صغيرة ولكن

صغيرة ولكن

عبير الطنطاوي

[email protected]

(سعاد) صغيرة جاءت في الوقت غير المناسب .. تلك الكلمات التي كثيراً ما تكررها (ياسمين) عن صغيرتها التي جاءت إلى الدنيا عقيب ولادة (سها) بسنة تماماً، (إنها لم تعط الصغيرة الأولى المسكينة فرصة لتشبع من حليب أمها) هذه الكلمات كانت تتردد في أرجاء المنازل المتعلقة بياسمين، وكأن المسكينة شوكة في حلق الجميع، لا زهرة جاءت تكمل الجنة التي كانت تعيش فيها ياسمين مع زوجها وابنتها ..

في عيد ميلاد الصغيرة الأول (سها) كانت الصغيرة الثانية تتأهب للخروج إلى الدنيا التي رفضتها قبل أن تأتي فقد حضرت علامات الولادة في ليلة الحفلة الكبيرة بهذه الحبيبة الصغيرة، فقضت الأم الحفلة وهي تتأوه وتتألم وما إن غدت الحفلة في منتصفها حتى حملت ياسمين إلى مستشفى الولادة لتضع الطفلة في الوقت الضائع كما كانت الألسنة تتحدث .

كانت ياسمين تنظر إلى الصغيرة على أنها غاصبة لحقوق ليست لها ، فقد اغتصبت الحليب من ثدي أمها من سها واغتصبت اهتمام أمها من سها وحتى حفلتها وفرحتها اغتصبتهما اغتصاباً من سها.

كانت ترى في عيني الصغيرة ذات الأيام القليلة عتباً متوهماً من تأنيب ضمير داخلي تحاول إسكاته بل تجاهله، لديها مشاعر أمومة مندفعة فهي عطوف جداً ولكن هذه المشاعر تحولت تجاه الصغيرة إلى مشاعر حقد لأنها زاحمت الصغيرة الأخرى في حياتها معها، كانت عندما تضمها إلى صدرها تشعر وكأن الطفلة الرقيقة تسرق الحب والحليب والدفء والأمان من أمها سرقة ، ومع ذلك ما كانت تلك المشاعر إلا لتزيد من كره الأم للصغيرة ، وتكبر الصغيرة وتلك المشاعر تلاحقها كظلها فتنغص عليها الجلوس في حضن أمها أو الاقتراب منها مما كان يزيد من مشاعر الغيرة والحسد للأخت الكبرى البريئة من ظلم الوالدة وتفاهة من حولها ، ولكن كان في نفس الأم دائماً صراع داخلي لا تعرف منتهاه فهي دائماً تتساءل في نفسها : لم جاءت الصغيرة الثانية بهذه السرعة ؟ ما حكمتك يا رب؟ فقد ثقل الحمل على الأم التي لم تتجاوز العشرين بعدُ من عمرها طفلتان وزوج مشاغب فوضوي وأهل زوج لا يرحمون وأهل بعيدون بعيدون ، يا ليتها تأخرت سنتين أخريين .

وبدأت الأمراض تسري إلى الأم الصغيرة فهي دائمة الشكوى من آلام رأسها وضيق عنيف في صدرها وكأنها تختنق كلما دخلت إلى المطبخ فلا تخرج منه إلا والتعب قد نال منها كل منال ، تحاول النوم ولكن كيف ؟ فصغيرتها الكبرى لا تزال في بداية المشي وقد تقع وقد تؤذي الصغيرة الثانية التي سبحان الخالق كلما أشرق عليها صباح أشرق وجهها الملاح وازدادت قوة وقدرة من عند الرحمن حتى إنها حبت مبكراً وبدأت تمشي على الجدران تلاحق أختها بحب وغيرة ، وترنو بأسف وفهم وعتاب إلى الأم المريضة الدائمة العمل والتي عندما تفرغ من عملها تجلس الصغيرة الكبرى في حجرها . وإن تعطفت تبعث بنظرها إلى الصغيرة الأخرى وترسل لها ابتسامة ممتعضة .

في أحد الأيام الشتوية القارصة البرودة ، حيث السماء ترعد وتزبد ، والأمطار تنهمر بشدة ، وأصوات الرعد تملأ الكون وتصدر في القلوب الصغيرة صدى الخوف والوهن ، قررت الأم أن تجهز أدوات استحمام الصغيرتين لأن الجو لم ولن يهدأ وزوال المنخفضات الجوية في علم الغيب ، وأوقدت سخان الماء العامل على الغاز ، وبدأت تغسل الصغيرة (سها) أولاً وبعد أن أنهت عملها وكانت قد غلقت الأبواب والنوافذ دونها حتى لا تبرد الصغيرتان بعد الحمام ، وقامت لتغسل الصغيرة الأخرى شعرت بدوار شديد وعنيف يحاول أن يقذف بها في الحمام وبين يديها الصغيرة، ولكنها تجاهلت وقاومت حتى أنهت عملها كاملاً ، وما هي إلا دقائق حتى جاءها زوجها يطلب منها إعداد القهوة للضيوف ، حاولت أن تنطق بما ينمّ عن حالها ولكنها شعرت بثقل لسانها ، ومع ذلك جاهدت وقامت وحضرت وهي تكاد تتهاوى مغشياً عليها ، ولأن الصغيرة سها هي الروح والقلب والأخرى (في الوقت الضائع) فقد كانت سها مع ياسمين في المطبخ بينما الصغيرة الأخرى تتخبط وتبكي محبوسة في الغرفة الأخرى بحجة أن الدنيا برد والمطبخ صغير لا يتسع إلا لصغير واحد مع الأم، ألمطبخ صغير أم قلب الأم ضاق عن الصغيرة الأخرى ؟

