عائشة
عائشة
فاطمة المزروعي / الإمارات
-جماعات النمل تسير بانتظام ، و عائشة تنظر إليها ببلاهة ، تقترب منها نملة ،تسحقها بأصبعها، يتشتت باقي النمل ، فتضحك بهستيريا، تثيربهجتها جماعات النمل القتيلة ، والقيد يلتف بقوة حول قدميها المغبرتين ، تضرب عائشة القيد الحديدي بيديها ، تحاول أن تفتحه ، تعاود المحاولة ، وعندما تيأس ، تغمض عينيها ،تحرقها حبات العرق وهي تختلط بالجرح الغائر في رأسها ،تمص لعابها ؛تبصق في قوة ،الشمس محرقة .. إنها مجنونة ، لفظ اعتادت أن تسمعه ، تضحك ،وتشير إلى نفسها ،أنا المجنونة .. لافائدة .. لقد ازداد جنونها .. ولم تعد تنفع لشيء .. لقد تركت القطيع يرعى وحده ولولا ستر الله لضاع وأكلته الذئاب ..
*************************
- في القرية ، تدور عائشة ، تدق على الأبواب ، تبدو وكأنها تبحث عن شيء ، والأطفال حولها ، تغني لهم، وأحياناً تدفعهم عندما تمتد أيديهم عليها ،وفي بعض الأحيان لا تسلم عائشة من ضربات الكبار .. وصراخهم ، تبدو وكأنها تلامس بجسدها السماء ، ، حتى تعانق بجنونها الأبدي ، أية نجمة ..
- تضحك في هستيريا غريبة ، عندما تقلد أي أحد ، يعجبها أي منظر تراه ، يضحكها ، فتخرج لسانها وتتركه وكأنها كلب منهك من الحر ، تبدو الدموع عندها كالضحك ، لا فرق بينهما ، لا فرق .
*************************
عند أذان العصر ،تخرج من المنزل ، خلسة ،تحتضن بيدها حقيبتها ذات القماش المخطط باللونين الأحمر والأسود .. تركض في طرقات القرية .. حافية .. منكوشة الشعر .. ثوبها الأحمر القصير والمرقع بقطع مربعة كبيرة باللون الأبيض..
أنا الذيب باكلكم ...... أنا الأم بحميكم ..
الأولاد يعدون خلفها .. يضحكون في استهزاء فرحين بطفولتهم ، يجرون ملابسها ، يمزقون أطرافه، واحدة تجر حقيبتها ، والصوت يتردد ، المجنونة عايشة ، عايشة ..
يلقون الحجارة عليها ، حجر كبير ، أصابها في وجهها ، تصرخ ، تزعق بصوع عال وبكلام غير مفهوم ،تدفع الأولاد من حولها ، حتى تنفلت منهم ..
يستبد بها الغضب ، فتلتقط حجراً .. تضرب به أحد الصبية .. والضربة قد شجت رأسه .. تضحك .. منظر الدماء وهو يسقط .. يثيرها .. صوت الصبي العالي...
*************************
صراخهم .. أقلقها .. أسرعت تعدو .. تحتضن حقيبتها إلى صدرها بقوة ، يرتجف قلبها .. ينفطر ، تبدو المساحات صغيرة ، ربما بحجم أصبعها ، بقدمها ، يقترب البيت منها ، معالمه تتضح ، فراشة تطير في الأجواء ، تحلق حولها ، تصل إلى المنزل ، تصرخ ، تزعق بقوة ، أم الدويس تسكن منزلهم منذ زمن ، تحاول الفرار منها ، يلتصق جسدها المرتعد بالجدار الطيني ، يداها الصغيرتان ، الضعيفتان ، تتشبثان بالجدار ، أكثر وأكثر ، تحتبس الكلمات داخل جوفها ، تجحظ عيناها ، تسقط الحقيبة ، تنفلت الدمية القماشية على الأرض ، أم الدويس تدفع رأسها بقوة ناحية الجدار ، تصرخ عائشة ، تبكي ، تحاول الإفلات ، الألم يزداد ، يابنت الكلبة ، كيف تجرأت على الدخول إلى مملكتي ؟ سأقتك ...
*************************
- يتجمع أهالي القرية حول منزل عائشة ، يبدو والدها شاحب الوجه ، منهارا ، وهو يخرج من البيت ، منظر الدماء وجثة زوجته الملقاة يجوار الجدار ، أين عائشة ياحاج راشد ؟ يجب أن تعاقبها ، لقد أصابت الطفل بعاهة مستديمة في عينه اليسرى ، ينظر إليهم الحاج راشد بألم ، يبدو مشتتا وهو يهز رأسه يمنة ويسرة ، يريد أن يتحدث ، يتكلم ، يتفوه بأي شيء ، إنها مجنونة لا تعي ما فعلته، لقد قتلت عمتها ..
لا أعرف أين ذهبت ؟ ربما ماتت .. الدماء إنها دماؤها ، أنا متأكد من ذلك ..
لا توجد سوى حقيبتها القماشية ، والدمية ..
*************************
- الأهالي يدورون في أرجاء القرية ، يفتشون بيتاً ، بيتاً ، يقلبون الأثاث ، بحثاً عن عائشة ، ولكنهم لم يعثروا عليها سوى قطرات دم كثيرة وآثار أقدام، تصل حتى الجبل المتاخم للقرية ، ذلك الجبل الذي يخشاه الأهالي ..
لا..... أحدهم يصرخ في وجه المجموعة التي معه ..
لنعد .. إنه نهاية الطريق .. يبدو أن عائشة ماتت ، ربما أكلتها الذئاب ، لنبتعد عن المكان ، إنه مكان للجن..
كان لكلامه وقع السحر عليهم ، فسرعان ما تركوا المكان ، وذهبوا إلى منازلهم ، وقد أخرستهم عبارته ، فظلوا صامتين ،ـ ينظرون إلى الجبل بخشوع ..
*************************
بعد يومين اختفى الحاج راشد من القرية دون أن يعلم أي أحد أين ذهب ؟ لقد دخلوا منزله ، ليجدوا ملابسه وأغراضه مكانها لم تمس ، بحثوا عنه وسألوا ، وبدأت الإشاعات تنتشر من أنه ربما ذهب للبحث عن ابنته عائشة ، وبعضهم يؤكد أنه رأى الحاج راشد يسير إلى الجبل وهو يبكي ..
ولكن الإشاعة التي يشترك فيها أهالي القرية ويعيشون فيها ، وتجلب لهم الرعب ، هي أنهم يرون عائشة تسير في طرقات القرية ، في النهار والليل ، بشعرها المنكوش وثوبها الممزق ، وحقيبتها القماشية ، تضحك وتصرخ ، بيديها دميتها ، إنهم يرونها في شوارع القرية المبللة بالمياه وفي منازلهم ، وحتى في وجوه أزواجهم ، وفي غرف نومهم وفي قلوب أطفالهم ، فيزداد رعبهم ..
فيظل صوت عائشة الجنوني ، يدوي في الأفق ، أنا الذيب باكلكم ، أنا الأم بحميكم .. يتردد في أرجاء القرية ..