أهل القلعة
يوسف حامد أبو صعيليك
[email protected]
- 1 -
اغفر لي يا سيدي هذه الجرأة مني ، ما كنت لأفعل هذا لولاك ، كنت مخلوقة طيعة ، ……………… نعم ، كنت أنت النافذة التي كنت أرى من خلالها الوجود ، غير أننا اكتشفنا أن الحرف المنطوق ليس كل شيء ، هناك لغة لم تدركها ولن تعرفها يا سيدي ولدت بيننا فتعرفنا إلى أرواحنا وإن لو تعرف إحدانا لغة الأخرى ، خنجري هذا ما تمرد يوماً، بل لم يكن لي خنجر ، غير أنك يا سيدي كما كنت النور الوحيد أصبحت النار التي حولتنا إلى أرقام ، إلى لا شيء.
يا سيدي كما أن النار تطوع الأشياء ، فإنها كذلك تصنع التمرد وتنقي الروح ، فذق يا سيدي بوح اليقظة .
- 2 -
لمَّا دخلتُ البيت كنتَ الملجأ الوحيد ، غير أنك لم تلبث أن انقلبت إلى جدار وحشي شديد البرودة ، يلتف بالصمت .
ولما نظرتُ إلى عيونهن أبانت لي حقيقتك ، وبينت لو وهمي .
- 3 -
- ضحكـت في سري لما رأيتهن للمرة الأولى شديدات النحول :
- ما بالهن شبيهات الأشباح وقد رفلن في كل هذا النعيم ، وغببن من كل هذا الـعز ، أيشـقى الإنسان في وفرة من النعيم ، أيشقى الإنسان وهو من أهل القلعة ؟! .
ثم لم تلبث الأيام أن سخرت مني .
- 4 -
قالت لي عيونهن :
- على مهلك يا صبية ، في الصبيحة ستدركين ، وبعد الغفوة ستبهتين .
ويا لصدق عيونهن .
- 5 –
ضحكت وأنا أحاول الحديث معهن في البداية بغير لغة ، كنت لا أطيق الضرائر ، غير أن لا سبيل إلى سواهن في هذه القلعة ، ألقيت الملعقة في وجه ذات الرقم اثنين لما يئست من إفهامها ، كانت قد ذاقت من قبل ما أذوق الآن ، لذلك فقد ابتسمت لانفعالي الشديد، أما أنا فقد وليت إلى حجرتي هاربة ، ولما أغلقت الباب على نفسي ؛ ضحكت لموقفي الطفولي هذا ، غير أنه كان ( ضحكاً كالبكاء ).
- 6 -
قلتَ لي يومها :
- لست وحدك من تضيق بها العبارة ، ولا يصل إليها البوح ، كل منكن لها لغتها التي لا تجيد سواها ، الوحيد الذي يعرف لغاتكن جميعاً في هذه القلعة هو …… أنا ……… أنا فحسب.
- وأنا؟.
صرخت في وجهي :
- أنت مثلهن رقم فحسب ، ولكل رقم رائحة مختلفة عن الآخر ، ومحال أن تعرفي لغة إحداهن، بل الويل لك إن حاولت .
صحت :
- هذا اغتراب يا سيدي .
صفعتني بحنق ، وتناولت شعري بيديك ، واقتربت أنفاسك مني :
- حضني هو الوطن الوحيد .
وبكيت .
- 7 -
في الصبح التالي وسمتني بالرقم أربعة.
- 8 -
عندما اقتربت مني رقم واحد أحسست بهن لأول مرة ، مسحت دمعاتي بيديها .
عندما لامس صدرها رأسي ، كانت القلعة قد تحولت إلى سجن .
- 9 -
السجن في تقلص من حولي ، والكون يضيق ، والجمادات تتحول إلى خفافيش سوداء صمتها يقتلني ، تـسمع همسـي ولا تجــيـب ، أنَّت الأريكة ذات حين فعانقت فرحي ، ولامست أصابعي دفء وبرها في حنان ، حينها تعرفت إلى لغة جديدة لم تألفها الحروف ، رأيت من خلالها كيف تولد الحياة في الأريكة .
- 10 -
قد يخون التعبير يا سيدي ، وقد يخذلك الحرف ، ولكن لا يخونك النبض ، لا يخونك الشعور .
