عودة القافلة

فاطمة أديب الصالح

فاطمة أديب الصالح

   سارت القافلة جذلى، يريد سكون الليل ونجومه الشاحبة أن يذكرها بما تحمله من أحزان في الهوادج وعلى ظهور النوق، لكنها تستنشق الهواء النقيّ وتسعد قليلاً لأن الصباح قادم ..   

   لقد ودّعت، أو كادت، في محطة قريبة أسباب الحزن والغم، وانطلقت بحمولة خليط من الصبر والبهجة العابرة والألم الحالم والدموع التي لا تخطئ سبلها.

كان قد مضى وقت قصير على تخليص الأرض من

الآفات، والجميع يظن الآن أن المحصول القادم سيكون أخضر مرتعشاً في حبور تطربه لمسات المحبين فيستسلم لحالة القطاف.

   كل الناس يرون أنهم تعبوا جداً .. ويظنون أن الأرض نقية جداً، إلى حد ألا تبخل أية ذرة تراب بالعطاء، وإلى حد أن تسامحهم حتى لو قصروا، مادامت أضحت حبلى ببذورهم القوية، مادامت تجد في باطنها خيراً كثيراً ستمد به أجنتها التي لا تبكي عندما ترى النور، وهاهم في طريقهم ليجلبوا لتلك الأرض مزيداً من أسباب الخير.

   كانت الأفعى في وكر قريب، تنتقل بخفة دون أن يراها أحد. تتشمم الأرض الطاهرة، تمد لسانها المشطور وكأنها تلعق الهواء النظيف الحزين، تلتمع عيناها في العتمة، يتعبها زهوها بثوبها المرقش، لكنها لم تبح لأحد بأنها أفعى، فظن الجميع وهم يقلبون الأرض ويجمعون الطفيليات، وهم يهيلون التراب فوق المساحات المدماة ببذل الشهداء.. ظن الجميع أنها حبال الزينة التي قطفها الأطفال الفرحون بالخلاص.

   لا أحد يدري ماذا يحدث غداً، لكن الآفاق بدأت تنبلج عنها العتمة، وتبدت ألوان الصباح التي تخطف الأنفاس أكثر ألقاً وصدقاً، توقفت القافلة تتأملها وقررت أن ترتاح في النهار بعد أن سارت ليلاً بطوله.. وبعد أن انتحبت عمراً بطوله، لقد أصبح المقصود قريباً، ولا بأس في قدر من الراحة.. لقد أصبح كل شيء على ما يرام، سينسى الناس أحزانهم: الجميلة ستسلو الحبيب، والأم ستعتاد غياب الولد، الزوج سيقوى على فقدان الزوجة، طالما أن ذلك حدث ولايمكن إصلاح ما حدث.. لكن إصلاح القادم ممكن والأفق جميل والحياة تعد بالاستمرار، لا نستطيع صم الآذان عن وعودها، أنغام الوعد شجية ومهدهدة، حتى الجراح تغدو أقل إحراقاً، الذراع المفقودة قد يعوضها العلم.. والعين والعينان..ألا يمكن أن نبصر بالأذنين ونسمع بالعينين؟ ألا يمكن أن نمشي على ذراعين ونكتب بأصابع القدمين، يمكن أن نضغط بالكف على موضع القلب ثم الكبد .. فيهدأ وينتظر.. ويحلم أثناء الانتظار.

برزت الشمس محذرة بأشعة شواظ من نار، تدثرت الأفعى بالتراب، وانسلت بين المخيمين الغاطين في نوم آمل، يبهجه التعب المتغلغل في الخلايا وتجمله لذة مسّ الأرض بعد فراق.

انسلت الأفعى ونفثت سمها: في كل إناء قطرة واحدة ..

 " من أسف أن الآنية كانت مكشوفة "

شربوا ولم يقتلهم السم.. لكنهم لما استأنفوا المسير تثاقلوا واكتشفوا أن الطريق طويلة ومضجرة، وأنه تحسن العودة قبل صباح آخر.. أحسوا أن آلامهم تتمدد وأن جراحاتهم تتنزى من جديد.. وجدوا ألا شيء يستحق المزيد من المغامرة، وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، بزغت في حصن الحب ثغرة، فتسلل التعب وحارب الصبر.. فلم يعودوا يطيقون ما أطاقوه طوال مسيرة الليلة السابقة، حين ظنوا أن قطف الأقمار من أجل الليالي لن يحتاج أكثر من مسيرة بضع ليال.

******

لوَّوا أعناق الجمال الصيد في طريق عودة، في غمّ وصمت أدهش النهار الذي راقب في الليل الجذل والفرح في عيون الشيخ والطفل، ولم تدر الهوادج بالذي كان.. إلا بعد فوات الأوان.