التائب
صدقي موسى - كاتب وصحفي
بخطواته المثقلة بالذنوب اخذ يصعد درجات المسجد، امسك بدفة الباب لاهثا، تحسس طريقه للداخل، ووضع حذائه على احد الرفوف بعد ان أزاح أحذية هنا وهناك.
دق بعصاه أرضية المسجد، وبصوت لاهث قال: يا الله، السلام عليكم.
-: وعليكم...وعليكم السلام...وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
اتجه نحو زاويته التي احتكرها يوم توبته، وبيدين مرتعشتين كبر تكبيرة الإحرام، وبظهر أحناه الزمن ركع وسجد، واسند جسده على يديه ونهض بتثاقل، الهواء يصنع بدشداشه الشفاف أمواجا، وقميصه الداخلي ظاهر كطحلب قي قعر قناة ماء تجري، سلم على اليمين والشمال، وحبى نحو عمود مستدير اسند جسده المترهل إليه.
اخرج مسبحة بنية مصنوعة من نوى الزيتون، آخذتا أصابعه بدفع حباتها كصف من الأطفال تدخله معلمته بانتظام، فمه منفرج بعض الشئ، ولسانه يتمتم، عيناه شاخصتان الي سقف المسجد الأبيض.
وسط حقله وقف أبو الطاهر وهو يصرخ ويصيح: فعلها ابن الكلب، شقاء شهر قلعه بليلة واحدة.
التم على صراخه الفلاحون يهدءون من روعه، وأعينهم تفحص الأرض التي قلبت، ونباتات الكوسا التي اجتثت من جذورها، وبعثرت في الأرض والأراضي المجاورة.
صيحاته لم تنقطع: يريد ان ينتقم مني، ابن ال... ذلك الصلعوك، أرضه رهنها عندي مقابل دين عليه، وأنا أخذتها، هل في هذا ما يعيب؟! ... بسيطة أنا وأنت والزمن طويل يا ابن بهية.
أشاح بوجهه عن السقف، خلع نظاراته الطبية، وبيدين متجعدتين مسح عينيه المحمرتين.
أقيمت الصلاة، نهض بتؤدة، وقف في الصف الأول بين المصلين، رصت الصفوف، وسويّت الفرج، وحاذى منكبه منكب أبا الطاهر.
(2)
الكعكة
نفث دخان سيجارته بعنف، استطعم مذاق الهواء الذي تجمع في فمه، ازدرد لعابه، عيناه ترمقان احدى المحطات الفضائية تبث احدى نشراتها الاخبارية، تناول "الريموت كونترول"، ضغط إحدى أزراره بعصبية، الموسيقى ملأت محله، أخذت اصابع يديه تتراقص مع الانغام، شبح ابتسامة ارتسم على شفتيه، وبانت اسنانه الصفراء، تناول قطعة حلوى، فرمتها اسنانه ببطئ واصابع يديه ما زالت تتقافز على سطح الطاولة الزجاجي طربا.
أسرع بأكل ما تبقى من قطعة الحلوى وتخفيض صوت التلفاز عندما دخلت امرأة في الخمسينيات من عمرها، مظهرها يدل على النبل مع نظرات حزينة تطل من عينيها، بادرها بقوله: اهلا وسهلا حجة.
-: اريد كعكة
-: من أي نوع؟ يوجد عندنا...
-: شوكلاته
سارع وتناول الكعكة من الثلاجة الكبيرة،...طازة؟ بالطبع يا حجة شغلنا كله جديد.
-: هل هي كعكة عيد ميلاد؟
-: نعم لولدي باسم
-: الله يخليلك ياه وعقبال مئة سنة، ماذا اكتب عليها؟
تنهدت بعمق وقالت: عقبال السنة القادمة وتكون بيننا.
رفع راسه ونظر اليها متسائلا: واين هو ولدك؟
لهجتها بدت قوية وهي تجيبه: يؤدي ضريبة دفاعه عن الوطن.
للوهلة الاولى ظهرت عليه علامات عدم الاستيعاب الا انه سرعان ما قال: في السجن؟!!
