شنتة حمزة
شنتة حمزة
شعر: محمد الخليلي
جلس غارقاً في تفكيره كيف ستكون حاله إذا لم يستطع وفاء ديونه التي تراكمت عليه من كل حدب وصوب بسبب تعثر تجارته وبوارها ، فهل سينظره الناس قليلاً ، أو على الأقل (يجدولون) له ديونه كما يُسمَّى في عالم الاقتصاد , أم أن السجن أصبح قاب قوسين أو أدنى؟
يمر يوم إثر يوم والحال تسوء والديون تتراكم وموعد سدادها يتسارع ولا تلوح في الأفق أية تباشير .
أد لهمَّ الخطب وبدأت تعصف( بأبي عُجالة ) مشاعر من الإحباط والفشل وغاب عن ذهنه أن ضيق ذات اليد قد يكون ابتلاًءً من الوهاب .
قرع جرس الباب فإذا ضيف عزيز قدم من بلد مجاور حاملاً معه –كعادته- هداياه التي هي أثمن ما عنده كفلاح يستثمر أرضه ، عسلاً وزيتوناً وزيتاً . هذا كل ما يمكن أن يحضره الفلاح معه إلى أصحابه من أهل المدينة . جلسا معاً فلم ينبس أبو عجالة ببنت شفة وظهرت عليه أمارات الإجهاد النفسي فسأله أبو العباس:
- ما الذي يضنيك يا صاحبي؟
فأجاب أبو عجالة: ديِن ثقيل وشغل قليل و( مستقبل ) وبيل ..
حاول أبو العباس أن يطمئن صديقه بقرب الفرج وأن يحتسب هذا الضر عند المولى كي يرفع له به درجاته ، فأجابه أبو عجالة:
- لقد وصلت الحال من السوء بحيث لا أستطيع إطعام من أعول .
أغرورقت عينا أبي العباس بالدموع وتذكر حينما كان صاحبه ينفق يمنة ويسرة في سبيل الله ، يعول الأرامل والأيتام ويخفي صدقة يمينه حتى لا تعلمها شماله ، وينفق إنفاق من لا يخشى الفقر ، فقال لصاحبه مطمئناً إياه:
- إن الله لن يضيعك، وسيسد دينك ، أما طعام عيالك فكله إلى الله ، هيا بنا يا صاحبي نخرج من البيت إلى السوق إلى المطعم أو أي مكان آخر ، المهم ألا تتقوقع على مصيبتك .
تجاذبا أطراف الحديث وهما يتناولان طعام الغداء من فول وحمص وفلافل في أحد المطاعم الشعبية ، واستطاع أبو العباس أن يدخل بعض السرور إلى قلب صاحبه بدعابته وأحاديثه الشائقة ويذكره بين الفينة والأخرى بقرب الفرج من الرحيم الودود .
ودع أبو العباس صاحبه لأنه كان قد عزم على السفر من ليلته فهو لا يستطيع أن يتأخر عن زراعة أرضه ورعاية أغنامه .
قفلَ أبو عجالة عائداً إلى البيت مساءً بعد أن أغلق محله التجاري وهو يشعر بالضيق إذ لم يرزقه الله قرشاً واحداً في ذلك اليوم ، وتذكر وهو في الطريق إلى البيت قول صاحبه: إن الفرج قريب وإن الله لن يضيعك ، وبدأت تتصارع في ذهنه هواجس شتى ، فهو لا يشك في فرج الله ولكنه وصل إلى درجة اليأس بحيث استبطأ المدد .
قالت زوج أبي عجالة له عندما دلف إلى المنزل:
- لقد نسي صاحبك محفظتة مع الهدايا التي أهداناها من عسل وزيت وزيتون ، بل ووجدت ورقة مع جملة الأشياء كتب عليها لا تفتحها إلا بعد سفري ، فتح أبو عجالة الورقة بعجلة فإذا بها :
" أخي المستعجل على فرج ربه كم كنت عوناً لي أيام ضري ، ولا أستطيع أن أفيك بعض فضلك علي ولكن اقبل مني أن تفتح هذه ( الشنته الصغيرة ) .
فتح أبو عجالة الشنته وقد تملكته الدهشة فإذا بها مئة دينار أرفقت معها قصاصة ورق كٌتِب عليها :
" أعرفُ يا أخي أن ديونك تنوف عن مئة ألف دينار ولكن ما وضعته في الشنتة هو كل أملك فيضاً عن حاجتي أعلمُ أنك ستتقالُّ معونتي المتواضعة ولكن أرجوك أن تقبلها وتدعو الله موقناً بالإجابة أن ينفس كربك ."
اغرورقت عينا أبي عجالة بالدموع فهذه المرة الأولى التي تُعرض عليه الصدقة وهو الذي يدفع الصدقات منذ عقدين من الزمن .
قال كبير أولاد أبي عجالة:
- ماذا ستفعل معنا هذه الدنانير يا أبتِ؟ فنحن تعودنا أن نصرفها في يوم واحد ،
فصرخت زوجه في وجه ابنها موجهة الكلام إلى زوجها:
بل فاقبلها يا زوجي فلعل البركة كامنة فيها .
لم يشأ أبو عجالة أن يستخدم دريهمات أبي العباس في أعماله التجارية أو لسداد دين مُلحٍّ ،بل جعلها في مصروف البيت . وفي الصباح أفاقت ابنتاه الصغيرتان للذهاب إلى المدرسة فوجدتا بجانب سرير كل منهما ديناراً .
هرعت الطفلتان إلى أبيهما لتسألاه عن الدينارين فوجدتاه يصلي الضحى قارئاً
"ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب"
وبعد أن سلم الأب من صلاته قالت:
- أصغرهما ألم تقل يا أبتاه إنك لاتملك إعطاءنا المصروف اليومي المدرسي فمن أين جاءت هذه الدنانير؟
فأجاب الأب باسماً وقد ( انبجست) من عينه دمعة فمسحها بسرعة كي لا تلحظها الصغيرتان وقال لهما:
- هذه الدنانير من شنطة حمزة
- حمزة مين ؟
- صاحب الشنطة
- فيها إيه؟
- فيها صدقة
- يعني إيه؟
- تعني البركة
- لكن ليه؟
- فرج الواهب
- لازم نعرف
- تعرفوا إيه
- هيَّ الشنطة ، شنطة مين؟
- قلت مرارا :شنطة حمزة
- طيب نفهم حمزة مين؟
- ياأولادي صاحب الشنطة
وطفق أبو عجالة يردد هاتين الكلمتين وخرَّ لله ساجداً وهو يتلو :
"إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"
يقسم أبو عجالة أن دريهمات أبي العباس قد كفته مؤونة أسبوعين في حين كان ينفق عفيها في يومين .