زيارة كان لابدّ منها
زيارة كان لابدّ منها
فاطمة محمد أديب الصالح
كم مرة سأقرع الباب الخشبي القديم.. في حارتكم الضيقة، وكم مرة ستخرج أيها الفتى لتعتذر، فأرثي لعرجتك الخفيفة، وأرتاح لوجهك الصبيح.. وأقبض على يد صغيري أفرغ فيها بعض حزني ونفاد صبري..؟
- آسف.. غير موجود، -آسف.. ظننته سيعود اليوم من المصيف، -أنا خجلان منك والله.. تعرفين أن سنّه لم تعد تسمح.. لم يعد اليوم.. أرجوك، تفضلي بالدخول.
دخلت لأمكث قليلاً في غرفة قديمة.. لولا هذا الفتى لظننت أني في بيت مهجور.. لكنه يعبق بأُنْس سنين مضت.. في شكل الكنبة ذات الخشب المحفور المذهَّب، في القماش الثمين يحمل صوراً طبيعية حائلة اللون يغلف كل كنبة، في أطباق الصيني الشهيرة برسومها الزرقاء معروضة على طاولة في وسط الغرفة.. (الكُتبيّة) وهي أرفف داخلة في الجدار رُصَّت فيها أطباق وفناجين وأكواب يبهج،عادة، أصحاب الدار أن يراها زوّارهم، ومن سقف الغرفة تدلى سلك ينتهي بثريا قديمة بسيطة لا تتناسب مع غيرها من الأثاث، إضافة إلى فقدها ثلاثة مصابيح.. ثمة خيوط عنكبوت تتدلى من إحدى الزوايا.. بلاط الأرض أبيض محلى بمربعات صغيرة سود.. باب الغرفة طويل نحيل ذو مصراعين ومقبض شبه مخلوع.. النوافذ عالية عن الأرض تطلّ على فسحة سماوية، تبدو منها أجزاء من شجيرات متكاثفة يانعة الخضرة..
أأنا في متحف لا يلقى العناية.. أم في غرفة من بيت عربي الطراز، قديم، فقد رجاله ونساؤه الرغبة في الحياة فجأة.. فإذا بجماله يشحب دون أن ينتهي..؟
وما الفائدة من دخولي بعد ما شاهدت من خجل هذا الفتى، ذي الستة عشر ربيعاً.. والربيع يتبدى أكثر في عينين خضراوين، يجمّلهما جحوظ محبب وأهداب كستنائية كثيفة في وجه شاحب بشوش..
أحضر الفتى كأساً من الشاي لم أستسغ ثقلها وحلوها، ارتشفت رشفة ثم أعدتها إلى طاولة صغيرة أمامي..
- في أي صف أنت؟
- تركت الدراسة منذ..
- آه..نعم، وإخوانك كذلك؟
- كلهم تركوا المدرسة.. الصغير فقط يتابع، إنه الآن في السنة الرابعة.
- خيراً.. تعملون جميعاً في المكتبة..
- نعم، نتناوب.. أخي الأكبر في الخدمة العسكرية..
ازدردت ريقي.. الأب الذي أحاول رؤيته منذ أسبوع غير موجود.. متى سأحظى بهذا اللقاء.. متى يا ربّ!
تحدثت بتردد وخجل وكأني تلميذة جديدة..
- تمنيت ألا أثقل عليكم.. لقد سمعت من بعضهم.. لكن تعرف، أتمنى أن أسمع بنفسي..
هزّ رأسه الأشقر.. بدا معتاداً سماع هذا الكلام.. ابتسم وقال:
- طبعاً.. معك حق، أبي يحب ذلك.. يريد أن يُطَمْئِن الجميع.
- جزاه الله كل خير.. قلتها من أعماقي
- متى أعود إذن..؟
- غداً.. وعدني أن يكون غداً هنا إن شاء الله.. تفضلي بعد العصر..
خرجت إلى الدهليز الواصل بين الباب الخارجي وساحة الدار.. لمحت نوراً وأشجاراً.. وفستقية صامتة في بحيرة من الرخام المجزّع.. أوراق الشجر تتناثر على الأرض بكثرة.. ولا حياة في الدار..
*****
أصبحت في الحارة المعتمة.. في حيّ قلما طرقته من قبل.. أسمع عن عراقته ورطوبته وجمال دوره المختبئ خلف الأبواب السميكة الكئيبة والجدران العالية.. دور قلاع من الخارج، وجنان أرضية في الداخل..
تململ صوت ابني..