هزت رأسها وقالت: حكموا عليه بأربعة مؤبدات.
ابتسمت بشفتين مطبقتين بينما رفع حاجبية وعقب: الله يرجعه لكم في اقرب وقت.
وسارع لكتابة الكلمات، على كعكة لن تصل لصاحبها.
حدثته نفسه بأن لا يأخذ ثمن ما اشترته وحول ذلك لقول الا انها شكرته وقدمت له ثمن الكعكة ودعت له: الله يحفظك يمه.
ودعها بعينيه، تنهد بعمق، الدخان ما زال يتصاعد من سيجارته التي ركنها على حافة الطاولة، تناول "الريموت كونترول"، وخيم صمت على المكان.
(3)
عصر حجري
في عصر ما قبل التاريخ، سأل الطفل والده ذات مساء: أبي لم تضع لثاما على وجهك عند خروجك لرعي الغنم؟!!
الوالد و الدهشة بادية على محياه: حتى لا تعرفني الذئاب.
الطفل: هل تخاف الذئاب يا ابي؟
الوالد: لا، والا لما خرجت لرعي الغنم، لكني اغطي وجهي حتى لا تعرف أني انسان.
الطفل مستغربا: أتكره الذئاب البشر؟
الوالد: بالطبع، فنحن نضع حدا لما تقوم به من اكل للاغنام، وننير كهوفنا بالنار.
الطفل: ابي، اريد ان اخرج معك وارى الذئب.
ابتسم والده: ما زلت صغيرا على ذلك، أمامك اربعة فصول ممطرة.
صمت الطفل برهة، نظر لوالده بتمعن وقال: هل يقتل الذئب الاطفال؟!!
مسح والده على رأسه: انه كالألم، لا يميز بين طفل وشيخ.
رعدت السماء، واصدر المطر ايقاعه وهو يتساقط على اوراق الشجر، وتمايلت شعلة النار صانعة امواجا من الظلال، تناول الوالد حربته ذات الرأس الحجري المدبب، وغرسها في أرض الكهف، وشرع يرسم لطفله شكل الذئب على أحد الجدران.
(4)
ماذا هناك؟!
استوعبت عيناه ظلمة الغرفة واسترعى انتباهه صوت جلبة على السطح، تلاحقت دقات قلبه، كتم أنفاسه، تحسس مكان (جهازه الخلوي) حتى وجده على الطاولة المحاذية، اضائة الجهاز ملأت فراغات في زاوية الغرفة، الساعة الواحدة بعد منصف الليل، أنصت السمع، الصمت يخيم على المكان، حاول أن يغمض عينيها الا أن صوت الجلبة عاد من جديد.
استيقظت هواجسه وأخذت أسراب من الخواطر والتخمينات تضرب بجدران رأسه ويسمع صداها بخفقات قلبه وزفرات أنفاسه وشهقاتها...لا أظنه لصا، فليس لدي شئ يستحق العناء، ربما يكون لصا مغرر به، وصلته معلومات خاطئة أو أغرته أناقة ملبسي، ربما، لا لا أظن ذلك.
هل يمكن أن تكون ..؟ عندما وصل تفكيره لهذه النقطة كتم أنفاسه، وتضاعف عدد نبضاط قلبه، بدا للوهلة الاولى الامر منطقيا، الا أن اسئلة قفزت أمام ناظريه، لماذا يأتون الي؟ انني مسالم، لم أأذي أحدا أو أرجم جنديا أو حاجزا بحجر، حتى أني لم أخرج بمسيرة ضد الجدار العنصري، ووافقت على جميع اتفاقيات السلام من كامديفيد وطابا الى اسلو.
هل يكون البقال؟ جاء يسترد الديون التي تراكمت علي بسرقة شئ من منزلي المقفر، لا لا إنه انسان نبيل، يدخل البيوت من أبوابها، ثم إن الرجل طعن بالسن وهو أضعف من التسلق والمشي خفية.