سلمت القهوة لزوجها وعلى وجهها صفرة كصفرة الأموات ، سألها زوجها عن حالها ؟ هزت رأسها : أن لا شيء . ولما أحست باقتراب الأجل وساعة الصفر لم تفكر إلا بالصغيرة الأولى فأخذتها ووضعتها في الحجرة الأخرى وذهبت هي إلى الهاتف تستنجد بجيرانها لأنها لم تقو على بوح الأمر لزوجها حتى لا يتهاون في أمرها وقد يسخر منها ، ولكن السماعة تسقط من يدها وهي تسمع صوت المتحدث يقول متأففاً : أجب أجب من ؟ وهي قد جحظت عيناها لترى الموت يحوم فوق رأسها ، وغابت عن هذه الدنيا وفي قلبها غصة وغصات ماذا فعلت في دنياها لربها ؟ وظلمها للصغيرة سعاد ، ومن سيرعى الصغيرتين ؟ أما سها فكانت معتادة على فتح الأبواب واللحاق بأمها فلم يكن منها إلا أن لحقت بأمها وأصابها من تسمم الغاز ما أصاب أمها وانهارت في شبه غيبوبة إلى جانب الأم ، أما سعاد الصغيرة فكانت ممنوعة من اللحاق بالأم فلم تستطع سوى أن تفتح النزر اليسير من الباب لترى أمها وقد جمد الغاز عينيها مسجاة على الأرض والزبد يترقرق من فمها والصغيرة الأخرى إلى جانبها تحاول أن تسرق أنفاساً غالية من هذا الجو المسمم ، فما كان من صاحبة الأشهر العشر إلا أن تركض إلى والدها وكانت في بداية مشيها المتعكز ولا تقول سوى كلمة واحدة والدموع تملأ الأجفان والصوت تهزه الأحزان : بابا ماما وتشير إلى الحجرة الأخرى . ابتسم الوالد والضيوف وفرحوا بهذه الحسناء وهي تتفوه بأحب الكلمات إلى قلب الوالدين وانشغلوا في الثناء عليها ولم يبالوا بما تريده ، إلا أن الصغيرة أعادت الكلمات بنبرة ذعر أشعرت الوالد بشيء من القلق ، استأذن الضيوف، قام إلى الأم ليرى حال الأم والطفلة بتلك الحال المروعة ، خرج كالمجنون نحو رفاقه يصرفهم بهلع ثم أمسك بالهاتف يطلب عون الجيران الذين هرعوا إلى إخراج الطفلة الكبرى لتستنشق الهواء النقي وعمدوا إلى إخراج الصغيرة الأخرى أيضاً وبدؤوا عملهم في سحب الأم التي لم تكن تزن في حالتها العادية سوى بضع وخمسين من الكيلوات أما ساعة الإنقاذ وما أصابها من تنفخ وارتخاء فالله وحده يعلم كم ثقل وزنها ولم تقو الأيدي الفتية على سحبها إلا بصعوبة .

أما ياسمين فقد عرفت طعم الموت قبل أن تبتلى به حيث العينان مفتوحتان من دون أن ترى شيئاً ممن حولها ، وحيث اللسان ثقيل يريد أن يقول لهم أعطوني هواء ولكنه ثقيل لا ينطق ، سمعت الجميع يقول ماتت ، خذوها للمستشفى لعلها تعيش ، والذي يناديها بحرقة محب من الجيران : ساعدينا يا ياسمين ، تحركي لننقلك إلى الهواء النقي ، وسمعت من تبكي فوق رأسها ، ومن تقول الله يعين الصغيرتين على الفراق . ضجة من حولها.. العالم كله يحاول أن يساعدها ولكن لا أمل ، صدرها يضيق أكثر فأكثر ليس فيه ذرة هواء ، الأقدام فوقها وهناك من يشدها وأخيراً أحست بنسمة هواء تدخل رئيتيها ، هنا أفاقت قليلاً ولكنها تشك هل هي صحوة الموت ؟ لا .. إنها رحمة الله ردت إليها روحها من جديد لتعيش لربها وأطفالها ، ولكن أين الصغار ؟ سألت عندما زال الثقل عن لسانها قليلاً بلهجة الخارج من قبره : أين البنات ؟

وجاءها صوت حبيبة إلى قلبها : لا تخافي هما بخير .

قالت : أغلقوا الأبواب البنات مستحمات .

ولما أحست بالموت مرة أخرى يحوم حولها أمسكت بيد صديقتها تبكي وتقول بثقل :

-البنات أمانة في رقبتك .

ولم يستطع الزوج أمام ما حصل سوى أن يركض بها إلى المشفى ،

في الطريق استعرضت كل حياتها فما وجدت فيها ما يسعدها في آخرتها تمنت من كل قلبها فرصة أخرى للحياة مع الأولاد والزوج والأهل بعيداً عن الكآبة التي تعيش فيها منذ دهر، تمنت لو تعبد الله كما يحب أن يراها تعبده ، تمنت وتمنت .