وسقط شهيداً

وسقط شهيداً

بقلم : نازك الطنطاوي

أمُّ محمّد امرأة  فلسطينية، اعتقل زوجُها منذ أكثر من عشرة أشهر، وترك لها ثلاثة أطفال: محمد (تسع سنوات) أحمد (سبع سنوات)، حسّان (خمس سنوات).

لم يكن لهذه الأسرة المسكينة من عائل سوى والدهم المعتقل، لذا اضطرت أمُّ محمّد للعمل في مصنع للحليب لكي تعول نفسها وأطفالها.. فكانت تذهب إلى العمل من الساعة السابعة صباحاً، ولا تعود إلى بيتها إلا عند الخامسة مساءً، وكانت تترك صغارها في البيت، تطلّ عليهم بين الفينة والفينة جارتها أمُّ محمود التي تسكن بجوارها..

في مساء أحد الأيام.. وبينما كانت أمُّ محمّد عائدة من عملها، رأت أمَّ محمود واقفة أمام منزلها.. فأسرعت إليها تسألها بلهفة:

- خيراً إن شاء الله يا أمَّ محمود.

- أسرعي يا أمَّ محمّد.. إن حسّان مريض، وحرارته مرتفعة جداً!..

ركضت أمُّ محمّد إلى بيتها، وحملت صغيرها بحنان، والدموع تنهمر من عينيها، ثم رفعت بصرها إلى السماء مبتهلة إلى الله:

- يا ربّ أنت أدرى بحالي.. يا ربّ اشفه وأذهبْ عنه المرض..

رأت أمُّ محمود الخوف والحزن في عيني جارتها أمِّ محمد، فأقبلت نحوها، وربَّتت على كتفها قائلة:

- لا تخافي يا أمَّ محمّد.. فهي حمّى خفيفة، وسوف تزول عنه بإذن الله فلا تقلقي..

التفتت أمُّ محمّد نحو جارتها، وقالت في ذعر:

- بالله عليك يا أمَّ محمود.. أرشديني ماذا أفعل؟.

قالت أمُّ محمود بصوت حزين:

- تعلمين يا أمَّ محمّد، أنْ ليس في حارتنا ولا في الحارات القريبة حكيم حتى نذهب إليه.

 كان محمّد وأحمد يراقبان أمَّهما وهي تبكي بحرارة، فتحلّقا حولها وهما يبكيان.. أمسكت الأمُّ دموعها عندما رأت طفليها بهذه الحالة، واحتضنتهما بحنان وهي تقول:

- لا تحزنوا يا أولادي.. فالله معنا ولن ينسانا أبداً..

في تلك اللحظة.. تذكّرت أمُّ محمود شيئاً ما، فاستأذنت جارتها، وخرجت ثم عادت بعد قليل، ومعها علبة من الدّواء.. وقالت لجارتها:

- خذي يا أمَّ محمّد، فهذه الحبوب لتخفيض الحرارة، استخدمتُها يوم مرض محمود، لعلّها تفيد حساناً..

نظرتْ أمُّ محمّد إلى جارتها نظرة مترعة بالحزن، وقالت لها:

- ولكن يا أمَّ محمود.. ماذا تعمل هذه الحبوب؟ إنّ حساناً يحتاج إلى دواء كامل.. إلى حكيم..

ردّت عليها أمُّ محمود والخجل بادٍ على وجهها:

- لا تؤاخذيني يا أمَّ محمّد، فلا يوجد عندي إلا هذه الحبوب القليلة، ولولا أنّ الوقت متأخّر لكنت قد بحثت لك عن حكيم..

ثم ذهبت وأحضرت وعاء فيه ماء بارد، ووضعت في داخله قطعة من القماش، وقالت لجارتها:

- ضعي هذه القطعة من القماش على جبين حسان، وسوف تخف حرارته تدريجيّاً بإذن الله تعالى.

شكرت أمُّ محمّد جارتها أمَّ محمود على اهتمامها بهم، ثم رجتها أن تعود إلى بيتها وأطفالها، فهم أيضاً بحاجة إليها، ولم يكن أمام أمِّ محمود إلا أن تنفّذ رغبة جارتها، فودّعتْها قائلة:

- سوف أراك غداً صباحاً يا أمَّ محمّد، ويكون حسان قد خفّت حرارته بإذن الله تعالى..

أغلقت أمُّ محمّد الباب خلف جارتها، ثم اتّجهت نحو محمّد وأحمد، فوضعت لهما الطعام، ثم قبّلتْهما قبلة النوم، واطمأنّتْ عليهما.. ثم أحضرت الوعاء، وأخذت تضع الكمّادات لطفلها حسّان، على أمل أن تخفّ حرارته.

