غَضْبَــــةٌ لَهَــــا ..

د.محمد سالم سعد الله

د.محمد سالم سعد الله

أستاذ الفلسفة والمنطق والفقه الحضاري / جامعة الموصل

في ليلة ملؤها الحنين إلى دفء أنوثتها ، وإلى عطاء امتد حائراً يلفّ عباءات الزمن الموشح بجمال عينيها ، وابتسامتها التي تدخل الأجواء بلا استئذان ، إنّها عنوان الخصب إذا عمَّ البلاء ، وهي نسمة صبا إذا بخلت الرياح ، إنّها مملكة تضم اللاهثين لمعرفة كنه الاشتياق ، وتحتضن بذراعيها المرصّعين بالحبّ لكل من لا يعرف معناه ، تحتضن هواك التائه بأزقة بعيدة هناك ، حيث الدم لا يعرف شرياناً ، وحيث الودّ ينقلب بركاناً .

إنّ أنوثة تمتلك سرّ الجمال ، وفنون الكمال ، هي الأقدر على ملامسة ثغرك الناسي لابتسامته ، والزاهد بفرحه ، والمتجه نحو غيهبه ، مجبراً لا مُدرِكاً ، مُسيراً لا مُخيراً ، قد يدرك هذا الولهان ، أنّ عطاءً لن يجيء بالمجان ، وأنّ صنوف الودّ لن تتخلى عن الأشجان.

عندما نظر إلى لمعان عينيها ، أدرك أنّ الكونَ بريقٌ هائلٌ مختزلٌ فيهما ، وأيقن أنّ سواد الليل ، لن يستطيع مقاومة نور وجهها الممتلىء بشاشة ورقّة ، كنّا نعرفه هادئاً ، متزناً ، يقدم ابتسامته للآخرين ، مُدركاً أنّ التواصل هو سرّ بناء أواصر المحبة ، وهي محتاجة إلى مشاعية الودّ والألفة والعطاء .

نظرت إليه اليوم .. وعينيه مكبلة بحزن شديد ، ولسانه ـ الذي اعتدنا على جميل حديثه وبديع كلماته ـ أصبح ملجما بشيء لا نعرفه ، إلاّ أنّنا أدركنا سريعاً أنّ هناك شيئا جللا ، قد غير النفس ، وبدل الطبع ، يا إلهي .. وجهه مكفهرٌ غضباً ، ووجنتاه أصبحتا غَضْباً .

ـ باسم : ما بالك يا محب ؟! .

ـ محب : رايتها وحزنت عليها .. ( وبدأت الدموع تأخذ طريقاً نحو التعبير ) .

ـ باسم : من رأيت ، ولماذا ؟! .

محب : لقد اجتمعوا عليها ، وبدؤوا يبثون سمومهم فيها ، لقد اعتدوا على سكونها، وقطعوا لسانها ، وكبّلوا يديها وداسوا على قدميها ، آه .. إنّ غضبي لشديد ، وإنّ فعلي لسديد ، ألم يعلموا أني رجل غُضُبَّة ، أُسرِع في الثأر ، والتهم الجمر ، وأفرج عن كلّ غضوب ، وألعن كلّ لعوب ، وإنّي وان كنت مغاضباً قومي ، ومعانقاً همي ، إلاّ أنّي أنفس عن دمعي ، بتدمير غلّي ، عرفت أسماءهم ، وعلمت نواياهم ، سأصعد على أنوفهم ، وأقيم الشواء للحومهم ، سأفرّق الأغلال عليهم ، وأشرب دماءهم ، وأقطع أوصال أسْرَاهُم ، ولن أرضى النظر إليهم في كلّ آن .

هل انطوت مغضبتي ، وانتهت علتي ، إنّ حديثاً جرى بالأمسِ عن النفسِ ، أنّها تزدان بالشوق والأُنسِ ، وتغدو لبوةً هائجة إذا ما استُبِيح لها حرف ، أو اغتُصِبت فيها نخلة .

آهٍ يا باسم .. لا تعذلني .. إنّ القلبَ ملتهب ، وإنّ الفعل لمرتعب ، وإنّي مقبل على تقديم كلّي لإنقاذ بعضها ، وإماتة بعضي لإحياء كلّها ، وتمزيق مسيرتي ، كرماناً لصفاء وليدها ، إنّها قبلة المُعطى والمُؤدى ، ومعبد العاشقين والمقربين وهي المُفدى ، لأجلها تذرف الدموع وتُقدم العطايا ، واليها تصرف الرؤى وتُمنح الهدايا ، لها أقدّم القلب ، وبلونها أخضب الدّرب ، إنْ غابت فقدت الحنان ، ونسيت الاطمئنان ، وإنْ أقبلت عانقت الودّ والأمان ، بوجودها أحيا مع النسور ، وأداعب براحتيّ الصقور ، وإنْ غابت دخلت متاهات الضياع ، ومسالك الرِعاع ، إنّها قدري ، وبها أملي ، ولها أمنيتي ، وعليها فرحي ، ومن أجلها غضبي ، أخشى عليها سُمَّ الأنياب ، وغدر الأحباب ، أحميها بجسدي إنْ عوت عليها الذئاب ، ولن أخشى البوح بحبّها في كلّ مكان .

هل أدركت الآن خَطبي ، وعرفت سرّ غضبي ، إنّ مصابي لعظيم ، وإنّ فعلي لسقيـم ، وقد أحطت نفسي انكفاء ، وفي داخلي جذوة لا تعرف انطفاء ، إنّ شغفي بها ، وقربي منها ، وشوقي إليها ، وحناني إلى ناظريها ، سيكون درساً للعابدين ، ومسيرة للعارفين ، وعِظةً لمن أراد أنْ يحفظ العهد والدين .