- سنعود مرة أخرى يا أمي؟
- نعم .. لا بد أن نعود.. ألا تريد الاطمئنان على أبيك؟
- بلى .. هو رآه؟
- هكذا قيل لي..
- يعني .. كان معه في السجن؟
- لست أدري.. لم أتأكد.. أما سمعت بنفسك.. أما رأيت؟
لم يأبه ابني بثورتي التي يعرف مداها..
- يعني .. هو كان يعرف أبي من قديم..
- كان جاره في بيت أهله، كفاك أسئلة.
برطم ابني ذو الأعوام التسعة وصمت.. وساعدني صمته على شقّ طريقي بين المارة الذين اكتظ بهم الشارع .. في أمسيات الصيف يكثر الناس وتصبح خطواتهم متكاسلة متقاربة.. يجب أن أظفر بسيارة تعيدني إلى بيتي قبل حلول الظلام.
وتحاصرني صورة تلك الغرفة التي كنت فيها، من جديد..
لقد بلغ حزن ثماني سنوات مبلغه في ذلك البيت الجميل الأصيل.. إن كل زاوية فيه تشكو إهمالاً لا تستحقه.. أين هم.. ماذا فعلوا في غياب أبيهم، وكيف هي أمهم، ماذا تفعل؟ كيف كبروا، كيف استطاعت.. كيف أصبحوا هكذا متسقي الأجسام وسيمي الوجوه، لبقي الحديث؟
عرفت الأب من خلال أحاديث زوجي.. جار قديم ودود، تميزه صراحة وعصبية في الطبع ونكتة لاذعة.. على مكتبته إقبال ومعظم مبيعاته من الكتب المتخصصة في علوم العربية والدين.. وكان يوماً حزيناً طويلاً ذلك اليوم الذي بلغنا فيه نبأ اعتقاله.. لم يخفف عنا سوى أخبار المزيد من الاعتقالات في ذلك الزمن الباكي دموعاً ودماءً ورعباً..
أَدْمَنّا ذلك زمناً ليس باليسير.. وكنت أظن أني بمنجاة من هذا الوباء.. وأن زوجي لا اسم له في تلك القوائم السود التي لا ندري كيف كتبت، ووفق أي معيار..
لم نكن نملك مشاركة أكبر من الحزن ودمعة القلب.. إن الإخلاص لمن تحبهم حتى دون أن تعرفهم، يأمرك بذلك أمراً لا خيار لك فيه.
الشارع على ازدحامه هادئ .. ربما بسبب الإضاءة الخفيفة..ربما لأن الناس أصبحوا أميل إلى الصمت.. إن أصوات الباعة هي المهيمنة: كازوز بارد، بوظة، ذرة مسلوقة، ذرة مشوية.. مع الرصيف يمشي الباعة يدفعون عربات بأيديهم.. أو يتخذون زاوية من الرصيف مركزاً لهم.
- أريد ذرة مسلوقة..
- لا أحب أن نركب وأنت تأكل..
- عطشان .. اشتري لي (كازوزة)
- سنحتاج للوقوف حتى نَرُدَّ الزجاجة.
- أرجوك، بوظة.. عطشان.. مشينا كثيراً
تكور خدَّاه تحت عينيه الطفلتين وهو يمثّل أنه يبتلع ريقه بصعوبة ليقنعني، ثم برطم من جديد.. والتمعت عيناه: كل شيء ممنوع، لماذا أنت مستعجلة؟ سنصل البيت، ماذا في البيت؟
ماذا في البيت، معه حق ابني.. لماذا أستعجل العودة..؟ ماذا سوى الوحشة والصمت وجمال المساء يعتصر قلبي، وأنا أروي أحواض الزريعة التي تنمو باطراد في الشرفة، أتذكر كيف غرس الأب الغائب كل نبتة فيها وكيف رعاها وكيف سقاها ..
ولما تماسكت وجدتني أسأل ابني: ماذا قررت؟ ذرة أم كازوز .. نظر إلي دهشاً فرحاً وهزّ كتفيه: كما تحبين ..
تمنيت أن أحتضنه أمام هذا الجمع من البشر .. أن أخفيه في أعماقي ..اشتريت له ذرة مسلوقة .. تفوح رائحتها شهية طازجة تميز هذا الوقت من العام .. أواخر الصيف.
لفه البائع بورق صحيفة بعد أن انتشله من القدر الكبير ة التي ينعقد فوقها البخار، وأغدق عليه الملح جيئة وذهاباً..
- أليس من الأفضل أن تنتظر لنغسله في البيت ..
صرخ محتجا وهو يستعد للقضمة الأولى رغم حرارتها : ماما !
- لا بأس كل، لكن حبر الصحيفة ضارّ.
