بحثاً عن هواء نقيّ

محمد الحسناوي*

كيف يشعر الميت إذا عادت إليه روحه قبل أن  يوارى التراب ويغلق عليه القبر؟ كذلك أحس  المدرس حامد حين بلغه خبر مؤكد مفاده:  أن  الدكتور محمود قد أعيد اعتقاله، ولم يكد يمضي على إطلاق  سراحه أسبوع واحد! خلال لحظات قرر حامد الخروج من القبر، أي التواري وعدم تكرار  المأساة التي دامت أربعين  يوماً. لبس بزته. وضع النظارة الشمسية على عينيه. تأبط حزمة من الألبسة الداخلية التي لم يفطن لها يوم اعتقاله  السابق. قفز عبر المنور إلى سطح البناية المجاورة.. خلال دقائق كان  في الشارع الخلفي.

من باب الحيطة تجنب  هبوط الدرج  والخروج من باب البناية. كما تجنب الانتقال إلى سطح البناية  المجاورة عبر باب السطح. إن قفزته إلى شرفة المنور، وعبوره منها  أمر غير طبيعي بالنسبة إلى رجل في الثلاثين، يلبس بزة كاملة، والنظارة  على عينيه، وحزمة الألبسة في إحدى يديه. المنور جبّ عميق، فوهته لا تتجاوز مربعاً  ضلعه متران،  وعمقه بارتفاع خمسة أدوار سكنية، لا تطل عليه  إلاّ بجدران صماء. لو زلَّتْ رجل حامد أو انحرف جسمه  قليلاً لهوى إلى قاع البئر، ولما سمع له صوت فيما لو بقي على قيد الحياة.

»الآن يجب أن أختار إلى أين  أذهب؟ أهلي في (أمّ النوافير)، وأقاربي في جبل الزاوية. سوف يفطنون إلى اختبائي في أحد هذين المكانين. أمّا حلب فلن أبقى فيها أبداً. جبل  الزاوية  واسع  على كل حال، والتواري فيه  أسهل«.

حين مرت سيارة (الباص) بشارع اسكندرون.. انبعثت في خياشيمه روائح العفن التي استقبلته في بوابة السجن الشهر الماضي. إنها تقع على مسافة  مئة متر، ذلك القبر الذي اتخذ من الدور الأول في البناية  العالية مقره.

»كنا خمسة معتقلين عزل وثلاثة مسلحين محشورين في سيارة الجيب الضيقة. حين اقتربنا  من هذا القبر عضَّ أبوأيمن على شفته السفلى، فأدركنا أننا منقولون إلى منطقة خطرة. عرفنا فيما  بعد أنه سجن جاسم.  لم نكن نعرف هذا القبر من قبل: مدخل خشبي بال منخفض. ظلام في  رابعة النهار.  تنوس فيه أضواء واهنة، وتتجول فيه روائح عفن نتنة، هي خلاصة أنفاس بشرية  محتقنة، ورطوبة مزمنة،  وفطريات سود متوضعة في الزوايا وأطراف الجدران والحفر والنتوءات المنتشرة. في الممر الطويل نصف المضاء فاجأتنا أشباح معتقلين سابقين، صلبوا أو شبحوا على جدران الممر. ذهبت أجسادهم وبقيت ظلالها ورسومها السود على جدران صفر كئيبة. العرق والدم وعجلة الزمن  اشتركت في صنع هذه الأشباح التي تقول: نحن السابقون، وأنتم اللاحقون. من شدة الصعق قلت لنفسي: هذه أحلام كابوسية، ليست حقيقة  واقعة. أبداً لا يمكن أن تكون حقيقة واقعة!«.

في المركز العام لانطلاق السيارات حجز حامد لنفسه مقعداً، وانتحى ناحية يراقب سيارة (الباص) من الخارج. هل هناك من يراقبه؟ قبل أن يتحرك (الباص) بلحظات قفز إلى مقعده، وسرّه أنه لم يعرف أحداً من المسافرين. تظاهر بقراءة كتاب في يده: (الحرب النفسية) لم ينس أن يلفّه   بغلاف صفيق..

