الجبل

الجبل

قصة: سهيل أبو زهير *

[email protected]

     أطلت برأسها تحاول تصفُّح ورقة تكاد تتطاير شظايا من بين يديها المرتجفتين... كان القمر بعيداً بعيداً… لكنها تريد أن تقرأَها ... صاح بها هاجس دائماً كان يراودها:

    "إلى متى تظلين تحملينها في صدرك خائفة متوجسة تنامين بها بين المقابر...؟! "

    الأشباح من حولها تتراقص ولا تظهر لها إلا بصور أولادها العشرين.

    لم تستطع "توحيدة" رغم محاولاتها المتكررة جمعهم حولها... بعضهم لا يحب حياة المقابر مشرّداً وكثيراً ما كانوا يصرحون بذلك... أصرت توحيدة – رغم القلق الذي يطقوها- أن تكسر حاجز الخوف ... فتحت الورقة وما زالت يداها ترتجفان... أخذت تقرأها كلمة كلمة:

    "أنت جميلة يا توحيدة رغم أن عينك قد فقأها أحد أبنائك بحجر ... ورغم ذلك الشحوب الذي يعلو وجهك فأنت جوهرة نادرة"...

    وبينما هي تطوي ورقتها سقطت بالقرب منها قذيفة... ارتجفت ورأت كأن أولادها يموتون أمام عينيها... دفعتها الصدمة حتى تكورت حول نفسها... استجمعت أطرافها وجرجرتها نحو الحدود لتلحق بهم إلى المجهول.

    ظلت هناك مشردة قرب الحدود تتلفت حولها وتسير بلا هدى ... توقفت فجأة تنظر إلى ثيابها عبر استدارات بطيئة حول نفسها .. فكرت ملياً.. هل سيقتنع ذلك الحارس ويسمح لها باجتياز الحدود والأسلاك الشائكة؟ .. قد تدفعه حالها لأن يمنحها بعضاً من عطفه.

    تذكرت أبناءها العشرين فتشجعت وبدت عليها علامات الشموخ والكبرياء ... رفعت رأسها عالياً فأحست بالشباب يدب في أوصالها … قررت الظهور له بطبيعتها فظهرت... رآها الحارس فصرخ:

    "هو أنت؟!"

    قالت ، وقد بدت عليها علامات السرور:

    "قد عرفتني إذاً"

    كشّر عن أنيابه ثم صوب سلاحه نحوها:

    "خذيها بين عينيك" وأطلق عليها النار.

    كانت نسمة من الهواء تمر بالمكان فدفعتها للخلف… داست طرف ثوبها بعقبها فسقطت على الأرض... تراجعت بقوة عجوز مذعورة تلطم خدها وتندب حظها.

    في تلك الليلة عاودت توحيدة النظر في ورقة جدها.. قرأتها على ضوء القمر... هبت مذعورة وكأنها تقرأها لأول مرة، وشيء يدفعها نحو الحدود… وبينما هي مندفعة إذ بأولادها الخمسة الذين لم يغادروا يحيطون بها ثم يقعون أمامها ساجدين:

    "لا .. لا تغادري يا أمّنا.. من لنا سواك بعد الله؟! لا تتركينا للضياع" وبكوا… بكت لحالهم... لم تفكر طويلاً فاستجابت لهم وعادت معهم تحت جنح الظلام... ذهبت – يوماً- خلسة إلى مشارف الجبل… نظرت إليه فرأته بعيداً بعيداً وكأنه على سطح القمر…عادت أدراجها ... كانت متوترة ، فقد أصبح الجبل قفراً وازداد اليأس منه.

    تجرأ الناس فسافروا إليه... صاحبتُه أحبت رؤيته فقط في منامها لتلتقي على سفحه أحبتها... جدّها وأباها وأبناءها، فتراه بلا صخور... تضع يدها على سفحه وتمرّرها عليه فلا تتعثّر.. تقول مبتسمة:

    "ها أنت ذا بلا شوك... ما أجملك.. لابد يوماً أن أعود إليك فانتظرني"... تظل سعيدة حتى يوقظها ضجيج الجيران العائدين من هناك.

