه.
وقف ألطبيب مذهولا ، عاجزا . استجمع قوته بعد دقائق ، كدسها ،وعاد ليقترب من ألسرير. أغمض عينيه ، مد يده نحو ألجسد ألمطروح فوق سرير ألكشف . انفلت ألجسد سريعا ، وقف وسط ألغرفه ويديه تطوقان خصره. كان يدور ،ويدور ،ويدور ، بسرعة جنونيه . انبجست ألنباتات في جوفه . قاوم رغبته ألعارمه في ألتقيؤ. أغلق فمه بباطن يده. وكثور ذبح من ألوريد إلى ألوريد ، اندفع نحو ألمغسله ، فانفلت من داخله نفس ألشيء ألزئبقي كبركان ثائر. تأمل ما خرج منه ، تفحصه بدقه ، بنهم ، أحس بأنه جزء منه ، جزء من ذاته ، لا يمكن ألتفريط به أو ألتنازل عنه. تدفق ألإحساس فيه لإعادة هذا ألخليط إلى جوفه ، بكل ألوانه ، بكل حرارته ، بكل ألأبخره ألمتصاعدة منه . بكل ما فيه من تقزز، و نتن.
مد رقبته للمغسلة وفمه ألمفتوح يسيل لعابا دبقا ، ثقيلا. ألخواطر تتزاحم في رأسه، تتعارك، تتصارع، الشعرتان، أيهما من ألحاجب ؟ ألخارطه ألمرسومه بضياء ألقمر، ألأقفال ، ألمذياع ألنائح ، ألمذياع ألطرب ، حرقة بكائه ولوعته ، ألغداء ، ألقهوه ، ألوجوه ألرجراجه ، كل هذه ألأمور وغيرها دخلت رأسه حزمة واحده كبريق يخترق دجنة ألليل. أنتفض جسده ، كانت انتفاضه واضحه ، كانتفاضة ذيل ألأفعى ألمقطوع عن جسدها.
أدار عينيه نحو ألطبيب، فبدت شبحيه، غامضة، مسكونة بالرعب ألممزوج بالمجهول. بدت وكأنها غطست بالدم. تراخى جسد ألطبيب تماما، بعفوية، مادت ألأرض تحته، اجتاحه رعب هائل وتلبدت ألرؤية أمامه.
كان ألمريض يغالب فكرة قاتله، استرجاع ما خرج منه. كان لا يزال يتأمل ألخليط بطريقة مركزه. مد فمه ألمفتوح نحو ألمغسله، خفض رأسه أكثر، ازداد اتساع فتحة فمه، وأستمر أللعاب ألدبق يسيل، لكن بكميه أكبر. وصلت شفتاه قريبا من وجه ألخليط فامتزج أللعاب به، التصق به التصاقا. وفي لحظة واحده، حاسمه، رفع رأسه وفتح صنبور ألمياه على أعلاه.
بدا مرهقا تماما، متعبا، وكأنه قادم من عالم أخر، عالم لا يوجد فيه غير ألعذاب. والطبيب كان لا يزال على حاله، يقف مجللا بالعجز، محشوا بالقهر والشفقة. حاول جاهدا أن يتصور ما حدث، أن يعيد لحظه من لحظات ألألم ، كي يستشعر شيئا حول حالة ألمريض. لم ير بحياته مثل هذا ألمشهد، أو حتى لم يسمع به. ما رأى أليوم ، ما شاهد ألآن ، حالة جديدة، لم يدرسها في مناهج تعليمه، ولم يرو له أحد عن حاله شاذة كهذه. وظل واقفا، مسمرا، لا يتقن سوى ألوقوف ألساهم. وبصعوبة انتشل صوته من أعماقه انتشالا. سأل مريضه : هل يحدث هذا كثيرا معك؟ فأجابه : نعم، وأوضح أنه يود دائما، وفي كل مره، إعادة ما يتقيأ إلى جوفه من جديد، بسبب شعور غريب يجعله يحس بأن ما يخرج منه، هو جزء منه، من ذاته، من تكوينه، وأن ألتفريط به ليس حق من حقوقه.
بدأ يشعر منذ زمن بدوخان لذيذ وغثيان جميل، لكنه لم يستطع أن يحدد ماهية ألألم ألذي يحدث في جوفه، وكذلك ألأطباء. وظل يعاني من حاجته للتقيؤ بشكل يومي. تمدد فوق ألسرير، تسمرت عيناه في سقف ألغرفه، ودون أن يشعر بالنعاس ذهب في سبات عميق، وغاب في حلم لذيذ.
