رائحة الدم
رائحة الدم
محمد باقي محمد
إحـالات :
والآن ! هل للبكاء كبداية احتجاج جدوى ، ليحكي- من ثمّ – حكاية تلك الأمسية الصيفية الحزينة!؟
أية لحظات راشحة بالحزن ورائحة الدم راحت تنـزّ على الحواف آنئذٍ !؟ وأية بدائية وحشية نجحت في الإفلات من قمقمها الثاوي تحت طبقات من التهذيب الُمدجّن والكاذب ؟!
هل كان لحرارة آب ثمة علاقة بخروج الأعصاب عن مدارها الهادئ ، وولوجها مدار الجنون !؟ أم هو الليل يوقظ في الروح أحزاناً بلون البنفسج ، ويهيّج حنيناً إلى القتل كان غافياً تحت ستار من التماسك الهش والمخادع!؟
هل كان ثمة حبل سري بين فورة الدم تلك ، وبين ما يُسمّى بالعرق أو الوراث !؟
المنظر الماثل أمام عيني ليس حلماً ، لكّنه أكثر رعباً من أن يكون حقيقة للذاكرة المتشظية ، وكّل ما يبدو كلوحة فانتازية لفنان مهـووس ، يلوح كثيفاً ، لزجاً لزوجة دمٍ فاسد ، وها العودة إلى ما قبل الخراب العميم ، إلى ما قبل اختلاط المحيط الممعـن في استثارة الأعصاب الموتورة مستحيلة !
2- الأسئلة :
كيف وصلنا إلى المفترق الصعب !؟ ومتى احتكمت اللغة بيننا إلى الصمت النفور !؟ كيف انهار كل شــيء في وضح النهار ، وبلا استئذان !؟
شيء ما في محيط العمر كان يضمحل ويموت ، لانقسام في الخلايا ، أو تلوث في الدم الموروث ، وكل المؤشرات كانت تشي بفجيعة أكيدة ، فكيف لم أنتبه إلى أنه كان – هذه المرة – مختلفاً !؟
كان جو الغرفة مشحوناً بالتوتر ، وما كان بالإمكان إعادة الأعصاب المشتعلة إلى سـابق هدوئها ! وحين تقدّم مني كان ثمة إحساس ُمبهم بأن الأوان قد فات ! كان هذا واضحاً في شرايين العينين النابضتين بالاحمرار والغضب ، في الارتجاف الغريب الذي سيطر على اليدين ، وفي الصمت المريب المرهص بنشوب عاصفة !
فُجأة غام كل شيء ، حسّ المباغتة سبق حسّ الألم ، فترنّحت ، ومن الوريدين المنفغرين للتـّو على جرح عميق ، انبجس الدم ملطخاً الجدران والأرائك والأرضية ، ثم أخذت الموجودات تغيب عن بصري !
3- في الذاكرة المنقسمة :
حين وقعت عيناي عليها ، انساب في القلب جدول خلتُ أنه قد جف !
قلت :
( سيكون بيني وبينها شأن ) !
وكان !
في الأيام التي تلت لقاءنا الأول ، استفاقت الأحلام الهاجعة في قرارة من الذاكرة ، عن فتـاة شبيهة بحقل عشب ، فتاةٍ حلم لطالما استعادتها المخيلة توقاً مفعماً بالمسرات الغامضة والسرية ! واختتم الزواج خطبةً قصيرة تمّت على عجل ، تخلّلها حفيف ثمل يشع بجذوة لذيذة وآثمة ، تحت ضغط من التربية الزميتة .
هادئاً ، كتوماً ، وربماً مسرعاً بعض الشيء راح الزمن يخب ، وما كان التكهن – بأن هذا الهدوء هو ذاك الذي يسبق العاصفة – في مدى الرؤية أو الإدراك ، إذْ سرعان ما تبخرت الصورة المورقة عن امرأة مُضوّأة بالنور والعنبر ، سيُكتب لها أن تندغم بفقرات العمر لحساب اليومي المقيت والمعاد !
