بعد الانتظار
بعد الانتظار
بقلم : نازك الطنطاوي
قرَّرَ (خالد) و(مها) الزواج.. وفي اليوم المحدّد تمّ الزّواج السّعيد، وانتقلت (مها) إلى بيت زوجها الكبير الواسع، حيث كانت السّعادة الزّوجيّة تخيم على البيت.
إلا أنّ السّعادة لم تدم طويلاً.. فبعد خمس سنوات من الزواج لم يرزق الزوجان بمولود، وبدأت المتاعب تتسرّب إلى البيت السعيد، فأهل (خالد) يتّهمون (مها) في أنّها السّبب في عدم الإنجاب..
وفي يوم من الأيام، جاء (خالد) إلى البيت، فشاهد زوجته حزينة مهمومة، وعندما سألها عن السّبب، عرف أنّ أمّه كانت هنا، وأنّها أخذت تهدّد (مها) بأنها سوف تتصرّف إذا لم تذهب (مها) إلى الطبيب..
بعد كلّ هذا الذي حدث، قرّرتْ (مها) الذهاب إلى الطبيب، وعرض مشكلتها عليه.. ثم بعد أيام ظهرت نتيجة الفحص، وكانت (مها) خالية من أيّ عيب، وبإمكانها أن تنجب.
لم يصدّق أهل (خالد) هذا الكلام، إلا أنّ (خالداً) أكّد لهم صدق قول الطبيب، وعندها سكتت أمُّ خالد، ولم تعد تجادل في هذا الموضوع..
أمّا (خالد) فقد ازدادت حيرته.. فإذا كانت (مها) سليمة فالعيب منه إذن.. قلق لهذه النتيجة قلقاً شديداً، وفارق النّوم أجفانه، وصار في حالة يرثى لها.
لاحظت (مها) الصّراع الذي يدور في رأس (خالد)، وأدركت بطبيعتها مدى الألم الذي يعانيه.. ولكنْ ليس بوسعها أن تفعل شيئاً، سوى أن تشعره بأنّها ليست بحاجة إلى أطفال، وأنّه الوحيد الذي يملأ حياتها.
وفي العمل، كان (خالد) يسمع من زملائه عن الأطفال وعبثهم ومشاكلهم وتصرّفاتهم التي تدخل السُّرور على القلب الحزين، وكان يشعر بضيق شديد وهو يرى زميله يتحدّث عن طفله الصغير بحبّ، وأنه ينتظر انتهاء الدّوام حتى يعود ويراه، لأنّه لا يصبر على فراقه.. وأكّد زميل آخر بأنّ الأطفال زينة الحياة، وبدونهم لا يكون للعيش طعم.
كان (خالد) يسمع هذا الكلام، وفي داخله حزن كبير..
وذات يوم، وبعد انتهاء الدّوام، رجع (خالد) إلى البيت والضّيق يحرق أعصابه، فلم يجد (مها) في انتظاره كعادتها.. فأخذ يضرب كلّ شيء يراه. ثمّ أدار المسجّل إلى أعلى درجة..
بعد قليل جاءت (مها) وسمعت الضجيج الصادر من بيتها، فتعجّبت لذلك، وعندما فتحت الباب، لم تتمالك نفسها من الدّهشة.. فقد كان كلّ شيء محطَّماً.. الزُّجاج والأواني، وبعض التُّحف التي كانت تعتزّ بها.
أسرعت إلى المسجِّل وأخرسته.. ثم وقفت لحظة تتأمّل البيت، وقالت في نفسها: لابدّ أنّ أحد اللصوص قد سطا على المنزل، ثمَّ أسرعت إلى غرفة النّوم لترى ما فعل اللصوص بها، وإذا (خالدٌ) منكبٌّ على السرير يبكي بحرقة.. أسرعت إليه، وضمّته إلى صدرها وهي لا تكاد تصدّق عينيها.. (خالد) الشّاب القويّ ذو الكلمة المسموعة والرأي السديد.. يبكي؟.. ولماذا؟..
بعد قليل هدأت ثورة (خالد)، فاستجمع قُواه، وقال بصوت متقطّع حزين:
- أنا آسف يا (مها) لما فعلته، ولكنّي أكاد أجن من هذه الرَّتابة التي نعيشها.. كلّ يوم آتي إلى البيت، فأجده كما هو مرتَّباً لم يتغيَّر فيه شيء.. أمّا الهدوء فيكاد يقتلني.. كم أتمنَّى لو أشكو من الضّجيج والصُّراخ كما يفعل زملائي..
ثمّ سكت لحظة، التقط فيها أنفاسه، ثمّ تابع حديثه بلهجة قويّة صارمة:
- لقد قرّرت أن أنهي متاعبي.. قرّرت أن أذهب إلى الطبيب.
سُرّت (مها) لهذا الخبر السّعيد، ولكنّها أخفت سعادتها عن خالد، لكي لا تجرح شعوره..
بعد أيام جاءت نتيجة الفحص، وكم كانت دهشة (خالد) و(مها) والعائلة بهذه النّتيجة.. فقد كان خالد خالياً من أيّ عيب خَلْقيّ، ولا يوجد لديه ما يمنعه من الإنجاب..
تعجَّب (خالد) من قول الطبيب ولم يصدِّق، فكيف يكون سليماً هو وزوجته، ولا يكون عندهما طفل؟
اتفق (خالد) و(مها) أن يستشيرا طبيباً آخر.
ومضت سنتان و(خالد) و(مها) في دُوَّامة مع الأطباء.. كان جوابهم جميعاً أنَّ (مها) و(خالداً) سليمان معافيان من كلّ علّة تمنع من الإنجاب.. فاستسلم الزوجان الحبيبان لأمر الله ولم يعودا يراجعان أيَّ طبيب.
وفي يوم من أيام الجمعة، وبينما (خالد) جالس في المسجد، في مكان منزوٍ يفكّر بمشكلته، ويستمع إلى بعض النّاس وهم يروون مشكلاتهم لشيخ جليل جالس، وأمامه كتاب كبير، يحكم بين النّاس ويفتي بعض النّاس بالحكمة والموعظة الحسنة.. قرّر أن يعرض مشكلته على ذلك الشّيخ، علَّه يجد حلَّها عنده. تقدم (خالد) من الشّيخ، بعد أن انفضّ من حوله الناس، ثمّ سلّم عليه، وجلس بجانبه في أدب، وانطلق يروي قصته بحزن.
كان الشيخ الوقور يستمع إلى (خالد) باهتمام بالغ، ثمّ قال بعد أن انتهى (خالد) من عرض مشكلته:
- بعد الذي قلته يا ولدي .. أرى أن تتوجّه أنت وزوجتك إلى الله العليّ القدير، طالبين العفو والمغفرة منه تعالى.. لأنّه عزّ وجلّ يقول في كتابه الحكيم: "فقلت استغفروا ربَّكم إنه كان غفّاراً، يُرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً" نوح (10-12).
ودّع (خالد) الشيخ واعداً إياه بتنفيذ نصيحته، ثم اتّجه إلى بيته، وقصّ على زوجته ما حصل بينه وبين الشيخ، فتفاءلت (مها) بالخير، ثمّ رفع خالد يديه إلى السّماء، ورفعت (مها) هي الأخرى يديها إلى السّماء، داعين الله تعالى أن يتقبل منهما استغفارهما، وأعينهما تفيض من الدّمع..
ولم تمض سوى أسابيع حتى كانت (مها) تشكو من آلام لا تدري سببها.. وعند الطبيب.. كانت المفاجأة الكبرى.. فقد كانت (مها) حاملاً في شهرها الثاني.