غريب إذا، هل من الممكن أن...؟ صمت مبهوتا برهة من الزمن، ابتسم مع زفرة ساخرة، جمع اطراف الغطاء حول جسده الملسوع بالبرد، ومن بعيد صوت دبابة تمخر في الارض غارزة خلفها اثار دمار بيت اخر، وليس ببعيد عنه نصبت خيمات.
(5)
الذاكرة الوطنية بعد 60 عاما من النكبة
ليس غريبا أن يفقد لاجئ فلسطيني الذاكرة، فهو كباقي البشر يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، لكن خطورة الأمر أن يفقد "ذاكرته الوطنية" التي تمثل وثيقة عودته، وفيها يحفظ بقايا صور لوطن مسلوب يورثها للأحفاد، كما يورث المفتاح و"القوشان"، وهي تعني الوطن والحاضر والمستقبل.
وما يميز ذاكرة اللاجئ قوة يقظتها، وحرصه أن تبقى مستيقظة رغم ما تحمله من ذكريات الأحزان والنكبات، فالمسالة مسألة وجود، وقضية ارض رسمها الأجداد بذاكرتهم قبل أن يطردوا منها، لينقلوها لأحفاد لم يروها، لكنهم يؤمنون أن أرضهم هناك صوّرتها لهم ذكريات أجدادهم.
ولعل قصة الحاج "أبو ناهض" دليل حي على وطن يعيش في الذاكرة لا تدفنه السنون، أو يمحيه النسيان؛ فهذا اللاجئ الثمانيني الذي اسكنه اللجوء في مخيم خارج حدود وطنه، يصاب بفقدان مؤقت للذاكرة بين ساعة وأخرى، ينسى خلالها اقرب المقربين إليه، إلا انه يتذكر شيئا واحدا فقط، انه الوطن وقرية "عراق المنشية" - 32 كم شمال شرقي غزة -، فهي ما تبقى في ذاكرته في تلك الساعات!!!
فيصف لمن حوله أراضي قريته وبيوتها وثمارها، وحجم المحاصيل بشكل دقيق ومفصل، وأعداد الأغنام والمواشي. وفي نظراته المحدقة نحو الوطن يرسم خارطة قريته وكأنها أمامه، خرج منها للحظة وليس قبل ستين عاما.
وخلال فترة شروده الذهني لفلسطين، يتذكر إخوانه وما كانوا يقومون به من فلاحة للأرض وبيع لخيراتها، وبئر الماء الذي كان يسقي منه المزروعات، واللافت للنظر أن "أبو ناهض" الذي يعتمر كوفيته لا ينسى أول مستوطنة يهودية سمحت بريطانيا بإنشائها على أراضي عراق المنشية وقرية الفلوجة، ويقول لجلسائه أنها أتت بالمصائب على قريته ووطنه.
اللاجئ "أبو ناهض" لا يتذكر أبناءه وأحفاده عندما يفقد ذاكرته لكنه يسارع بالهتاف "روحوني على دارنا" ويهم بالخروج من البيت، فيقوم احد أولاده بأخذه جولة في المخيم والأراضي المجاورة على أنها بلدته التي هجر منها، وعندما ترجع إليه الذاكرة يصدم بالواقع الذي يحيا، كأنه حكم عليه أن يبقى لاجئا يستنزفه جرح الحنين للوطن. ولعل هذه حالة بقية اللاجئين حينما يشدهم الشوق للدار والبيدر.
قصة "أبو ناهض" الذي لم تنهمر دموعه على فقدان ولده مثلما تنهمر شوقا لوطنه، وان غلب عليها الجانب الإنساني، إلا أنها تمثل رمزا حيا لتمسك اللاجئين بحقهم بالعودة، كما تمثله الخيمة والمفتاح والأنروا، ومصطلح "النكبة" مع أن ما حصل مع الشعب الفلسطيني أفظع من هذا المصطلح، فالاحتلال يدرك أن بقاء مثل هذه الرموز خطر عليه وتهديد لوجوده، لما تحمله من رسائل تنبيه تذكر بجريمته، وتهدد بقاء "دولته"، لذلك سعى لدى الأمم المتحدة لإزالة مصطلح "النكبة"، كما سعى من قبل لإنهاء عمل "الأنروا"، والسعي الدؤوب لتوطين اللاجئين؛ ويأتي ذلك استكمالا لتغيير معالم الجغرافيا، وأسماء القرى والمدن وحتى الزي والكوفية الفلسطينية.