عند الساعة الحاديةَ عشرةَ ليلاً، انتبهتْ أمُّ محمد على صوت الباب وهو يُطْرَقُ بشدّة.. ثم علا الصُّراخ:

- افتحوا يا خونة.. وإلا حطّمنا الباب!!

نظرت أمُّ محمّد حولها.. كان الصّغار يغطّون في نوم عميق، قالت في نفسها: لن أفتح لهم وليفعلوا ما يفعلون؟!

استيقظ الأطفال على أصوات الطَّرْق والتّهديد والشّتائم فزعين، وانخرطوا في الصّياح والبكاء، فيما كان الطَّرْقُ العنيف على الباب يشتدّ..

توجّهتْ أمُّ محمّد نحو الباب، وفتحت نافذته الصغيرة، وقالت للضّابط الذي يصرخ كالكلب المسعور:

- ماذا تريدون؟ لقد أخذتم زوجي، ولم يبقَ هنا أحد لتأخذوه؟!

ضحك الضابط ساخراً:

- نريد أن نأخذك إلى زوجك!

لم تدر أمُّ محمّد ماذا تفعل، ولا يوجد أحد في البيت. كيف ستترك صغارها في منتصف الليل؟.. ولكنّ هؤلاء الأوغاد لن يتركوها وشأنها..

فتحت الباب وقالت بلهجة متوسّلة:

- أرجوك.. إن ابني مريض.. ولا أستطيع أن أتركه هنا وحده، وأخواه - كما ترى - طفلان صغيران.

أمسكها الضّابط من يدها بقوّة، وشدّها نحو الباب قائلاً لها:

- تعالي معنا بهدوء، وإلا استعملنا معك القوّة!..

نظر أحمد ومحمد إلى الضّابط والجنود المحيطين به نظرة كلّها حقد وكره وغضب، وصرخ فيهم أحمد:

- اتركوا أمّي يا كلاب.. اتركوها!..

ثمّ ركض نحو أمّه، وأخذ يشدُّها نحوه بقوُة، فما كان من الجندي الواقف أمامه إلا أن ركله برجله الغليظة، فسقط الصغير على الأرض وهو يصرخ ويبكي..

رأى محمّد أخاه أحمد  وهو على الأرض يبكي، والجنود يشدّون والدته بقوّة، فاندفع بكلّ ما أوتي من قوة نحو الضّابط الذي كان يشدّ والدته من شعرها، وعضّه من رجله عضّة قويّة، صرخ على إثرها الضّابط صرخة أليمة، فأسرع نحوه أحد الجنود، وعالجه بصفعة قويّة على خدّه الغضّ.. سقط على إثرها إلى الأرض بجانب أخيه أحمد.

نظر الضّابط نحو محمّد، والشَّرر يتطاير من عينيه الجاحظتين، وقال في نفسه:

(ماذا لو كان مع الفتى الصّغير سلاح؟ إذن لكان قد قضى علينا بلمح البصر، ومع ذلك استخدم أسنانه الصّغيرة ضدّنا؟!..)

ثم اتّجه نحو محمّد، وأمسك ناصيته وأخذ يشدُّها بقوّة قائلاً:

- اتركنا نمضي يا كلب العرب، قبل أن نقتلك أنت وأمّك وإخوتك..

صرخ الصّغير في وجه الضّابط، محاولاً التخلّص منه:

- لن أترككم تمرّون.. اتركوا أمّي وخذوني بدلاً عنها.

وقبل أن يكمل كلمته الأخيرة، بادره الضّابط بصفعة أخرى قويّة على وجهه، أفقدته صوابه، فسقط الصّغير على الأرض، والدّم ينزف من فمه الصّغير، ثم أشار بإصبعه.. فاتّجه إليه اثنان من الجنود، وأخذوا يكيلون للصغير الضّربات والرّفسات بلا رحمة..

شاهدت الأمُّ صغيرها، وقد شارف على الموت، فحاولت جاهدة إبعاد صغيرها عن أيدي الجبناء الذين يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ، وتخليصه منهم، إلا أنّ أحد الجنود أمسكها، محاولاً إبعادها عن البيت.. ولكنّ الضّابط صرخ في وجهه قائلاً:

- اتركها هنا يا حقير.. إنّي أريد أن يموت صغيرها أمام عينيها..

ثم مدّ إصبعيه نحو عيني أمِّ محمد، وكاد يفقؤهما قائلاً لها بسخرية:

- لا تجزعي يا امرأة (ضاحكاً) فنحن فقط نريد أن نعلّم هذا الفأر الصّغير الوقح كيف يتحدث مع الآخرين.

ثم غمز بإحدى عينيه.. وفهمت الأمُّ ما يدور في خَلَدِ الضّابط، فأرادت أن تصرخ بكلّ قوّتها، ولكن صرختها كانت قد تلاشت في الهواء.. وسقط الصّغير شهيداً..