اشتهيت واحدا .. آكله ماشية كما يفعل الناس من حولي، لكني لا أستطيع أن أفعل ذلك وأنا وحدي .. ليس من يشاركني كلمة أوفكرة..
أواخر الصيف ..
كيف اتفق أن آتي في أواخر الصيف، لأطمئن على زوجي الذي اعتقل منذ سنوات ثمانٍ في مثل هذا الوقت من العام .. في صباح جميل وآسر، خرج ولم يعد مثل آلاف غيره .. ثم أصبح السؤال عنهم جريمة .. لابد أنه، وقد غاب كل هذا العمر، صنف مع المتآمرين على أمن الوطن وسلامته .. تتكرر هذه الظاهرة كثيراً في بلادنا .. الصائمون المصلون المتسنمون ذرا الطهارة والاستقامة يتآمرون على أمن الوطن .. لعلها مصادفة ..
هذا الشارع خبرته أثناء دراستي كثيرا .. كنت أحضر لتغليف أماليَّ الجامعية، ثم أغتنم الفرصة فأتفرج على واجهات المكتبات التي تملؤه .. كانت متعة كبيرة ودون مقابل: الكتب الجامعية والروايات والدواوين الشعرية، والمؤلفات القديمة الرصينة أعيد طبعها أو تحقيقها في أثواب جديدة قشيبة .. تفتنّ كل مكتبة في عرض مبيعاتها ..كل الجامعيين يجدون ما يبغون من كتب ومراجع .. وكذلك محبو القصص والتسلية .. وكذا الأطفال يجدون حكاياتهم وأدواتهم المدرسية .. هنا كان عالم جميل أحببته، وكان أجمل العوالم إلى أن رزقت بابني هذا الذي أقبض على كفه الصغيرة، ولا أبالي أن يأكل بصعوبة بيد واحدة، لأن كفي يجب أن لا تفلت يده أبدا ..
******
بين الحين والآخر لابد أن نعود إلى هذا الموضوع .. يجمع ابني أصابع يده الخمس معاً كمن يستمهل .. ويتساءل ببراءة وحماس: _ لماذا، لماذا .. لا أعرف .. لماذا لا أراه ولا مرة واحدة .. كيف؟ لا أفهم ، أتمنى .. يا الله .. لو يخرج ..
- لست وحدك في ذلك .. أنت تعرف.
- أعرف.. أعرف ..هم كثيرون وصابرون، وسيفرج الله عنهم، ولكن .. طارق مثلاً .. يعرف أباه .. ليس مثلي .. يتذكره تماما.
- هو أكبر منك..
ضرب سريره براحة كفّه وقال بلهجة مستسلمة:كأني دون أب.
- ألوف الأطفال المسلمين لا أب لهم ولا أم ولا بيت .. فانظر .. ألست في نعمة كبيرة؟
- بلى .. الحمد لله ..
ابتسم وهو يتلقى قبلتي، وبدأ يتلو الآياّت والأذكار .. وانتظمت أنفاسه قبل أن ينتهي.
أجري وراء سراب .. مع كل خارج من السجن .. وما أقلهم، لن أسمع سوى الكلمات المعهودة: هو بخير .. اطمئني ..شطر العبارة يذكرني دائماً برسائل الفلسطينيين إلى ذويهم خارج فلسطين: اطمئنوا وطمئنونا عنكم .. تلك التي طالما سمعتها وبكيت لأصوات العجائز والشيوخ والفتيان والأطفال يحمّلون الأثير رسائلهم العاجزة عن كل شي .. عن تصوير اللوعة والحرقة والشوق، وعن تغيير ما هم فيه، هي تؤكد أنهم على قيد الحياة فحسب ..أما زوجي السجين فيصعب أن أعرف باستمرار أنه على قيد الحياة..
لكني سأذهب، لن أكتفي بما وصلني عن طريق الناس، سأذهب من أجل الطفل الذي يحلم بخبر عن أبيه وقد بات يائساً من رؤيته ..
وكيف أقضي هذه الليلة، وسحابة نهار غد؟ .. أتأمل الليل وسكون الشارع الذي يزداد .. أحلم أن عودة زوجي وشيكة طالما أن ذلك الجار العزيز عاد؟ وما الفائدة؟ ما الذي سيختلف بعد الزيارة؟ أما اعتدت ؟ بلى .. كثيرا! وإلى حد يذهلني ويخجلني ..