فالمحتلون عبر تاريخهم سعوا إلى تدمير ثقافات الشعوب التي كانوا يحتلونها، ومحو رموزها لان في ذلك تحطيم لروحها المعنوية، وتفكيك لأواصر ارتباطها بالأرض، وذوبانها في ثقافة المستعمر، وسعى لإفقادها ذاكرتها الوطنية والتي تشكل المخزون المعرفي لأي توجه يؤدي للعودة للوطن والمطالبة بالحقوق السليبة؛ وغير غائب عن أذهاننا ما أقدم عليه الاحتلال الأمريكي في العراق من تسبب بإحراق للمكتبات ونهب للمتاحف وتدمير للآثار، فمكتبة المتحف العراقي في مدينة الناصرية مثال صارخ حيث كانت تضم في رفوفها "3900" كتاب قيم، منها كتب مصنفة ككتب أثرية تهم الإرث البشري.
وتبقى شواهد التاريخ دالة أن الشعوب المتمسكة بذاكرتها يكون عندها الدافعية للانجاز والتحرر، فالشعب الجزائري العريق ليس عنا ببعيد، الذي سعت فرنسا بكل قوتها الثقافية المعززة بجبروتها العسكري أن تمسخ العقل العربي الجزائري، الذي حافظ على ذاكرته الوطنية واستعاد حريته؛ وفي جانب آخر، رغم عدم صحة ادعاء الصهيونية السياسية حول وجود ما يسمى بالشعب اليهودي والقومية اليهودية، إلا أنهم استطاعوا بفعل الإرادة والمثابرة كمشروع استيطاني من تجميع شتات اليهود وغيرهم في فلسطين، معتمدين على ذاكرة جماعية رغم أنها مليئة بالأساطير والأكاذيب وتستند على فكرة "تلمودية" طالما رددوها بأنهم شعب الله المختار وبقية البشر دواب وعبيد لهم، وغير ذلك، بل إنهم ما فتئوا يُسمعون العالم ما يسمونه بالمحرقة حتى باتت أشهر من نار على علم في ذاكرة العالم.
إن الذاكرة الوطنية تعتبر من أهم عناصر الإدراك والوعي، وهي التي ترسم صورة الصراع والعودة، فالمحتل الصهيوني يسعى لكسب معركته مع الذاكرة الفلسطينية لكي يصنع مستقبله الخاص ويسيطر على مستقبل الفلسطينيين بتشويه الذاكرة وقلب الكذبة حقيقة والعكس، وذلك يستوجب حماية الذاكرة الفلسطينية وترسيخها في عقول الأحفاد، وحملها للشعوب والأمم الأخرى، ومع ما تحمله قصة "أبو ناهض" من بصيص أمل، إلا إن الخوف يبقى مطلا علينا من أن تضعف ذاكرة الأجيال القادمة فالتحديات التي تواجهها ليست بالبسيطة ولعل اقلها التناقضات بين الانتماء للوطن وواقع اللجوء في بلد آخر، وهموم الحياة اليومية، والسعي لجلب لقمة العيش.
وان كان الواقع يقول عكس هذا من تمسك بحق العودة، لا يمنع ذلك الأخذ بمزيد من الأسباب؛ فالاحتلال يسعى بكل ما أتي من جهد لطمس أي شئ يّذكر اللاجئ بأرضه، ويقلقه أي حدث أو ظاهرة تشير لهذا، ومثال ذلك "انتفاضة الأقصى" التي شحنت الذاكرة وأيقظتها، وكانت عامل نهضة وتثقيف وطني وخاصة للفئة الفتية الشابة من أبناء الشعب الفلسطيني التي كانت وقود هذه الانتفاضة، ومثّل أبناء المخيم الصف الأول في المقاومة ليثبتوا أن الانتماء للأرض والذاكرة الوطنية تتوارثها الأجيال، بل تولد مع اللاجئ الذي يسعى ليكتشف أصله ومنبته، فإذا كانت الطيور تربط صغارها بأوطانها الأصلية وتهاجر إليها منفردة، فما بالنا ببشر مميزين بالعقل والإدراك.
