متعة الحياة

متعة الحياة

قصة: يحيى الصوفي

تعبت البذرة من البحث عن قطرة ماء، طافت الصحراء لأكثر من ألف عام تذروها الرياح فتأخذ بها ذات اليمين وذات الشمال، قطعت -وهي معلقة بوبر الجمال- المدن الكثيرة، شاركت بمعارك الفرسان، وبأفراح العرائس وبالجنازات الملفوفة بالأكفان، سمعتهم يتحدثون عن الحياة ...عن الحب...عن الموت ... عن الأحزان ؟ !

ملت الترحال وهي تلتهم مخلوطة بطعام القطعان....ليتخلصوا منها بعد ذلك مع البراز في أرض جديدة خاوية من كل إنسان...سئمت حياة الترحال ...رغبت بتذوق طعم الأمان، ...طعم الحياة، فاقتربت ذات صباح من نبتة صبار ترجوها قطرة ماء، هزتها وهي أسيرة أشواكها صائحة:

-أرجوك قطرة ماء،...من الندى الفائض بين إبرك السمحة علني أعرف الاستقرار !

نظرت نبتة الصبار مستغربة منها وقالت:

-أتستعجلين على الحياة ؟  ألا تعرفين أنك ستلتصقين بالأرض بعدها وتفقدين حرية القرار بالترحال عبر البوادي، والتجوال بين الأمصار؟!

وقبل أن تجيبها بالإيجاب سقطت فوقها قطرة من ندى فانزلقت بها إلى ثغرة بسيطة بين الحصى والرمال وبدأت تشعر ببعض الانتفاخ، فضحكت من منظرها الغريب وقالت: أخيرا سأستدل على أصلي ونوعي ...أخيرا سأتذوق طعم الحياة، !

نظرت نبتة الصبار إليها بحزن وقالت: إنها بداية النهاية يا عزيزتي فلا تتعجلي !

قاطعتها البذرة وقد أخذت بالانفلاق و تخلصت من غلافها وبدأت تمد في الأرض جذورها بفرح:

-بداية أم نهاية فأنت ولاشك تدركين تلك المتعة الفائقة التي تحل بنا ونحن نمر بتلك المراحل من التحول،...مررت بلا شك باللذة التي تحتكرين.؟

أجابتها نبتة الصبار مستغربة:

-لأجل هذا تستعجلين ؟ إلى الموت بعد أن كنت تحتفظين بالحياة منذ آلاف السنين ؟؟؟

ردت البذرة عليها وهي تمد سيقانها في افتخار وغرور:

حتفظ بالحياة ولكن لم أذقها !....لم أذق متعة التربة تحتضنني بدفئها....لم أتمتع بقطرات الماء تسري بالخلايا والعروق ....لم أتعرف على أنواع المعادن والفيتامينات ولا ثاني أكسيد الكربون ولا الأكسجين ...ولا بدغدغة الفراشات تستثير زهوري البهية ولا بغناء الطيور،... ولا حتى بدفء الشمس عند الشروق تغمرني بالحنان ولا بالنسمات العليلة تهز علي الأغصان،....بكل بساطة لم أكن إلا بذرة تافهة؟

تفاجأت نبتة الصبار من حماسها للحياة وقالت:

-ولكن أنت تدركين أنك بعد كل هذا ستذبلين وتموتين وما الحياة التي تأملين إلا بضع ساعات لا تتجاوز دورة يوم واحد هل فهمت؟ ألا زلت بهذه التجربة تتمسكين ؟ ؟ ؟

ابتسمت البذرة وقد أصبحت نبتة كاملة تحمل بين أغصانها الزهور وبعضاً من الثمار التي عقدت وقد حوت في بطنها البذور وقالت بغرور:

- إنها الحياة يا عزيزتي ...إنها بكل بساطة هي الحياة وبعد أن كنت بذرة بسيطة وحيدة لا نفع منها ها أنا ذا أستمتع بها وأطعم وأنثر بعد موتي الحياة الجديدة محفوظة ليوم موعود .

ثم تابعت وهي تهتز بفرح وقد شعرت بأوصالها ترتخي وببعض أغصانها الذبول:

- أنا لم أتذوق الحياة بكل عطائها فقط ها أنا أترك بعضاً مني للأجيال القادمة لأحمل لكل جائع بعضاً من طعام ولكل عاشق بعضاً من الفرح والسرور...إنها الحياة بكل ما فيها أعيشها فلا عتب بعد الذبول ولا ندم مهما ضاع منا في بطون السحالي أو الطيور ومهما جمع منا بالقبور سيبقى بعضنا مهما تعاقبت الأيام والسنون يعيش الحياة ثم يعطيها بكل ما تحمله من أمل وشقاء وسعادة وحبور.

جنيف في 18/04/2004