بائع الكلاب

بائع الكلاب

بلال الزين

[email protected]

 في ليلة ساكنة من أول الشهر القمري ، ما زال  القمر خجلا أن يظهر بكل بهائه ، فلم تبد منه الا عيناه وشِقاً من جبهته يميل على جنبه كعذراء في خدرها تنظر حياءً من نافذتها تراقب ماحولها , وفي احدى القرى النائية التي يربطها بالعالم الخارجي طريق ترابي متكسر الأطراف يحد جرفا هاويا على يمينه ،  بينما تعلوه يسارا قمم التلال .الطريق صعب المسار فلا تستطيع السير فيه الا السيارات ذوات الدفع الرباعي ، باستثناء الدواب  التي كانت وسيلة النقل المعتمدة لجل سكان القرية حيث لم يكن في القرية الا سيارة واحدة لم يبق منها الدهر أكثر مما أكل .
ولكن مايميز هذه القرية طيبة أهلها وسذاجتهم فكلهم أبناء عمومة ، عندما تشرق الشمس يذهب صاحب الأرض الى أرضه والتاجر الى تجارته ،عفوا فأنا أقصد العم عدنان فهو التاجر الوحيد في القرية وهو نفسه مالك السيارة صاحبة الشهرة . ثم لا يلبثوا أن يبيتوا مع غروب الشمس  ، و حتى هوام الليل تبيت عندنا ليلا  ؛ و رغم أن جميع أطفال قريتنا يعتبرون هذا الجو مثيراً  للاشمئزاز والملل  ، فلطالما تمنوا أن يذهبوا الى المدينة ويمشوا في شوارعها و يتبضعوا من  محلاتها ، فالمحظوظ منهم هو من ذهب يعتاد الطبيب هناك .
الا أن ذلك كان نعمة من نعم الله علينا ، فهذا السكون والأمان الذي يعيشه أهل القرية كانوا يحسدون عليه ولا زلت أذكر جدي حين كان يتكلم عن القرية أنها كنظامنا الشمسي فكل كوكب يسير في مساره المرسوم له ولايحيد عنه قيد أنملة قد تستغربون ذلك ولكن جدي كان من القلائل المتعلمين في هذه القرية وكان الجميع يأتون اليه ليحكم بينهم ويشير عليهم فقد كان كبيرهم .
وفي الليلة سالفة الذكر ، قرع بابنا رجل غريب قد أجهده السير وصعوبة الطريق ، فاستقبله والدي وقدم اليه مانعتبره واجبا علينا - حتى لو كان ابليسا زائرنا -  من طعام وضيافة وبشاشة استقبال , ناداني والدي كي أعد مكان نوم ضيفنا ، تأملته ، كان كل ما فيه غريب حتى شكله ولون بشرته ، و أذكر أنني رأيت واحدا يشبهه في ذلك الجهاز عند العم عدنان الذي يعرض أخبارا وكلاما لاأفهمه ، حيث يجلس و جَدي يتناقشان حوله ساعات طويلة.
في اليوم التالي أتى الناس للسلام على جدي وشرب القهوة عنده كعادتهم فدخل والدي مع الغريب الذي لم يكن قد رآه جدي في الليلة السابقة ، تغير وجه جدي وشعر بعدم الارتياح ولكنه قام وسلم عليه ورحب به ثم تداول الجميع الأحاديث ، و قد أخبرهم الغريب أن سيارته انقلبت في الجرف على الطريق القادم من المدينة ، و أنه خسر كل شيء مع سيارته ولم يعد لديه مايقتات به ؛ فتأثر الجميع لحاله ولكن كعادة القلب الريفي الذي ينمو كشجرة تحتضن الجميع تحت ظلالها و كأم رؤوم ترشق الجميع بنظرات حنان وعطف تدفعهم إلى الإنطلاق الى ممارسة شؤونهم الحياتية سعداء ، فقد منح جدي الغريب أرضا ليزرعها ويقتات منها وبنى له بيتا يأويه ، ثم بدأ حياته الجديدة كفرد من أهل القرية ؛ ثم بدأ يتقرب من الناس حتى أحبوه فقد كان ذو أسلوب ساحر و  لسان معسول  ، وكان يعمل بجد حتى غدا من أغنى أغنياء القرية .

 و كان كلما سافر الى المدينة  يحضر الهدايا للجميع ؛ ثم بنى له قصرا بطرف القرية وأحاطه بسور عظيم وعدد هائل من الكلاب التي كانت تزعج الناس نباحا ، و لكنهم تقبلوها وصاروا يأتون اليه ويكثرون من زيارته حتى أن جدي لاحظ أن أبناء عمومته انصرفوا عنه الى الغريب الذي آواه فلم يعر ذلك بادئ الأمر اهتماما يذكر فقد ظلوا لايقطعون أمرا دون رأيه .
توالت الأيام ودارت السنون وقريتنا كحالها يوم روتيني وعمل مجهد . الى أن أتت تلك الليلة السوداء عندما بدأ الناس يتصايحون بما حصل للعم عدنان فقد كان الغريب قادما من المدينة مع صديق له فرأى سيارة العم عدنان تميل على حافة الطريق وتسقط في الوادي العميق والذي كان يطلق عليه وادي الموت لما فيه من ضواري وتضاريس صعبة فذهب الجميع يتهافتون كي ينقذوا العم عدنان ولكن قد فات الأوان فقد ذهب الى رحمة الله . توالت على القرية أيام حزن على وفاة العم عدنان والتي كان جدي يصر على قوله ، أنه مقتل ابن العم عدنان ، ويبكي بكاءا مريرا تتفطر له الأكباد ،  بكاءا يحوي في طياته حياتهما سوية ولكنها مسطرة على صفحة الملامة وكأنه يلوم نفسه أن لم يكن بجانبه يذود عنه بل ويموت معه فما من داع لحياة  يحكمها  قانون الغاب . بدأت صحة جدي تتدهور رويدا رويدا وكان يرفض الذهاب الى أي طبيب الى أن توفاه الله حزنا على فراق ابن عمه ( العم عدنان ) تجدد حزن القرية على فراق جدي الذي كان سندهم وكبيرهم وأحسوا بفراغ كبير بعده ثم بدأت أحداث غريبة في القرية من فقدان أشخاص وسرقات وقتل ........
كل ذلك جعل الناس يشعرون برعب شديد و داخلهم شعور بالعجز فما وسعهم الا أن يلجؤوا الى الغريب الذي كان قصره يعج بالأغراب من شاكلته والذي كان يستغل مصائب الناس فيشتري من الورثة أراضيهم وحتى أنه اشترى دكان العم عدنان بعد موته بيومين اثنين فقط ,
ذهب اليه أهل القرية وشكوا اليه حالهم ففكر مليا ثم أشار عليهم باقتناء كلاب تحرسهم ففعلوا واشتروا منه كلابا كثيرة من كلابه فلم يعد في القرية بيت يخلو من كلب حراسة حتى غدت قريتنا مزرعة كلاب عاش الناس بعدها أياما عديدة بسلام وعادت الحياة الطبيعية الى القرية ولكن ذلك لم يدم طويلا ,  ففي ليلة بياضها أحلك من سوادها وثلجها أقذر من وحلها هوجمت القرية و نُهبت بيوتها فقتل من قتل و لم يبق الا الأطفال الذين زالوا يحكون لأحفادهم أنهم مازالوا ينتظرون كلابهم كي تنبح .