واليوم ، فإن تحري الملالة التي انسربت – في الخفاء – إلى مكامن النفس ، تبدو مهمّة عصية على الاستقصاء المتأني والهادئ ، إلا أنّ خراجاً صغيراً في العمق أنشأ يكبر ويتقيح ! بسبب من التكرار الممجوج ربما ، وربما بسب من القصور العام في الأشياء ، أو لأن نمط الحياة انقلب كلياً إثر الارتباط بكائن آخـر ، فتدافع الخلل إلى نبض الدم ، واستيقظت جرثومة السأم وسوء الفهم والتحول ، لتبعثر رموزي وتاريخي الشخصي المحكوم بالرتابة ، ولتغتال – من ثم – طقوس الوفاء والأحاسيس الحارة ، بما هي قيم بالية تنتمي إلى ميراث الأجداد ، ما كسـر الصبوة ! فهل لليقين بأنها أضحت ملك يميني دور في ما آلت إليه الأمور ، أم هُمُ الأولاد تأخروا في المجيء ، فانكمشت المشاعر منطوية على عجزها بانكسار !؟ ذلك أن الإنسان يظل – في النهاية - إنساناً ، وهذا كل شيء !؟
ولكن لماذا أخذت زوجتي تثقل عليّ بمطالبها !؟ تفكرّت بمرارة ، أهو الغلاء الذي ما فتئ يستاف دخلنا بلا رحمة !؟ داخل مدار الصدمة أخذت أتساءل ؛ إن كان لأجرينا اللذين بديا عاجزين عن تلبية احتياجاتنا – غب الأيام الأولى من الشهر – أثر في تداعي ركننا الوادع ؟ بيد أن الأمور اختلطت عليّ ، وفي لجة التخبط تلك ما عدت قادراً على التفكّر أو التمييز !
المهم في المسألة أن أحداً ما كان معك ، ثم لم يعد ، تخلف أو خان ! ممّا دفع موجعات الحزن لأن تتنامى ! طبعاً أنا لم آبه كثيراً بالبنطال البالي الذي ما عدت قادراً على استبداله ، ولا بالجوارب المرفوة في أكثر من مكان ، ولأكثر من مرة ، لكّن أكثر ما جرحني في العمق تبدّى في عجزي عن التحصل على علبة من لفافات التبغ أحياناً ، أو غياب فنجان القهوة أو كأس الشراب عن منضدتي ، شبيهاً بأن تحشر امرؤاً في مضيق الموت كان الأمر ، ففقدت مقدرتي على الرسم ، وبقيت اللوحة المعلقة على حالها عند تخوم التأسيس !
أما متى ضربتها لأول مرة ، فأنا لم أعد أتذكر على وجه التحديد ، مستثاراً كنت ، جاهزاً للانفجار كقنبلة موقوتة عند أي مطلب أو كلمة أو – حتى – إيماءة ! بعد أن توالج الشجار بحياتنا ، وعشّش فيها كطحالب ضارة !
وبكت ليلتها كما لم تبكِ من قبل ، فاعتسفني الندم ! كان الخيط الرفيع الذي يجمعنا قد تقطّع أو وهى ، وتمنيت لو أن يدي شُلت أو قُطعت من قبل أن تمتد لضربها ، غير أن الأمر – بمرور الأيام - تكرّر ثانية وثالثة ، ليدخل في باب العادة ، وما عاد مترافقاً بالأسى الحارق الذي ساورني في المرة الأولى ، بل غدا - شيئاً فشيئاً - تعبيراً عن إسقاط مبهم أو تشفّ !
ربما كنا على شيء من الاختلاف في المشارب ، إذْ أنني كنت مهموماً بالشأن العام على نحوٍ ما ، فيما لم تكن هي تأبه إلا بالخاص والعارض ، مما زاد الـهوة التي تفصل بيننا ! طبعاً أنا لا أنكر بأنها كانت أقدر مني على اقتناص لحظات الفرح البسيط ، ربما لأنها كانت أصغر في السن ، بيد أنّ الضرب المستمر كسر روحها المتوثبة ، كسر فيها الإنسان !