بقي القول أن قرية عراق "المنشية" التي سطر فيها الجيش المصري والسوداني أروع صور البطولة، وبمساندة الأهالي الذين طحنوا القمح لهم بطواحينهم الحجرية، غرست مكانها غابة الكينا وثمة إشارتان بالعبرية والإنكليزية تعرف هذه الغابة بأنها "غابة مرعولين للسلام!!!" بينما يحتفظ "أبو ناهض" بالطاحونة الحجرية في مخيمه.
(6)
هذيان لاجئ فلسطيني
هناك تحت حرارة البعد عن الوطن، والتهجير الثاني له مع ابناء شعبه، جلس قصرا ينتظر سحابة تقله لوطنه الذي شهد ميلاد والده واجداده، الا ان العلامات تشير الى ان عاصفة قادمة ستصيب غيمته، وتلقي بها بعيدا في ارض ما وراء البحار.
جلس بين الخيم التي تذكر بخيم الهنود الحمر حاملا طفله الذي ولد بعد التهجير الثاني بخمسة اشهر، وقد تقيأ غداءه من حليب والدته، مسح لولده فمه وثيابه، ابتسم له، قبّله قبلة خفيفة، ماسحا على راسه.
التاريخ يعيد نفسه؛ هو ولد بعد خروج والده من فلسطين برفقة الجيش العراقي بعشر سنوات، لم يكن يتصور قبل سنوات بأن الحياة التي كان ينعم بها مع 28 الف لاجئ اخرين ستتحول الى أحلام، إلا انه لما شاهد مخيمات الضفة وغزة تهدم وترتكب فيها المجازر، ويهجر اهلها منها لم يستبعد أي شيء؛ هناك عدو محتل وهنا، عدو متغطرس يهدد ويتوعد.
قال لطفله: احمد الله انك ولدت بعد التهجير الثاني في هذا المخيم. لم أكن لأضمن أن لا تصيبك قذيفة حقد طائفي او رصاصة غدر.
حتى وان "قطّعت" القلوب بصراخك من الام معدتك، أو ارتفاع حرارتك، فلن يزيد صراخك من يحاصرون مذهبك و اصولك الا غرورا، ولن تنزل في قلوبهم ذرة من رحمة.
اليوم، يا احمد نحن صيام عن اكل القذائف وشرب الاهانات. انتظر دوري مع المنتظرين لنهاجر إلى البرازيل، حيث كان الهنود الحمر. وما أدراك ما الهنود الحمر!؛ قوم مثلنا احتلت ارضهم وابيدوا على يد محرر العراق وناشر الديمقراطية. لا تستغرب هكذا!! كانوا يستحقون الإبادة؛ لأننا نعيش وفق شريعة الغاب القوي فيها ياكل الضعيف، والأدهى والأمر أن القوي يشرع القوانين والحجج؛ لقتلك أو سرقة ثرواتك واموالك.
ولدي لا اعلم ان كنت سترحل من هنا الى بلد الهنود الحمر، أو إلى حيث أهل القبور تحت التراب. فإذا كانت نهايتك هنا تحت ذرات هذه الصحراء مع اقران اخرين سبقوك؛ فاشكوا لله جروحا تنزف، وبيوتا تهدم، وأرواحا تزهق. وإذا كنت هناك ما وراء البحار، فاحكي لهم قصة الشاطر حسن والاربعة مخيمات: قصة 2260 لاجئ هربوا باولادهم وارواحهم ومستقبلهم للصحراء فهي ارحم من ظل يسقط عليك الموت. ولا تنسى يا ولدي بان تاخذ خيمتك معك، فلابد انك ستحتاجها مع هذين المفتاحين. لا تستغرب هكذا!! إنها ليست مفاتيح الخيمة بالطبع؛ هذا مفتاح العراق والكبير مفتاح فلسطين، كان لنا هناك بيوت وارض وذكريات محتها ديمقراطية العم سام.