رأى أنه يجلس في سيارة متجها إلى مكان ما، وفيما هو جالس ينتظر سير ألسياره، جلست بجانبه امرأة. لاحظته وهو يخفي بطنه بيده، ومغلقا فمه بالأخرى. سألته : إن كان يشعر بدوخان لذيذ وغثيان جميل؟ فتعجب من سؤالها له وهو لا يعرفها. سألته : إن كان يشعر بحاجه ماسه للتقيؤ بين ألحين والأخر ؟ وان كان يشعر برغبة شديدة لإعادة ما يتقيأ إلى جوفه.
لم يصدق أذناه. نظر إلى ألمرأه، كانت تلبس ثوبا مطرزا، وجهها يختلط ألسواد فيه بسمار مخضر، يتوسطه أنف ضخم بفتحتين كبيرتين منفرتين، يدخل ألهواء بهما كزوبعة صغيره، ويخرج منهما كعاصفة متساوقة مع حجميهما، تتناثر على كل قسماتها أوشام متداخلة، بلا ترتيب، بفوضويه. وفي أنفها تتعلق حلقه فضيه ضخمه. يديها وقدميها غاصة بالأوشام وكأنها قادمة من احتفال شيطاني كبير. عيناها كانتا تسبران أعماقه بطريقة عجيبة. كل ما فيها كان غريبا، مثيرا للدهشة. لكنه بينه وبين نفسه كان مشدودا نحوها، لأنه وبطريقه ما تيقن بأنها تملك قدره خارقه على استشراف ألغيب. شرح لها كل ما يحس به. ابتسمت له وقالت: زرني غدا صباحا قبل شروق ألشمس على هذا ألعنوان. ودست بيده قصاصه ورق بخط صبياني.
تقلب بنومه، فانتفض واقفا، وبسرعة مذهله كان على ألمغسله يقذف من جوفه براكين ثائرة، غسل وجهه ويديه. حدق بما في ألمغسله، تذكر ألحلم ، فتمنى لو ظل نائما حتى يشفى، أو على ألأقل، أن يعرف ألداء ألذي به. راودته نفسه في ابتلاع ألقيء من جديد، قرب رأسه، فتح فمه، لكنه تراجع في أللحظة ألأخيره، وفتح صنبور ألمياه على أعلاه. فذاب ألقيء وتلاشى.
عاد إلى سريره، حاول أن ينام، كان يبحث عن بقية حلم قطعته عليه ألنباتات ألمبنجسه في أعماقه، في جوفه. لكن عبثا كل محاولاته كانت تذهب. ألنباتات ألمتحركه في جوفه، والقلق، نهاية حلمه. خلع منامته، ابتلعه ألهدوء ألمسيطر. جالت خواطره كل طرقات ألمدينه وعادت إليه خاوية، خاليه من ألدفء، من دفء امرأة بدويه تتعلق بأنفها ألمثقوب حلقة فضيه، ووجه يعج بأوشام متناثرة متنافرة. سأتجه لصديقي سمير، قال في نفسه. لا، سأتجه لصديقي يوسف، لا، لا، بل إلى صديقي سليمان، لا، بل يجب أن أتجه لبيت أخي.
سار وكله يدور في فراغ هائل نحو بيت أخيه. رفع يده ليطرق ألباب، لكنه لم يستطع، ما هذه الزياره ألليله ألمفاجئه؟ سأل نفسه؟ وعاد من فوره، ليدور في دائرة فراغ، داخل فراغ.
تسللت خيوط ألفجر لتلامس جسده ألسائر وسط فراغ كامل. أحس بشيء من الدفء، حاول أن يبتسم، لكنه أمسك نفسه خوفا من اندفاع ألقيء، وظل يسير بقدميه في كل جنبات ألمدينه. أحس بالنباتات وهي تتحرك في جوفه. أمسك بطنه بيده وانفلت نحو حافة ألشارع. رفع يده عن بطنه فاندفع ألقيء من فمه بشده غريبه.
أفاقت ألمدينه على شعاع الشمس. تدفقت ألحياة، وعجت ألشوارع بالبشر. وعلى طرف رصيف كانت الناس تحتشد وهي تدمدم، تقدم طفل صغير، شق ألحشود، فوجد المدينة تنظر إلى جسد مكوم فوق ألقيء، جثه هامدة لا حراك فيها يعلوها ألذباب والبعوض، وتنهش جوانبها ألجرذان ألمنتشرة هنا وهناك في ألمدينه.