وإذا كانت الذاكرة قد رسمت في حلمها عشــاً حميماً للزوجية ، قائماً على ثنائية الزوج والزوجة ، فلقد تفاجأت بأنّه لم يعد كذلك ، إذْ في اللحظة التي كانت علاقتنا تعبر – فيها – مفازة جحيمها ، انبثق الأهلون ولكن لا لكي يعملوا على حّل خلافاتنا ، بل لكي يسهموا في تأجيج الصراع اليومي ، المعاش بعريه الصفيق ! وبذلت ما بوسعي لأنأى بحياتنا عن تدخّل الآخرين الفظّ والجارح ، إلا أنني اصطدمت بجدار صلب من قبل أهلها ، على ظنّ منهم بأنهم يقفون إلى جانب ابنتهم ، فهل كان أهلي أكثر حياداً !؟
ثم ماذا عن الآخرين ، الذين تفاجأنا بهم عند كل منعطف ! لدرجة شعرت - معها – بأننا عراة أمامهم ! مكشوفون حتى أعمق أعماقنا !؟ وكان أن تساءلت بغضب ؛ لماذا تسمح زوجتي بهذا كله !؟ ولماذا يكون ثمة امرأة تخدع دائماً رجلاً في حضوره أو غيابه !؟ أليس في الأمر خيانة من نوع ما !؟
هكذا – على ما أظن – تداخلت الحلقات موقظة مشاعر العداء والقسوة ، المتدارية بمظاهر المصاهرة والمودة المزيفة بين عائلتين ، ولم يفلح غيابي المستمر عن البيت في إيقاف الانهيار !
وعلى تباعد – ربما لأن التوتر المستمر كان يكبحه – ظل الدافع الجنسي يلهج بين الحين والآخر في طلب الإشباع ، ذلك البلاء الذي كان المرة تلو الأخرى وراء ندم شهوي غفور ، يعقبه عتاب ودموع ووعود ، بيد أنها ما تلبث أن تفقد جذورها الندية لهذا السبب أو ذاك ، وها أنا وحيد كغصن مقطوع عن أصله ، متروك لأصابع الإهمال ، بحيث لم يبق لي إلا الخلايا المخربة ، واعتكار الينابيع ، فيما الاحتقان الكاوي أسفل البطن يضع العينين تحت رحمة تأرّق لا يريم !
4- في انكسار الحلم :
كريح تعبر منعطفاً بدأت علاقتنا بالخروج عن مدارها الهادئ لانحراف في البوصلة ! وعلى السطح طفا السؤال ؛ عّما إذا كان هذا الرجل الذي يقاسمني الفراش اليوم ، هو ذاته الفتى الذي حلمت به عمراً ، ممتطياً صهوة حصانه الأبيض ، وقادماً من البعيد ليختطفني إلى حيث حقول الغبطة السارحة !؟
سؤال ممرض يفثأ الدم تنامى كفطر سام ، ملقياً بظله الثقيل على الأحاديث الهادئة ، التي غابت لمصلحة صمت قاس أخذ يحفر في أعصابنا ، ويتسرب إلى اللحظات التي تجمعنا ليرضّ روابي النفس المكروبة ، فاستسلم عالمنا لوجوم واخز وأصمّ !
وفي جوّ التوتر – هذا - أضحت كل خطوة مجازفة ، وكلّ عبارة فخاً ، ربما لأنها خضعت للإرث البطريركي ، أو الديني ، الانتقائي والمُجتزأ ، إذْ غابت الآية الكريمة ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل .. ) لحساب الآية ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلث وربع .. ) ، فجاءت المعادلة مختلة لصالح الذكورة المهيمنة ! وتساءلت بحرقة ولوعة عن مكمن الخلل ، لكن الحبل الذي يربطنا كان قد انقطع !
مهجورة كنت ، ومنكسرة ، منذورة للتشتت ، أركض بين البيت والدائرة لأعمل وأكنس وأطبخ ، فلا يتبقّى لي وقت حتى ألتقط أنفاسي ! ولكن ما الفائدة ، إذْ لم يبق لي في غيابه الذي غدا يفوق حضوره ، إلا أن أترك أحاسيسي للنوء !