عند باب المدينة هب نسيم طازج، وانفسحت الأرض الحمراء تمتد بعيدة بعيدة حتى تعانق الأفق. أحس حامد بإحدى حجارة القبر تنزاح عن صدره. تنفس عميقاً متلذذاً. أدار بصره في وجوه الركاب الذين حوله ووراءه. كل شيء طبيعي. لكن لا اطمئنان حتى الوصول  إلى المخبأ. أي مخبأ؟ لم يقرر بعد. جبل الزاوية أم (أريحا)؟ أمّ (النوافير) مستبعدة. إدلب لا مكان فيها يعرفه صالحاً للتواري.  الأصدقاء  كثيرون، أمّا فرض النفس عليهم، فأمر صعب. الإحراج لا  يفيد في هذه القضايا. من يدري كم يدوم التواري؟ كل إنسان له ظروفه، عمله في النهار، أفراد  أسرته، درجة كتمانهم، وجود غريب في البيت ليل  نهار بصفة  دائمة، ليست حالة مريحة. تذكر بعض الذين اعتقلوا من أهل ادلب.  قرر إنذارهم لكيلا يؤخذوا على حين غرة.

معتقلوا إدلب لم يكونوا مع حامد في سجن جاسم  ولا سجن الشرطة  العسكرية. التقى بهم  في السجن المدني: الطبيب سالم والشيخ عبدالستار والآخرون.

»آه. أحمد اللّه على أن الشيخ الجليل  عبدالستار لم يكن معنا في سجن الشرطة العسكرية. يوم  الاستحمام أجبرونا على خلع ملابسنا جميعاً أمام عيونهم. حشرونا في حجرات استحمام صغيرة، لا سقوف لها ولا أبواب.  لا تسمح إلاّ بالوقوف تحت (الدوش). كانت  الحرارة الشديدة تتناوب مع البرودة الشديدة. الواحد منّا كيفما استدار ينكشف، ويرى أجسام إخوانه المعتقلين، والحراس يرون جميع المعتقلين في وقت واحد. فظيع.  هذا فظيع! إن المرء ليخجل من رؤية  جسده عارياً، فكيف يرى أجساد الآخرين؟ كان بيننا مدرسون وشيوخ. وكان معنا الخوف والخجل والحرج والارتعاد تحت الحرارة والبرودة المتناوبتين وذكريات  التعري. هل هذه خطة مدروسة؟!«.

»أختي أم أحمد. أنا أخوكم حامد. بلغني اليوم خبر خطير.  الدكتور محمود أعيد اعتقاله.  نعم الدكتور محمود نفسه. تركت  بيتي  وخرجت. سلمي على أخي الدكتور سالم. المعذرة لأنني لم أزره في العيادة أمام الناس. أرجو أن تبلغوا الخبر لكل الإخوة الذين اعتقلوا معنا. زوجتي أم مجاهد بخير، تسلم  عليكم. لا تهتموا سوف أتدبر نفسي. السلام عليكم«.

عاد حامد يبحث عن سيارة أخرى تقله إلى أريحا. لم يصادف حتى الآن أحداً من أبناء مدينة أمّ النوافير ولا من  طلابه.  كل شيء حتى الآن على ما يرام لولا حرارة حزيران وشبح القبر.

أخيراً وجد  سيارة  صغيرة، لا هي بالباص  ولا بالتاكسي. إنها بين بين: (أوطوبوس) عجوز، قذر، نصف محطم، يدب على أربع. كانت الشمس تتربع على عرشها وسط السماء، وتلهب الأرض والسماء بشواظ لاهب، كانت السيارة تجمع هذا الشواط من كل الجهات، وتوزعه على الركاب المتكومين على بعضهم: ظمأ. ظمأ. ظمأ. تذكر حامد سيارة الجيب التي نقلته وإخوانه المعتقلين من سجن الشرطة العسكرية إلى سجن جاسم،  منذ ثلاثة أسابيع. الازدحام نفسه، والحرارة نفسها، لكن الخوف كان على أشده يومذاك. إنه  الآن لم يعتقل. صحيح أنه قلق، لكنه ما زال حراً طليقاً، وما زال لديه أمل بالتواري. أليس هناك فرق واضح؟ هل يستوي السجين والهارب؟ ألا يستويان! إنه ذاهب إلى جبل الزاوية، إلى معقل ثورة إبراهيم هنانو. هل يمكن أن تقوم ثورة الآن؟ ثورة من  أجل اعتقال فرد أو أفراد! الناس في  غليان شديد. هل هذا يكفي؟ هزيمة حزيران مقروءة على الوجوه على الجدران، على كل شيء: الجوع والظمأ  والقذارة التي تسكن  الشوارع والبيوت والمؤسسات. هل هذا يكفي؟ إن إبراهيم هنانو لم يكن ساحراً يقول للناس: ثوروا فيثورون. وحين ثاروا معه وقاتلوا وحققوا  انتصارات، لم تنته  ثورتهم إلى تحرير سورية، نعم أوجدوا أملاً، حققوا إنجازات ضخمة، غسلوا كثيراً من اليأس ،والهوان في نفوس، وزرعوا الخوف والمهابة في نفوس،  لم يحققوا الانتصار  الكامل الفوري،  لكن جاء يوم اضطر فيه المستعمر إلى  الجلاء. الأحداث الضخمة  تحتاج  إلى جهود ضخمة، إلى  تحضير. إلى تخطيط، إلى متابعة، إلى زمن. والمطر له أوانه.