- 11 -
اقتربت الثالثة ، - أقصد الرقم ثلاثة - مني وصافحتني ، كانت المرة الأولى التي أحادث فيها إحداهن ، رأيت وميض ابتسامة في عينيها لما رأتني وقد تجلى الحرف بصورة جديدة خارجة عن نطاق المألوف ، وانضممت لجلستهن ، كان الفرح يتراقص في الأعين برغم الأسى …………… ونَطَقَ البوح .
وصارت أكبرنا لنا أماً ، تعلمت على يديها نسج الدم ثياباً ،والدمع رداءً ، ومع اللغة الجديدة - مرة أخرى - ولد فيَّ كائن ذو ملامح جديدة يأنس الأرقام السابقة له ،وتأنس هي به ، وانقلبت ملامحنا بعد اغتراب إلى شيء من بياض .
- 12 -
حشرجة الموت يا سيدي منك مرعبة ، كما هي حياتك موحشة ، فلا تلم المدية إن هي ارتعشت في يدي عند سماعها نشيد الموت .
موت الطغاة يا سيدي مخيف كما هو وجودهم .
- 13 -
قصت عليَّ رقم اثنين حكاية العروس التي جاءت ليلة عرسها تعانق الزهور البيض ، والفرح الذي يمتطيه الفارس المبجل، والوطن الجديد ، وباتت على موعد مع الفرح ، في الصباح أبصرت إلى جانبها فوق السرير خفاشاً أسود ، ينظر إليها بنصف عينٍ ويبتسم ، لمحت ما يشبه قطرات الدم على فمه ، اقترب منها ونهش صدرها ، لم يسمع أحد الصراخ .
من صبيحتها لم ينقطع سيل الدم .
- 14 -
- الخيرات لي ، والفـضـل وجنوني سـيغمركن ، وومضي سوف يضيئكن ، غير أن أرواحكن متاع خاص لي ، سجينة في صندوقي ، مفتاحه في يدي أنا ، ملكي وحدي ، وبوحكن لا يكن إلا لي ……… وحدي ، أرواحكن معلقة في كلاليب عرشي ، فاقطعن ألسنتكن من جذورها ، وقدمنها لي ، عربون المحبة .
هكذا قال الخفاش .
- 15 -
أن تسرق الأرواح يا سيدي بلا معنى فهذا عمل المرتزقة ،
والقرى التي تفقد أرواحها ما هي إلا خرائب ، وناسها أشباح ، أصنام من حجر تنام على وقد النار بلا إحساس ………… بلا صراخ.
- 16 -
قالت أمنا :
- ويلكن ، النار تصهر الأرواح ، وإن ولد الغد صارت رماداً ، بل لا شيء ، فلا غدٍ حينئذٍ ولا صباح .
- الخفافيش يا أمنا تنام مطمئنة .
قلت بخوف .
- لعلمها أن أهل القرى نوًّم لا يستيقظون .
أجابت أمنا .
- الطغاة يا أمنا مفزعون .
قالت الرقم ثلاثة .
- لكنهم يخافون من أهل القرى إنْ هم استيقظوا .
صاحت الرقم اثنين:
- حتى سقوطهم يحمل معه الضحايا .
قالت أمنا :
- الويل لأهل القرى إن استوطنهم الفزع .
صحت بتحدٍ :
- أنا طوع الأمر .
قالت بنظرة صارمة :
- ستحتملين زفرة النار الأولى إن اشتد لهيبها ؟.
- سأفعل .
ابتسمتْ وأومأتْ بأن تقدمي ودسته في يدي .
- 16 -
بريق الرعب ونار التسلط يا سيدي لا يفارقان عينيك ، ما بالها عينك لا تتخلى عن سوطها برغم الانطفاء ؟، برغم كل هذا الضعف ؟.
عجب لنا ، كيف كان انقيادنا لكل هذا الضعف الكامن فيك دون أن نكتشف الحقيقة ، حقيقة الوهن ؟! .
غير أن وهج الحقيقة أيتها الجثة أقوى من وهج النار ، فمحال أن يضيع الحرف وسط ضوضاء النار،
محال أيها الخفاش .