هذا لا يعني بأنني لم أحاول أن أضمّد العطب المحسوس ، لكن غير المُدرك كنهه ، وفي لحظات الهدوء التي أنشأت تعزّ ، كنت أتجرأ على السؤال ؛ لتحري ما بين السطور ! كان ذلك في أوقات معينة أستشعرها بحسي الأنثوي ، بيد أن الابتسامة الصامتة ، المحايدة ، التي كانت تجبه سؤالي ، جامعة سخرية غامضة إلى التسليم ، كانت تشير إلى أن لا جدوى !
أما في أي فجٍّ غار عالمنا المسكون بالفرح ، فهذا ما استغلق على فهمي تماماً ، تاركاً محله السؤال ؛ أن ما الذنب الذي اقترفته !؟ ألا أتقاسم معه المسؤولية !؟ ألا أعمل مثله ، إن لم أكن أعمـل أكثر ، فلماذا يعمد إلى افتعال الشجار بداعٍ ، ومن غير داع !؟
صحيح أن الأسعار اشتعلت ، ولكن ما دخلي أنا في ذلك ؟ أنا لم أطالبه إلا بالضروري من حاجات البيت متجاوزة عن الطلاء الذي تساقط عن الجدران هنا أو هناك ، على ما يسبّبه لنا من حرج أثناء زيارة المعارف والأصدقاء ، وصرفت النظر عن تخلخل الأرائك ، لأنّني – مثله – كنت على دراية بوضعنا ، ومن غير أن ينتبه أخذ الصنف تلو الآخر يغيب عن لائحة الطعام ، لكنني آثرت ألا ألفت نظره إلى الأمر ، وبادرت إلى التخفيف عنه ما استطعت ، إذْ كم من ثوب مهلهل غيّرت فيه ليوحي بأنه ثوب آخر ، وكم رغبة صغيرة كبحتها حتى لا تنغص علينا ! حتى في ما يخص موضوعة الأطفال ، تحاشيت الخوض فيها ، على شـغفي العارم بهم ، لكي لا أجرح فيه حسّ الرجولة ، إلا أنه يعرف بأنني سليمة ، وأنه يشكو ضعفاً في السائل المنوي، يضع مسألة الإنجاب في خانة ( الممكنات ) الصعبة !
أمّا أن يصل الأمر بنا إلى الضرب ، فهذا ما باغتني تماماً ، وجرحني ! مهانة كنت وُمشوّشة ، فالتجأت إلى عبّ الصمت ، فيما كل شيء يتهاوى جهاراً لخلاف الأضداد! في ما بعد ، ومع التكـرار ربما ، أخذ الضـرب الذي كنت أتلقاه منحى آخر ، إذْ تحوّل - بالنسبة لي – إلى نوع من التحدي المُضمر ، ممّا زاد في غضبه وحيرته !
بقي أن أقول بأنني لا أستطيع أن أتبرأ من أهلي – هكذا - ببساطة ، بسبب من الخجل ، ناهيك عن الوفاء والاعتراف بالجميل ، رغم أنني لا أنكر دورهم السلبي – أحياناً – في خلافاتنا ، ربما لأن ثقافتنا لا تعفينا من واجباتنا نحوهم ، ولا تمنحنا الحق في إيذاء مشاعرهم عند أول كبوة !