أحس حامد بحجر آخر من حجارة القبر ينزاح. اتسع الأفق أمام  ناظريه.  امتدت  الأرض الحمراء تكسوها  غمامات  الأشجار  الخضراء. خيل إليه أن بعض   الأشجار تقفز إلى الأعلى أكثر من بقية الأشجار. إنها أشجار  الجوز العملاقة. هكذا الناس يتفاوتون في الوعي والهمة. لا بُدَّ للناس كل الناس من أن يشتركوا بقدر معين من الوعي والعزيمة حتى يتحركوا معاً. حتى يغيروا التاريخ. من يصدق أنَّ آباء هؤلاء الركاب الفلاحين وأجدادهم حملوا السلاح، ثاروا  بوجه الاستعمار الفرنسي؟  لا بأس  كان العدو واضحاً، وكان أيضاً دولة من الدول العظمى. كيف حصل ذلك؟ إبراهيم هنانو لم يكن فلاحاً كان مثقفاً. هل في ذلك سبب في النصر أم في الهزيمة؟  ثورته حققت انتصارات، ولم تحقق جلاء الأجنبي. لماذا كان هذا وذاك؟!.

في سجن جاسم المظلم، وبعد مضي عشرين يوماً على  اعتقاله  فكر حامد كيف يعمل إخوانه للإفراج عنه وعن بقية المعتقلين. تخيل أنهم سينقبون عليهم الجدار الخلفي.  أو يقومون  بعملية إغارة مفاجئة. ثم تراجع عن هذه الأحلام الطفلية. لم يحملوا السلاح، ولم يفكروا بحمله حتى الآن، فكيف يمكن تحقيق  مثل هذه المغامرات؟ لماذا لم يحملوا السلاح، ولم يفكروا بحمله حتى الآن؟ هل من الضروري أن يكون الإفراج بعد هزيمة عسكرية للسلطة على يد العدو الإسرائيلي؟ إسرائيل وجدت لتبقى! وهل يبقي على هذا الكيان السرطاني أفضل من هذه الحكومة المستبدة! جيش مفكك. حكومة معزولة. شعب مظلوم محروم.  حريات مكبوتة معطلة. تفضلي يا إسرائيل، هل يرضيك الجولان وحده؟ تفضلي  خذيه. زعموا أن جيش العدو الإسرائيلي علق بعد الحرب لافتة  على أبواب مدينة  القنيطرة  المحتلة: »كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه«. يا للسخرية.. آية كريمة نزلت بحق المجاهدين المؤمنين يرفعها أعداؤهم شعاراً. إلى هنا وصل الذل والهوان وتزوير  الحقائق؟ لا غرابة! من يسبّ اللّه تعالى  فلينتظر جزاءه. من يهجر  شرعه فليتوقع حسابه. ألم يقل لنا في صريح القرآن: »وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل..«.

أحس حامد أكثر وأكثر بأن قوته على الخروج من القبر تشتد. أحس بصحوة  ذهنية مفاجئة، أسعفته باكتشاف: إذا كان العدو الأكبر يفيد من العدو الداخلي، وإذا كان كلّ من العدوين يكمل بعضهما الآخر،  فما العمل؟.

عند مدخل أريحا اختلجت سيارة (الأوطوبوس) اختلاجة  شديدة، وارتجفت قليلاً،ثم أسلمت الروح. دعي الركاب إلى مغادرة السيارة، ومتابعة الرحلة على الأقدام: لم  يعد أمامكم غير مئة متر. توكلوا على اللّه. حمل الركاب ما استطاعوا حمله على ظهورهم. بعض الأطفال حملوا في أحضانهم أباريق ماء فخارية فارغة. كان حمل حامد غير منظور. كان هماً كبيراً: الأمن، أمن نفسه وأمن  أمته وشعبه وعقيدته. السرطان الإسرائيلي يتمدد، ونحن يحشر بعضنا بعضاً في الجحور، في الظلمات، لمصلحة من هذا الانجحار؟!