ارى ان الضيق بدأ يتسرب لوجهك، ولسان حالك يقول: ماذا يقول هذا الابله؟!
وتراك تحلم بغفوة بحضن والدتك، وتنام قرير العين في عالمك النقي البرئ، الذي لم تلوثه الاحقاد والاطماع.
لكن مهلا مهلا... فستفيق يوما على انك كيان معاد، و ألعابك مسلوبة وحليبك مشروط بخنوعك، وانفاسك تحصى عليك.
غدا، عندما تكبر ستحدث أبناءك عن قصص آبائك، وهم َيحاصرون في العراق، وتثقب رؤوسهم بالدرل "المقدح"، وتدرج أسماؤهم على قائمة المطلوبين. ستحدثهم كيف وقفوا يدافعون عن عرضهم وحياتهم، فتقهقرت أمامهم المليشيات، واستعانت بالجيش وقوات الاحتلال حتى يتمكنوا منهم.
حدثهم عن الترويع والخوف، وعمليات الخطف التي تنتهي بالقتل والتمثيل، بعد التعرض لاشد انواع التعذيب: من قلع لعيون، وملئها بالتراب، وتقطيع للأطراف وسكب حامض الكبريت على الجسد، والكي بالسجائر، والذي لم يسلم منه لا الشيخ الكبير ولا المرأة ولا الطفل.
اخبرهم عن قصف قذائف الهاون للمجمعات، وتجميع أشلاء النساء والأطفال المتطايرة على الارصفة والازقة.
عندما يتساوى القتيل و الجريح في مصير مجهول؛ فلا يجرؤ احد على اخراج المغدور من المشرحة؛ لأنه سرعان ما يلحق به، والمصاب محروم من العلاج في المستشفيات.
حدثهم عن 7 ملايين لاجئ في اصقاع العالم، و450 الف مهجر فلسطيني داخل "الخط الأخضر"، و"الكنتونات" في الضفة وغزة.
لكن قص عليهم ايضا تعاطف القبارصة معنا واستقبالهم لنا بحفاوة، ومشاركتهم لنا بلعب الكرة، ومنحنا جنسية وهوية، فلن يلومك احد على ذلك فانت لن تتخلى عن فلسطين او المطالبة بحق العودة، والطريق للوطن مغلق امامك، ان وجودك على ظهر الارض خير من ان تسجل كذكرى تنسى مع الزمن.
اعرف ان كلامي قد تسبب لك بتوعك معوي ومغص، لا تنزعج كثيرا، فقد كان ما قلته هذيان لاجئ فلسطيني ليس الا!!
(7)
"ممر السلام" أفيون مخدر أم تحول جذري؟
كأي مواطن فلسطيني؛ أفرح واستبشر خيرا عندما تقام مشاريع اقتصادية وتنموية تسهم في رفع مستوى معيشة هذا الشعب وتنقذه من شبح الفقر والبطالة وتعزز صموده وثباته على هذه الأرض.
فعندنا 177 ألف عاطل عن العمل خلال الربع الثاني من 2007، وتراجع الإنتاج الصناعي بـ0.84% للربع الثاني من نفس العام، بالإضافة لبنية تحتية واقتصادية مدمرة.
آخر المشاريع التي سمعنا عنها، الاتفاق على مشروع "ممر السلام" بين السلطة الفلسطينية والأردن وكيان الاحتلال واليابان التي تموله بقيمة مئة مليون دولار.
ويشمل المشروع إقامة منطقة زراعية صناعية في مدينة أريحا وإعادة ترميم جسر "دامية" التجاري بين الأردن والأراضي الفلسطينية، وإنشاء مطار تجاري في منطقة الشونة الأردنية لتصدير المنتجات الزراعية القادمة من الأراضي الفلسطينية للخارج.