ثم ماذا عن أهله !؟ ألا يدخلون بيننا وبين جلدنا !؟ في الصغيرة قبل الكبيرة !؟ متوهمين بأنني أصل المشكلة في تأخرنا بالإنجاب ، على جهل منهم بأننا عاجزون حتى عن مراجعة طبيبنا ! فلمَ كل هذ!؟ ألأنني الأنثى !؟ الجناح المهيض كما يقولون !؟ ولكن أين المنطق في هذا كله !؟
إلى الجحيم بكل شيء ! إذْ من يتفكر في المنطق هذه الأيام ، فأنتِ الضلع القاصر ، الجارية المطالبة بالطاعة والخضوع ، بعيداً عن مُثُل الحق أو العدل ، وما عليك سوى الاستجابة لنـزوات السيد ذي السلطة المطلقة ، بغض النظر عن مشاعرك وأحاسيسك ! لِمَ لا ؟ ألست الأنثى ، المعادل الموضوعي – في الشرق - للبغي !؟ ألست – سلفاً – على لائحة الاتهام ، المطالبة دوماً بإثبات العكس !؟
والآخرون !هؤلاء الذين التصقوا – فجأة – بثيابنا ، مظهرين لنا منـتهى الحرص ، هل هم كذلك فعلاً !؟ كيف نميز الشامت فيهم من الناصح العاجز !؟ ولكن مرة أخرى ما الجدوى بعد أن انقطعت بيننا السبل ، وأضحى الصمت ملاذنا الأخير !؟ فقط لو غادر مُعتكفه النفسي قليلاً ، لو تخلّى عن شرنقته ، وسمح للّغة بأن تمتد بيننا ، عندها لأقنعته بأنه مخطئ ، وأنني مثله لا أريد لأحد أن يتطفل على حياتنا ، لأنها لا تخلو من الخاص والمخجل الذي ينبغي أن يظل سراً ! ولعبّرت له عن حاجتي إليه ، عن تحرّقي للمساته الراعشة على جسدي ، وعن توقي المشحون بالرغبة إلى كلمة ناعمة مُنداة تشـعرني بكينونتي ، بأنني ما أزال تلك الأنثى المحبوبة والمشتهاة !
وبعـد ! أين أذهب بـهذا الجسد الثائر كبركان حبيس !؟ هذا الجسد الذي ما يفتأ يلحّ على مطالبـه كل حين ، مهتبلاً أي ثغرة لكي يعبر منها ، ويئن محتجاً على الإهمال والفوات ، فأستيقظ عند غبشة الفجر على ندائه ، لأتفاجأ به حاراً ندياً ، مواراً بالرغبة ! وأتفكر متسائلة باستغراب وألم ؛ من أين يمتح هذا الصراع كل تلك القسوة والشراسة !؟
5 - تراتيل للمرثية الناقصة :
المنظر الرهيب حقيقي إذن ! والمرأة الحبيبة التي كانت إلى ما قبل لحظات تعج بالحياة ، أضحت جثة هامدة ، بعد أن تخبطت في دمائها !
أنت لا تعرف كم من الوقت مرّ إثر ذلك الإعصار ، لأنّ حالة شبيهة بالتشقق في الزمن كانت تمور في الجوف ! حالة تقع في العمر مرة ربّما ! حتى ذريرات الهواء استكنّت لها بفزع شديد ! وها أنت كفنان تعامَلَ مع الموت على أنه الوجه الآخر للحياة تشعر بالخوف ، بالخوف والعجز معاً ! ذلك أنك ما إن بدأت تعي هول ما اقترفته يداك ، حتى صرخت بلوعة وألم كمن تلقّى طعنة سكين في خاصرته ، ومع الصرخة امتلأت كفاك بخصلات من شعرك اقتلعتها من غير أن تشعر ! أما كيف سمحت لأعصابك بأن تفلت ، وكيف تفاقم الشجار بينكما إلى أن أطلّت اللحظة الطائشة برأسها ! ثم كيف سعت الذاكرة المنقسمة إلى أن تضع يدها على السبب ! فأنت عاجز عن الإجابة ، إذْ خارج العناد الأرعن والموروث المرمض لم يكن ثمة داع لنذير الدم ذاك ! ومثلما ارتفعت الصرخة كدوي رعد ، غمر المكان _ كله ثانية _ صمت حاد !
كيف انقضى الليل ! ومتى دخل الفجر بغبشته !؟ هل كنت تتمعّن في ملامحها قبل أن توارى طيّ التراب !؟ فأنت أيضاً لا تدري ، إذْ أن الموت بمعناه المادي ، الكلّي الحضور كان يملأ المكان ، ويغلق الأمداء برائحته الخاصة !