وسط السوق توقف حامد. الركاب الآخرون يعرفون إلى أين يذهبون، إلى بيوتهم أو إلى قراهم. أما هو فلا هدف له محدداً. ما أصعب أن يكون  الإنسان بلا هدف. حتى الجمادات لها أهدافها: الشمس  تشرق من الشرق وتسير قدماً حتى تغرب من الغرب. النبات يصعد من أسفل  إلى أعلى. إنه الآن في مفترق الطرق. لم يتخذ قراره الأخير. عمّا قليل تميل الشمس إلى الغروب، وتقل الفرص. لا بُدَّ من حسم. أي الجبلين: جبل الزاوية  أم جبل الأربعين؟ أمّ النوافير مستبعدة. قلنا: مستبعدة. هي أسهل، لكنها  أخطر. لنجسّ النبض هنا.

في باحة إحدى الدور العربية صنع له صديقه قاسم كأس شراب من عسل النحل: (إنه سنة نبوية).

- أخي قاسم. تعلم أن لي أقارب في جبل الزاوية. وأنا متردد في الذهاب  إليهم، للتواري  عندهم، وأحب أن أستشيرك. فما رأيك؟

- رأيي مثل رأيك. أعطني فرصة  للتفكير.

- خرج قاسم إلى السوق وعاد بقرار.

- ما رأيك بالذهاب مع سرحان إلى الحقل، حقل أهله؟ هو خائف من الاعتقال مثلك؟

- لا مانع.

تحت شجرة  مشمش وارفة نصب كوخ صغير من قصب. وفوق الحقل الحافل بأشجار الكرز  والعنب والتين والمشمش انتصبت  خيمة السماء المتلألئة بنجوم الصيف. الآن بين  حامد وبين السماء لا يوجد حجارة ولا تراب. حتى الكوخ ابتعد من باب الحيطة. الهواء العليل وحده يغدو ويروح. يبقى سؤال:  هل  تستطيع العيون والأيدي  المعادية أن تصل إلى هنا؟  الاحتمال ضعيف جداً. المكان منعزل. ونوم حامد خفيف سريع الانتباه مثل عروة ابن الورد ينام بإحدى عينيه ويسهر بالأخرى.

في مثل هذه الليلة وصل رجال هنانو  إلى هنا. كانوا بحاجة ماسة إلى المال. قصدوا أحد الأغنياء. طلبوا المال منه للثورة فرفض. وضعوا فوَّهة البندقية في رأسه.. دفع المال مرغماً. لم يكن الوعي كافياً. إرغام الناس على الثورة لا يغني. الثورة للناس وبهم تنجح.  هذا درس عظيم. هذا في ثورة وطنية ضد استعمار أجنبي مكشوف. فكيف الحال في ثورة شعبية داخلية؟.

قال حامد مرة لأحد القياديين:

- إذا قمنا بتظاهرة، وطاردتنا الشرطة، فهل يفتح الناس لنا أبواب بيوتهم، كما كانوا يفتحونها للطلاب المتظاهرين ضد فرنسة؟

- لا. إن الناس لا يفتحون الآن لنا الأبواب.

- إذاً. أمامنا شوط طويل حتى نتظاهر، فضلاً عن أن نحمل السلاح! ونثور!.

اسكني  يا رياح الغضب، وتراكمي يا غيوم الطوفان.

في الهواء الطلق، تحت خيمة السماء  الصافية والأشجار المثمرة قضى حامد ثلاثة أيام في احتكاك حميم مع  تأملاته وأفكاره، مع عناصر الطبيعة  الحرة. شبح  القبر لا يغيب إلاّ ليعاود الظهور. السعادة نسبية: كأس من عصير الليمون فيه قشة. لقمة سمك لذيذة فيها  حسكة.  حالة الدفن حياً مستمرة، والنعم تموج حولك. والحصيلة  لا اطمئنان. حتى لو حصل الاطمئنان الشخصي، هل تحل المشكلة؟.

دأب حامد على رياضة خاصة:أن يتحلل ما أمكن  من الهم الشخصي: النوم على التراب لا يضر. الاقتصار على وجبات محدودة من  الطعام تدبير صحي. الطعام المتواضع زهد مطلوب. الماء  المكدر بالغبار والقش تطويع للنفس المتكبرة. البعد عن الزوجة والولد هجرة في سبيل اللّه. العمل مع أصحاب الحقل في قطف المشمش وجمعه ونقله واجب، ثم هو علاج للبطالة المذمومة. في الحقيقة كل شيء يهون سوى فوَّهة القبر والدفن  حياً.