ومع التقدير لكل الجهود التي تسعى لتعزيز الاقتصاد الفلسطيني وتوفير فرص عمل ودخل لخزينة السلطة، إلا أن هنالك ثلاث ملاحظات رئيسة انوه إليها حول هذا المشروع.
أول هذه الملاحظات: زاد التركيز منذ فترة ليست بالبعيدة على الحل الاقتصادي وتقديمه على الحل السياسي للقضية الفلسطينية بعد أن ثبت فشل الأخير، فعلى مستوى الحواجز بعد أن اتفق اولمرت مع الرئيس أبو مازن على إزالتها نجد أنها لم تتزحزح من مكانها، فما بالنا على مستوى ارض وأسرى وقدس ولاجئين.
وآخر دليل على إفلاس الاحتلال مبادرة شمعون بيرس "الأسرى مقابل الأرض" في إشارة واضحة لاستغبائه للعقل الفلسطيني والعربي، وعدم جدية في إعطاء الفلسطينيين حقهم المشروع، في ظل هذه الأجواء أدركت الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلال تجارب مسبقة عبر مسيرة السلام واتفاقات متنوعة أن الفلسطينيين والاحتلال يدورون في باب دوار لا مخرج منه، وعلى أساس التغيير في التكتيكات فتحت الطريق لحليفتها اليابان بمبادرة اقتصادية وهي ما عرف بمشروع "ممر السلام". وبمباركة مسبقة من الاحتلال، ففي تصريح ل"إيلي كوهين" السفير الإسرائيلي لدى اليابان نشرته صحيفة "آساهي" اليابانية 12/8 "في أواخر 2004 بعد أن قال لي جونيتشرو كويزومي رئيس وزراء اليابان آنئذ إنه يرغب في أن تلعب اليابان بدور مؤثر في الشرق الأوسط يختلف عن ما تقوم به الولايات المتحدة والدول الأوربية، سلمته عرضا بعنوان نموذج النجاح مفاده أن تقوم إسرائيل واليابان بدعم الفلسطينيين في أريحا بالضفة الغربية."
و خطورة الأمر هنا أن تقام مثل هذه المشاريع كابر مخدرة، وأفيون للشعب الرابض فوق بركان ملتهب، لأنه سرعان ما يستيقظ على واقع يقول له أن الاحتلال ما زال يجثم على أرضك، يعتقل أبنائك ويقتل أطفالك وما زال يحفر تحت أقصاك، وإخوانك اللاجئين ما زالوا هناك في المخيمات وفي أصقاع العالم، فمثل هذه الأجواء الخداعة التي توحي بالرخاء تكون بيئة خصبة لتفشي سرطان الاستيطان وارتكاب الانتهاكات والجرائم بحق الفلسطينيين.
والخوف هنا أيضا ان تتخذ مثل هذه المشاريع ورقة ضغط على الشعب والمفاوض الفلسطيني ليرضخ للأمر الواقع، ويبتز ويساوم ما بين المال والأرض.
ومع أهمية الموضوع الاقتصادي إلا انه لا يجب إغفال الجانب السياسي، وعدم وإعطاء صورة بأن مشكلة الشعب الفلسطيني اقتصادية وليست مشكلة ارض ومصير شعب. فيجب ان يكون الحل سياسيا شاملا.
فالشعب الفلسطيني رغم ضنك العيش الذي يحياه مع الإرهاب المتواصل، ثابت على أرضه لأنه صاحب حق. بينما نجد أن عدد اليهود الذين هجروا كيان الاحتلال خلال الـ58 عاماً الماضية أكثر من نصف مليون، القسم الأكبر منهم استقروا في الولايات المتحدة. حسب دائرة الإحصاء المركزية في كيان الاحتلال.
فالحركة الصهيونية منذ البداية ركزت على الهجرة الكثيفة والمتسارعة لفلسطين والاستيطان، داعمين ذلك بضخ الأموال وإقامة المشاريع الاقتصادية والتنموية، والاهتمام بالإنتاج الزراعي وبالتالي عندما لم يكن اليهودي يرى ما كان يوعد به من رخاء ونعيم يرجع من حيث أتى.