آه ، أيها المأفون ، هل تدرك بأنك قتلت المرأة التي تحب ، فكيف لك أن تمضي في العيش بعد !؟ كيف استطعت _ وأنت الفنان المُرهف _ أن تقدم على ما أقدمت عليه !؟ ولكن هل حقاً أنت كذلك !؟ إذن لِمَ لمْ تستطع يوماً أن تعّرف الرسم _ ببساطة _ على أنه خطوط مستقيمة ومنكسرة !؟ ألم تخدع نفسك من قبل أن تخدع الآخرين عندما تطفّلت على التكعيبية ، وأنت تجهل من الرسـم المنظور !؟ وهل كنت حقاً على صلة بالشأن العام !؟ لماذا – إذن - لم تدرك أن أسّ المشكلة لم يكن بينك وبين زوجتك ، بل كان في مكان آخر !؟ أما كنت _ كغيرك _ دعياً ، تنادي بالحرية والمساواة شريطة ألا يتسللا إلى بيتك !؟ لندع الشأن العام جانباً ، أما كنت ترى في نفسك رجلاً !؟ حسناً ، لماذا كانت رجولتك تلك تظهر فقط على من هم أضعف منك ، وتغيب أمام رجال الشرطة والأمن ، الذين كنت تخافهم خوفاً يمسخك إلى شخص مسكين ودارج !؟ هل خرجت _ أبداً _ عن إرث الأسلاف ، وانتظمت مع زوجتك في شراكة حقيقية تقوم على التماثل لا الامتثال !؟ ألم تكن _ في نظرك _ دائماً جزءاً من قطيع الحريم المُقتطع من ضلعك !؟ بعضاً ممّا ملكت أيمانكم داخل حسّ التملّك المريض والمنحرف ، القائم على الآية الكريمة ( الرجـال قوامون على النساء بما فضّل الله .. ) ، ذاهباً إلى أن ( فضّل ) هنا هي فعل تفضيل مُؤسّس على الأحسن لا الأكثر تقوى !؟
لقد قتلت حبك ، فهل تستطيع أن تعود بالزمن إلى ما قبل ارتطام الجهات ، لا لشيء إلاّ لتقول لها بأنك ما تزال تحبها ، وأنك لن تستمر في الحياة من بعدها ، أنّ الوقت أمامكم كان ما يزال متاحاً لإنجاب طفل أو أكثر !؟ الآن _ فقط _ أيقنت بأن الأطفال ، هذه الظاهرة التي تبدو اعتيادية جداً ، تنضوي على مغزى الحياة العظيم ! والأطفال يعنون أسرة ، رجلاً وامرأة وأولاداً ، فماذا أبقيت من هذا كله !؟ كيف استطعت أن تواجه نظرات الرعب والدهشة والعتاب والألم التي أطلّت عليك من حدقتيها !؟ وما معنى أن تعيش بعد !؟ أي ألم مفترس لا يعرف الرحمة أو المنطق ينتظرك ، أي ندم ، وأي جنون !؟ ربما لا أمل يا صاح ، ربما لا أمل ! إنها الأرض تنادي أبناءها الذين تأخروا عنها ، فهيّا ، إذْ لم يعـد ثمة وقت ، هيّا اقفز لكي ترتاح ، اقفز ولا تكن جباناً!
وكما يرى نبيّ الوحي فُجأة ، فيجفل ويرتعد ، رأى على نحو ُمبهم موته الأكيد القادم ذات أمسية صيفية كمرثية حزينة ! كانت عتمة الليل تبسط سطوتها على الكائنات ، وتطمس ملامحها ، وفي هدأة منه ارتفع صوت شجي لثمل شالته حالة من النشوة والأسى الشفيف ! وحده الليل كان شاهداً على الجسد الذي انقذف في الفضاء بكل ما أوتي من قوة وحزن وغضب وحسرة ، ليرتطم بالأرض الصلدة ، لكنّ الفجر أخفى صوت الارتطام المكتوم تحت عباءته الفضية .