صباح اليوم الثالث أخبره صديقه سرحان بأنه سوف ينزل إلى مدينة إدلب يستطلع الطقس بنفسه. تأخر سرحان إلى ما بعد الظهر. هجمت الهواجس والوساوس على حامد: اعتقل الرجل  إذن! هل يدل على مكاني؟ ما أظن. إنه رجل شجاع كتوم. ولو اعترف لن يكون  ذلك خلال ساعات قليلة من اعتقاله. لا بُدَّ من الانتظار. الحذر لا بأس به، إن لم ينفع فإنه لا يضر.

سمع حامد ضجة قادمة من  الجهة المألوفة، مع ذلك، احتاط لنفسه، تنحى عن مكان الكوخ.  وتربص وراء شجرة. وصل سرحان، متهلل الوجه، حليق الذقن، يحمل مرآة صغيرة ومنشفة ملفوفة  بغير عناية، ووصل معه إخوته يحملون الطعام والماء.

- أبامجاهد. أين أنت. بشرى يا أبامجاهد.

- خيراً إن  شاء اللّه! (خرج من مكمنه).

تبسم حامد. تخيل أن زوجته وطفله الوحيد قد جاءا لزيارته، وأي بشرى أفضل من هذه البشرى، وما معنى المرآة وعدة الحلاقة؟

- أفرجوا عن الدكتور محمود.

- والآخرون؟

- لم يحصل لهم مكروه. أبداً. أبداً.

- ما  الحكاية إذاً؟

- الحكاية وما فيها (جلس على الأرض وأخذ يوضح بحركات يديه) أن الدكتور محمود بعد الإفراج عنه  اتصل به هاتفياً أحد أصدقائه، يسلم عليه، ويسأله عن حاله وعما جرى له في السجن. تورط الدكتور وذكر له طرفاً مما لاقاه في سجن تدمر.  كانت المكالمة مراقبة. استُدْعِيَ الدكتور محمود. أجْرِيَ له تحقيق، وسجن مؤقت، وتهديد ثم.. ثم أطلقوا سراحه.

- الحمد للّه. الحمد للّه..

أحس َّحامد ببرودة الظلال على وجهه وجبينه. تطلع إلى شجرة المشمش فوق رأسه. ضحكت له ثمارها، وتوهجت خدودها  المحمرة. قبلها في مخيلته. اندمج في نسغها الصاعد من شعيرات الجذور إلى ساقها وفروعها وأغصانها وأوراقها، ثم انسرب كالأثير عبر الأثير يلف الكائنات المسبحة بحمد ربها ذي الجلال والإكرام. تخيل طريق العودة إلى البيت مروراً بمدينة أريحا وإدلب وبوابة حلب، فحيِّ المسبح البلدي. لا ضرورة للعبور فوق فوهة المنور. سوف أدخل جهاراً نهاراً من  باب البناية. سوف ألقي  التحية على  أهل  الحي وعلى  كل من يصادفني في الطريق، وسوف أغرس وردة حمراء في  الشرفة الغربية.

خرج الصديقان حامد وسرحان إلى الطريق الجانبي المؤدي إلى الطريق العام. تجنبا المرور بالسوق والمرآب من باب الحيطة. إنه ليس مألوفاً أن يكون للرجل صديق من غير بلدته. وإذا كان له مثل هذا الصديق، فلماذا يبيت عنده ثلاث ليال،ولماذا في الحقل بالذات وليس في البيت؟ إن كل واحدة من هذه الأحوال جريمة في نظر الأجهزة الخفية التي انتصرت على الشعب وانهزمت أمام العدو.

قبل أن يهبط الصديقان   المنحدر  الأخير إلى حيث الطريق العام.. صادفا شاباً، ليس صديقاً ولا معادياً، لكنه رجل، له عينان تنظران، وعقل يفكر ويربط: ما الذي جمع هذين الصديقين؟  ولماذا اختارا الطريق الجانبي؟ هكذا خطر للصديقين. ابتلعا ريقيهما، ومضغا مرارة.  أحسا  بأن الهواء النقي لم يعد نقياً،  وأنه لا بُدَّ من مطر ربَّاني يغسل الكائنات. 

     

* أديب سوري يعيش في المنفى