بينما الفلسطينيين ليست قضيتهم الأساسية الخبز والمال، وإنما يحملون قضية شعب محتل يسعى للتحرر وليس للتسمين والتخمة ، كما انه لا يمكن لأي مشروع اقتصادي أن ينجح دون أن يصحب ذلك تتطور واستقرار في الجانب السياسي.
فأبسط الأمور انه لا يمكن الحديث عن مشروع اقتصادي ناجح والحواجز تعرقل حركة العمال والحافلات، وتعيق دخول المواد الخام.
الملاحظة الثانية: لقد ذقنا الأمرين جراء تبعية الاقتصاد الفلسطيني لكيان الاحتلال، وتحكمه بمواردنا وبحركة عمالنا، واعتمادنا على المساعدات والهبات الخارجية التي إذ انقطعت، همنا على وجوهنا، وخرجنا نحمل الطناجر والملاعق.
وللأسف لم يبن الاقتصاد الفلسطيني على أساس انه اقتصاد مقاوم لشعب يسعى للتحرر من الاحتلال، فاقتصادنا محتل مثل أرضنا وبالتالي لن يتحرر أي شعب طالما موارد معيشته بيد عدوه وصنابير مياهه يتحكم بها.
فالكيان الصهيوني منذ بداياته اعتمد على بناء اقتصاده الذاتي فما بين "1882-1914" تمكنت الحركة الصهيونية من بناء بضعة مستوطنات زراعية، معتمدة على دعم اليهودي الخارجي في إشارة واضحة لأهمية الاقتصاد واستقلاليته والاعتماد على الذات.
ولعل إنشاء الوكالة اليهودية عام 1929 ذات الهدف الاقتصادي الرئيس، دور بارز في تنظيم الاقتصاد للتجمعات الصهيونية في فلسطين وتشكيل كيانات اقتصادية وإنتاجية قادرة على إقامة دولة.
في مقابل ذلك نجد انه منذ قيام السلطة بنية اقتصادية ضعيفة تعتمد على المساعدات الخارجية، فمنذ عام 1983 وحتى 2005 كما تشير الإحصائيات حصل الفلسطينيون على مساعدات اقتصادية أمريكية فقط تزيد قيمتها عن 1.5 مليار دولار من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
وفي الطرف الآخر تعطي الولايات المتحدة الكيان المحتل أكثر من ملياري دولار على شكل مساعدات سنويا رغم ما يتمتع به من بنية اقتصادية وإنتاجية قوية، فما بالنا بالاقتصاد الفلسطيني الذي لم تكن تسمح فيه المساعدات التي يتلقاها من إقامة مشاريع إنتاجية أو ذات دخل، وإنما ما كان يصله يصرف رواتب، وعلى مشاريع خدماتية، ولم يصرف للقطاع الإنتاجي سوى ما نسبته 9%.
لذلك مثل هذا المشاريع لا يجب أن نقع من خلالها بالأخطاء السابقة ونكون تحت رحمة الاحتلال، الذي إن توفرت لديه نية صادقة لتم الاتفاق على إقامة مطار في الأراضي الفلسطينية لتصدير المنتوجات، وسمح بتوسعته في غير مناطق "أ".
الملاحظة الثالثة: على أي مشروع اقتصادي يقام أن يكون عنوان وحدة، بحيث لا يعمد إلى تطوير الضفة على حساب قطاع غزة، فأي مشاريع تقام يجب أن تأخذ بالحسبان مصالح الشعب الفلسطيني ككل وكوحدة واحدة.
واختم بطرح التساؤلات التالية: كيف نقيم مشاريع اقتصادية دون بنية تحتية وخدماتية؟ وهل سيكون القرار في هذا المشروع والسيادة للفلسطينيين أم نفاجأ بأن الاحتلال هو الآمر الناهي؟ وهل مثل هذه المشاريع التي يراد لها أن تقام، هي اقتصاد كنتونات ام اقتصاد دولة؟ وهل مثل هذا المشروع هو مشروع تخديري أم انه مشروع اقتصادي فاعل؟.