ملحمة شاعر

محمد مسعد ياقوت

بلطيم \ كفر الشيخ

[email protected]

استيقظ الشاعر " محمد عواد" كعادته قبل طلوع الشمس ..واستيقظت معه همته العالية هي الأخرى ( وهي دائماً مستفيقة) ..اللتقم القلم الرصاصي ليسطر أبيات من أشعاره و مشاعره :

يا يدعوة الإسلام لن أنساك لا لا لن أميل على هواي هواكلا لن أضل و أبتغي معوجة أمشي عليها طارحاً لهداك ويمضي الشاعر "عواد " متغزلاً في دعوته التي يشدو قلبه بعشقها ، ويفيض حباً و حناناً لها ، ويعدد أفضالها عليه ؛ فهي التي غرست فيه العزة و الكرامة ..ويواصل في الكتابة .. يستثير همم الدعاة وحماس المؤمنين ، و يندد بالخاملين و النائمين ومدمني الكسل :

أخي طال عهدك بالمرقدِ وطال اصطبارك بالحاقدو طال انتظارك يوم الخلاص ويوم الكرامة و السؤدد فهدم فراشك رمز الخمول وقم للجهاد و لا تقعد وقم للنضال و خوض القتال وشمر الساق و الساعد و يمضي عواد بقلمه يناضل به يميناً وشمالاً ..في كل مكان.. في المقاهي ، في الأمسيات ، و في النوادي ...لكن .. أعداء الشعر كانوا له بالمرصاد .. يريدون أن يطفئوا نور قلبه الذي ينبض بشعره..! ولكن عواد شعر بحسه المرهف أن أمراً ما يحاك به ويُدبر لقتل شعره..فلملم أقلامه و أوراقه وأشعاره وانتقل إلى قرية نائية ، بعيدة عن الأنظار .. هي "بلطيم" .. ولكن الحذر لا ينجي الشاعر من القدر ..

فالشرطة العسكرية وراء الشاعر العظيم ، و المخابرات العامة تراقبه .. خطوة بخطوة .. وبالفعل .. توجهت الشرطة العسكرية بخيلائها و كبريائها و بأسلحتها العاتية و مصفحاتها الضخمة ..

ودخلت القرية الصغيرة جداً .. وكادت القرية أن تنفجر .. وقد كان "عواد " يومها مع صديقه " مصطفى" ..وقفا أمام البحر يتنسمان..و يتنسمان مع عبيره فاصلاً من فتوحات الشعر ..وفي وسط هذه النشوة ..يسمع "عواد" أصوات العربات المصفحة ..!صوت قادم من بعيد يقترب..ويعلو و يعلو ليصبح مزعجاً ..ثم مفزعاً.. هنا صرخ عواد في صديقه : اهرب يا مصطفى .. اهرب !! اهرب من هنا !! و طوقت القوة العسكرية المكان ..وتم إلقاء القبض على الشاعر ..حملوه إلى السجن الحربي العتيق ..وها هم الزبانية يستقبلون الشاعر بالسب و اللعن و الجلد . .و إذا بالجلاد " صفوت " يسوق أمامه الشاعر ليقف أمام مسئول السجن :

 هذا هو المجرم " محمد عواد " يافندم ..و وقف عواد وحدة في ساحة السجن أمام الجلادين ..في انتظار معركة طاحنة .. و يتحداهم أن يأخذوا منه كلمة واحدة ..ومن ثم بدأ مسلسل التعذيب .. واستمر تعذيب الشاعر أياماً متواصلة .. و ساعات متتابعة ..واضطروا أن إلى وضع جدول وورديات لتعذيبه ..إنهم يتناوبون تعذيبه !!يا الله ..!! ألهذه الدرجة كان الشاعر خطيراً ..و الحق أن هذه الأيام كانت دوامة بشعة ..كلها مليئة بالصراخ و الجلد و التكسير و التحطيم و الصفع و السب و أشياء أخرى ..جذبه الجلاد فجأة وصرخ فيه : هذه عينة (!!) يمكنك أن تتكلم ..اعترف ! يا مجرم ! العذاب فوق طاقتك .. فوق ما تتصور أنت .. بماذا أعترف ؟! لا أعرف ... ماذا تريدون ؟؟!!فجاء جلاد أكبر و أصدر قراره التاريخي :

 علّقوه ، مزّقوه ، حطموه !!ويعاد مسلسل الكرامة ..لقد مُزقت ثيابه .. لم يبق إلا ما يستر العورة ..سالت دماؤه ودموعه .! رفع نظره إلى السماء بعينين دامعتين .. اختلس هذه النظرة وهو في داخل دوامة التعذيب التي يديرها في هذه الوردية جلاد يعاقب و يجلد بشدة على العطس وإغلاق وفتح العين المحكوم على صاحبها أن يحدق بها ، و الويل له إذا رمشت هذه العين !!

توسل إلى بارئه .. والحق أن هذا ذكاء من " عواد" .. !فلم يتوسل إلى الطاغية ..بل توسل إلى من أشرقت بنور وجهه الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة ..و الأعجب من ذلك أنه لم يطلب من ربه رفع العذاب ! بل : فقط أن يثبته على الحق و المبدأ القويم ..ينادي من وسعت رحمته كل شيء: أعنّي ..ثبتّني.. خذ بيدي .. يا رب !

وفي أثناء هذا الاندماج بين الشاعر و ربه  و الذي تدينه سلطات التعذيب  إذا بالزبانية يسحبون الشاعر على وجهه إلى الحوض !!إنه حوض التعذيب العظيم ، الممتلىء بالماء المثلج العكر؛الذي اختلط بالدماء و الشعر و بعض قطع الجلد !ربماً هي لشعراء سابقين؟ يمكن؟ !!

و بالفعل وصل الشاعر إلى الحوض سحباً على الوجه !رموه في هذا الماء الديمقراطي ...!ونزل العسكري " خرشوف "  في رشاقة ملحوظة  و ركب على أكتاف "عواد" ..ويمسك هذا " الخرشوف " برأس الشاعر يغطسه في الماء حتى حد الموت ..و يخرجه .. ويكيل له الصفعات و الضربات و اللكمات ..يتعاون الجلادون على تمزيق الشاعر ؛ وهم يتميزون غيظاً من صلابته و ثباته ...مما اضطر الجلاد الثاني " صفوت" إلى الإمساك بالشاعر  لاسيما بعدما تعب "خرشوف" من مهمته  و أخذ " صفوت" برأس الشاعر يضربها في جدار حوض المياه الشهير ..

وكأن الجلاد يريد أن يوقف هذا العقل عن التفكير و عن الإبداع .. فهذا هو وقر الشعر الذي ينتجه "عواد " ( المجرم) ..مازال الجلاد يضرب رأس الشاعر ..والشاعر البطل في اندماج عميق مع ملهمه :

 ثبتني ..أعني.. خذ بيدي..! وبدأ صوت الشاعر يخفت و يخفت ...فقد تهشمت رأسه و سالت منه الدماء بغزارة كغزارة شعره ..و وقع " عواد" مغشياً عليه يسبْح في مياه الحوض ..جاء الجلادون ..رفعوه من الحوض ليضعوه جثة هامدة أمام مكتب الجلاد الأكبر ..خرج الجلاد الأكبر ..ألقى على عواد نظرة متفحصة ..لا زالت شفتا الشاعر مضمومتين في حزم و إصرار ..والوجه مخضب بالدماء ..و في لحظة ..ارتسمت  برقة  على شفتي "عواد" بسمة..نعم ..بسمة .. بسمة الشهيد ولقاء الأحبة !