الأسمر والأحمر
الأسمر والأحمر
قصة : نعيم الغول
هرول أهالي المدينة والمخيمات المحيطة بها صوب الصوت الذي ما زال منبعثاً من أعلى قمة على الطريق الشرقي … بعضهم يغدو وبعضهم يعود… امتلأت الشوارع والأزقة بالخوار المنبعث من مؤخرة عجل شرس متسمّر فوق التلة… تهامس الجميع :
- "ها هو السامريّ قد عاد إليكم من جديد… إنه جاء باحثاً عن سوار تدحرج عن عجله إلى هنا يوم نسْفِه".
وساعة بعد ساعة انتشر خبر العجل بين الأحفاد الذين تحلّقوا يسألون العجائز عن صدق الحادثة أو ادّعائها،فأكدوا لهم براءتهم من سوار كهذا … ولكن لم يزل الخوار يملأ الفضاء والإنكار لا يفيد في شيء".
بدأ الأحفاد يتشاجرون ويتصايحون … كل يحاول فرض تصوره على من سواه… كثيرون هم الشبان الذين اقترحوا نسْفه من جديد… تجمهروا في مسيرة واتجهوا شرقاً وهم يهتفون :
- "بدنا موسى من جديد".
اختلط صوتهم بصوت العجل الذي تزداد حدّته لحظة بعد أخرى… كادوا يتصارعون مع العجائز الذين اعترضوا مسيرتهم وهم يصرخون في وجوههم :
- هذا عجل من حديد"
تدافع أحد الشبان مع عجوز كان يعترض طريقه فوكزه الشاب فقتله… وأمام هذا المشهد الأليم تراجع الشبّان منكسين رؤوسهم … وتفرقوا.
اتفق العجائز على ضرورة الجلوس إلى السامري والتفاهم معه ولو كلفهم ذلك عشرين سواراً …. دخلوا عليه… انتظروه حتى انتهى من أداء طقوسه الخاصة… لاحظت الجماهير الباب يغلق فتفرقوا من حول الخيمة المنتصبة هناك.
لم يدم الاجتماع طويلاً … خرجوا من الخيمة وعلامات الدهشة بادية عليهم… توجه الوفد إلى المنصة المعدة لإلقاء الخطب وسط المدينة… كان الشبان والأطفال يسيرون خلفهم… تجمهر الناس حول رئيس الوفد… لكنهم لم يستطيعوا التقاط الكلمات إّلا بعد أن ضاعفوا عدد مكبرات الصوت المحيطة بالميدان … يومها بالذات اقترح رئيس الوفد توسيع الميدان ليتسنى اجتماع أكبر عدد من الناس في الأعوام القادمة… واقترح –أيضاً- التعاون للبحث عن سوار العجل وإّلا فسيحل عليهم غضبه… وقدم لهم أوصاف السوار.
تهامس الشبان فيما بينهم :
- "لقد سحرهم السامري".
فجأة سكن العجل وهدأت ثورته… لقد وعدوه بالبحث عن السوار وما عليه سوى الانتظار وهم سيتكفلون بكل ما يلزمه أثناء إقامته.
تنبّه صُيَّاغ المدينة إلى دورهم الهام في البحث عن السوار… تباهى بعضهم بأن الخلاص سيكون على يديه، وبعضهم كتم رغبته بالغنى أو التقرب من السامري.
نظر أحدهم –يوماً- في معصم جارته التي مرت من أمامه … لم يتنبه لتحيتها فظل محدقاً في السوار الذي يلف معصمها …لاحظت المرأة اهتمامه الزائد بذراعها فأسدلت غطاء رأسها عليها وأسرعت الخطى إلى البيت.
ردد الصائغ في نفسه إصراره على امتلاك ذلك السوار ولو كلفه كلّ ماله… في المساء اعترض طريق زوجها وانفرد به جانباً … بدت السذاجة على وجهه… هز الرجل رأسه ثم وعده بنقل فكرته إلى زوجته… دخل بيته وما هي إّلا لحظات حتى وافقت المرأة ، فلطالما حلمت ببيت كبير تملكه وتكون فيه سيدة.
قدم الرجل سوار زوجته للصائغ الذي –بدوره- سلمه ورقة تخلو من ذكر السوار ويعده فيها بقصر فسيح… طار بين السماء والأرض وما كاد يصل بيته حتى وقف أمام الشقوق التي تتسع يوماً بعد يوم… راح يحلم بقصره الموعود.
أقبل الليل وتسلل الصائغ بالسوار إلى خيمة السامريّ… قدمه إليه واستمع إلى كلمات الشكر والثناء ثم خرج عائداً إلى بيته.
تململت المرأة –يوماً- ثم صاحت بزوجها :
- "أين القصر يا رجل؟"
امتعض زوجها… خرج من بيته غاضباً فساقته قدماه إلى محل الصائغ ، وكادا يتشاجران … تدخل الناس لكن الصائغ أقسم بأنه لن يعيد لهم ذرة من الذهب، وعليهم أن ينتظروا.
تقدمت المرأة بشكوى إلى الشرطة وتحول الأمر إلى المحكمة … نظروا في القضية… لم يجدوا في ورقتها ذكْراً للسوار… قالوا لها :
- "انتظري … لديك وعد فقط!".
تأكدت المرأة من ضياع سوارها فأصبح زوجها غريمها… سعت للخلاص منه، وتطلقا.
ومع طلوع الشمس صدحت مكبرات الصوت من فوق المآذن : "العجل غادر المدينة… الله أكبر… الله أكبر".
تجمهر الناس فوق التلة الشرقية… طلع عليهم ناطور المقبرة المجاورة وأخبرهم أنه رأى الصائغ يعتلي ظهر العجل والسامريّ يقودهما… وأكد أنهم عرّجوا قبيل الفجر على مقبرته ومكثوا فيها ساعة، وأنهم بنوا قبوراً كثيرة ثم ساروا جهة البحر … أسرع الجميع إلى هناك وتنادوا :
- "هلمّوا إلى أسورتكم"
وما كادوا يبلغون الشاطيء حتى رأوا السامري يلقي سواراً في البحر، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم… مرّوا وهم يلوحون مودعين :
- "إلى اللقاء… إلى اللقاء… ما زالت لدينا أسورة كثيرة"
التحم البحر من خلفهم … نظر الناس في وجوه بعضهم … تفاجأوا وأدركوا أنهم في زمان غير زمانهم… عادوا إلى المقبرة الشرقية وتسلموا مفاتيح بيوتهم .