    لم تعلم توحيدة – بعد- بعودة أبنائها إلى الأرض الجنوبية، فما زالت بعد تحلم وتحلم.

    طال انتظارها لهم ... تمنت لو أنهم يلحقون بها.

    خلت يوماً بنفسها تلومها، فقد أصبحت منبوذة حتى من أولادها الذين تحبهم... فكرت أن تترك هذه الأفكار وأن تعود عن أوهامها وأحلامها الحمقاء وتذهب إلى أولادها... بكت وبكت... رفعت يديها وعينيها في شخوص نحو السماء وابتهلت.

    أسقطت يديها وجففت دموعها... جلست على صخرة صغيرة تريح أعصابها وهي تضع عصابة حمراء على رأسها فقد كاد ينفجر.

    نهضت متنهدة تنشق كل الهواء من حولها... أسدلت ثوبها الجميل والتفت من جديد بشالها الأخضر.

    بدا لها شيء يشق الغبار من بعيد... ارتبكت وتراجعت إلى جانب الطريق... مرّت من أمامها فرس بيضاء شاردة تتجه نحو الجبل... فجأت أحست بقدميها تندفعان للركض خلف الفرس... الفرس تعدو وتوحيدة تحاول خلفها ، فتعثرت.

   عادت لتقف... لملمت أشلاءها المحطمة وأسندت كتفها إلى نتوء على جانب الطريق... أخذت تنظر الفرس التي بلغت الجبل ليذوبا في صورة اهتز لها قلبها... وتظل توحيدة تتلهى بتقليم أظفارها بأسنانها وهي تشهد الذوبان الخالد، لكن…سرعان ما تستيقظ من حلمها على صوت جيرانها حين يحزمون أمتعتهم يريدون الجبل... تطل عليهم من النافذة وآثار الإعياء والهزال بادية عليها... كانت تضع يدها على عينيها لتحجب ضوء الشمس الذي باغتها... لوّحت لهم مودعة:

    "رافقتكم السلامة... حافظوا عليه... غداً يلحق بكم أبنائي ليستردوا منكم الأمانة".

    تتعالى الضحكات والقهقهات ويسير الركب فتعود إلى أحلامها.

    كانت الفرس تمر كل يوم من هناك... أصرت توحيدة أن تصل إليه مهما كلفها ذلك... استيقظت – يوماً- مبكرة... لبست أجمل ثيابها لتلقى بها أبناءها وأهلها.

    أقبلت الفرس من بعيد فاعترضتها... حاولت الهروب منها لكنها ظلت متماسكة مكانها حتى تعلقت بعنقها... حاولت امتطاءها فلم تستطع... كان خطامها أقرب إلى يدها فتمالكت حتى عقدته بمعصميها.

    الفرس تتململ وتحاول التخلص من توحيدة ... مرة ومرة ... أهوتها عن عنقها... حاولت أن تعود إلى العنق فلم تستطع... تلقفتها الأرض بصخورها ونتوءاتها... القيد ما زال في معصميها... صوت ينبعث في أرجاء الوادي:

    "يالها من معركة بشعة... أحد أطرافها مكبّل!!! يجب أن تستيقظي يا توحيدة... من يوقف الفرس المندفعة نحو المستحيل؟!!... أي ظلم هذا؟!... أي ظلم هذا؟!"

    فجأة انقطع الصوت... الدماء مازالت تسيل وشعرها أحرقته شرارة انبعثت من احتكاك رأسها بصخرة عنيدة... الفرس – بعد- لم تصل... الرحلة طويلة والجيران لم يعودوا ليوقظوها بضجيجهم.

        

* كاتب وشاعر من فلسطين