****
طرقت الباب من جديد .. وقلبي ينتفض .. فتحت الباب هاشّة باشة امرأة تقارب الخمسين .. بوجه قمحي كئيب رغم الضحكة فيه، عرفتها بنفسي فازدادت ترحيباً وأدخلتني إلى غرفة الأمس .. طلبت الشاي من ابنتها الصبية الجميلة .. وعدتني بحضور زوجها فورا ..
- الحمد لله .. لا تيأسي .. لقد تعبت كثيرا، وأخيرا فرّجها الله.
- الحمد لله على سلامته.
كانت الأسئلة تتدافع في رأسي .. ليتني أعرف قصتها منذ اعتقل زوجها وحتى لحظة خروجه .. لكني استمعت:
- ياه .. كان يوماً .. لم نصدق .. أنزلوه قريباً من الباب .. بعد الظهر .. كان ابني الأكبر قادماً من رأس الحارة .. تخيلي ظنه عمه .. لم يتوقع . . حين اقترب ورآه .. سقط فوراً على الأرض .. لم تحمله رجلاه .. فتحنا .. فتح ابني الآخر، ارتمى على أبيه .. شيء لا يصدق، الصغير لا يعرفه.. حين قلنا له هذا بابا التصق بي .. لم يألفه إلا بعد أيام ..
كان ثمة كلام كثير بين الوقفات والتنهيدات.. والدمعات الغادرة.
- وأنت .. ؟ (كيف أخفي لهفتي؟) كيف استقبلت هذا ..
ضحكت.. تنحنحت وشدت ثوبها عند الخصر، وأجابت كالمحرجة:
- أنا .. ناداني الأولاد .. تعالَي.. كنت في المطبخ .. عندنا زائر يريد أن يراك .. أقبلت ..لم لا يقولون من هو ..
توقفت عن الكلام .. ثم أضافت: الحمد لله .. ما بعد الضيق إلا الفرج ..
- وصحته ..كيف كانت ..
كيف يسبقني لساني هكذا .. أضع أصابعي الفضولية على مواضع الألم .. لماذا أعذبها وأعذب نفسي؟
- الحمد لله .. هو أحسن كثيرا الآن .. قبل دخوله السجن كان يشكو ضعفاً في عينيه و(معه) عصبي ..
- عافاه الله ..
وسمعت صوت الرجل، لاشك .. وصل ينتعل حذاء منزلياً ويخفي منامته بثوب جيد التفصيل، يبتسم بحنو وأبوة وراء نظارة سوداء .. دخل بخطى بطيئة، وانحناءة خفيفة في ظهره .. علا صوته بالترحيب .. ثم جلس يتذكر جيرانه وابنهم الفتى ثم الشاب .. أأسأله فوراً أم أتركه يتحدث .. وماذا أسأل؟ إنه ليعرف ما الذي أتى بي هنا، وحسن منه ألا يكلفني حرج السؤال.
- طمأنت كثيرين، جاءني كثيرون .. لم أخش أحداً، قيل لي إني مراقب، لا يهم .. ماذا سيفعلون بي أكثر..؟!
من خلال ابتسامته كنت أرى أسنانه خالطها السواد وبعضها اختفى.. ظننته يبدو أكثر شيخوخة ومرضاً وكآبة.. إنه يتحدث بالروح نفسها التي تخيلتها من خلال حديث زوجي عنه.. وبخاصة النكتة الحاضرة التي لا يوفر فيها نفسه..
- أرأيت أسناني.. الحلوى كثيرة في السجن ..
لم أفهم، وبدا كأن ثمة لغزاً بين الزوجين .. إذ همهمت هي:
- إيه.. الحلوى بالحصى.
لم أعد أستطيع التروي..
- تعتقد أن الجميع سيخرجون قريباً ..
- هذا هو المفروض .. منذ عامين أنا في سجن مختلف.. ممتاز.. الحمد لله..لولا هذان العامان ما رأيتني الآن على هذه الحال.. لكني لا أستطيع أن أعد.. لا يمكن.. الثقة مستحيلة..
والتفت إلى ابني الصامت طوال الوقت وكأنه رآه اللحظة: ما شاء الله.. ابنك.. كأنه جارنا الصغير.. ما شاء الله..
تمتمت بكلمات امتنان .. لكني في الانتظار .. وقلبي المضطرب لا يستطيع أن يصمت أكثر: رأيته هناك إذن ..
اعتدل في جلسته .. وكان يترك كفيه تتدليان خارج ذراع الكنبة .. وقال بروية:
_ منذ عامين.. هناك.. قبل نقلي .. وصلني منه سلام خاص وتأكيد أنه بخير .. عن طريق سجين انتقل من مهجعه إلى مهجعنا كان قريباً جداً ..لكني لم أره..