إنها الخمسون

عصام أبو فرحه

[email protected]

جلس في شرفة بيته يحمل سيجارته بأصابع مرتعشة , أخذ منها نفساً عميقاً بينما كانت عيناه تحدقان في رأسها المشتعل كما هو حال قلبه , أخذ منها نفساً آخر وألقى بها في المنفضة وهي لا تزال في ريعان شبابها , وبحركة كان الارتباك سيدها إستل من العلبة سيجارة اخرى وأشعلها , نظر بترقب الى هاتفه النقال , رفعه ونظر اليه ثم أعاده الى الطاولة , وقبل أن يستقر في موضعه عاد لحمله والنظر اليه من جديد .

هيا أسمعني صوتك , صمتك يكاد يقتلني - قال مخاطباً هاتفه – كم انا متلهف لسماع رنينك العذب , وكم أنا تواق لرؤية تلك الرسالة التي ستحملها إلي , آه آه يا زمن , قبل خمس وثلاثين سنة كنت أجلس جلستي هذه في حديقة بيتنا , أذكر ذاك اليوم جيداً , كنت انتظر رسالة من ابنة الجيران , كانت تلف الورقة بحجر صغير وتلقي بها في الفضاء لتسقط في حديقتنا , آه يا هاتفي لو كنت حجراً , أظنك ستكون أسرع .

قبل بضعة شهور لم يكن حال سعيد كحاله هذا , كانت أيامه تمضي بسلاسة وهدوء , فهو استاذ جامعي ناجح في عمله , سعيد ومستقر في بيته ومع اسرته , أكمل الخمسين من عمره قبل ثلاثة شهور , ( إنها الخمسون وما أدراك ما الخمسون ) عبارة كان يرددها فتخرج معها ما بداخله من هواجس وحسابات , كان يستمع دونما تعليق لحوار يدور في خلدات نفسه , حوار بين روح الشباب وروح الكهولة , كهولة تغذيها خصلات الشعر الأبيض الغازية لرأسه من شتى الاتجاهات , وبعض آلام في الركبتين والظهر , بينما روح الشباب تقف لها بالمرصاد متسلحة يالحيوية والنشاط وروح العطاء , والقبول الذي يحظى به اينما حل , صراع أرهقه وأرقه ليال طوال , في خضم تلك الحرب الداخلية وما بين صولاتها وجولاتها ظهرت ( عبير ) في حياته , طالبة جامعية حسناء تفوح منها رائحة الانوثة وعنفوان الشباب , قبل ذلك اليوم ما كانت عبير إلا طالبة وما كان سعيد إلا استاذها , دخلت الى مكتبه في ذلك اليوم تحمل في يدها علبة صغيرة , إستأذنت بالجلوس فأذن لها ,

- عفواً استاذ , هل تقبل مني هذه الهدية المتواضعة ؟؟ أخبرتنا قبل أيام انك تحتفل بعيد ميلادك في مثل هذا اليوم , إنها زجاجة عطر اخترتها لك بنفسي , عسى أن تنال إعجابك ,

- ( إنها الخمسون يا عبير , وما أدراك ما الخمسون ) مقبولة هديتك على أي حال ,

- عن أي خمسين تتحدث يا استاذ ؟؟ عمر المرأة هو ما تعكسه صورة وجهها , أما عمر الرجل فهو انعكاس عقله وتفكيره , وأضافت : استاذ سعيد انت شاب بكل ما في الكلمة من معنى , ألا تحس بنظرات الإعجاب من طالباتك ؟؟ إنك حديثهن وفارس احلام الكثيرات منهن .

- وهل انت من اولئك الكثيرات يا عبير ؟ سألها مبتسما ً .

وقفت عبير وهمت بالخروج , فقالت وقد نال منها الخجل : بل أنا أولهن يا استاذ ,

غادرته عبير ولم تغادره كلماتها , ولم يخرج معها طيفها بل ظل محلقاً فوق رأسه , حتى أحس بنفسه يحلق معه ويدور في أرجاء المكان , بعد قليل , هز رأسه بعنف وكأنما أراد نفض أشياء علقت به , اعتدل في جلسته وقال محدثاً نفسه : ما هذا يا سعيد ؟؟ أجننت ؟؟

بعض كلمات من طفلة تنسيك نفسك ومركزك ؟؟

في المساء عاد الى بيته , لا يعرف إن كان مهموماً أم مسرورا , حاول ان يبدو طبيعياً قدر الامكان , أراد إشغال نفسه بأي شيء , يفتح التلفاز تارة , يتركه ليتصفح كتاباً , يخرج الى الشرفة ثم يعود , لكن كلمات عبير تأبى إلا ان تخرج من بين الاشياء لتتسلل إلى مسامعه من جديد , يطردها فتعود , يصغي اليها فيهتز طرباً , وكأن تلك الكلمات جاءت لتناصر روح الشباب التي تمنى انتصارها في داخله , وكأن طيفها صار سيفاً استله لطعن روح الكهولة التي تمنى انكسارها وتقهقرها .

حاول أن يتجاهل تفكيره الجامح , وحاول تصغيره بل وتحقيره , لكنه أحس بالضعف والفشل عند زيارة أخرى قامت بها عبير لمكتبه ,

بين عشية وضحاها انقلبت حياة سعيد رأساً على عقب , عبير معه أينما ذهب وأينما حل , في المحاضرة , في المكتب , في السيارة , في السوق , تسارعت العلاقة بشكل غير مسبوق حتى شغلت حياته ووقته وتفكيره , كان يتوق الى العودة  لسن الشباب وهاهو يعود الى ما قبل ذلك , صبغ شعره , استبدل ملبوساته الرسمية بأخرى شبابية , صارت علب الكريم ( والجل ) والعطور ضمن قوائم مشترياته , وهاهو يجلس اليوم في شرفته ينتظر رسالتها بشوق مراهق , حيث أخبرها بأنه يريد مقابلة والدها ليطلب يدها , استقبلت الخبر بفتور وقالت : سأتحدث اليه وسأترك لك خبراً على هاتفك النقال , انتظر رسالتي,

الساعة تمشي متثاقلة , الهاتف لا يأتي بجديد , يجلس وحيداً في شرفته ويدخن دونما انقطاع , يحتسي القهوة بشراهة , ينظر الى السماء تارةً والى الشارع تحت شرفته تارةً اخرى ,

جرس الهاتف , نعم إنه جرس الهاتف يعلن استقبال رسالة جديدة , ارتعشت أطرافه , تعرق جبينه , ابتلع ما في فمه من لعاب مرات ومرات قبل أن يتمكن من حمل ( الخلوي ) والنظر الى الرسالة , ولكن سرعان ما سكنت حركاته المضطربة وعاد اليه بعض الهدوء , فالرسالة ليست من عبير ولا داعي لقرائتها بتلهف  , فتح الرسالة وبدأ بالقراءة , بدأت معالم وجهه باتخاذ أشكال جديدة , ضحك وبكى في آن واحد , وقف وجلس مرات متتالية , بدى وكأنه عائد لتوه من عالم آخر , عالم بعيد بعيد  , دخل البيت وأقفل باب الشرفة , أغلق ( الخلوي ) وألقى به فوق رف قديم يحمل بعض الكتب , في غرفة نومه جلس الى جوار زوجته النائمة في سريرها , مسح بيده على شعرها الذي تقاسمه اللون الأسود مع اللون الأبيض مناصفة , فتحت عينيها ونظرت اليه نظرة مصحوبة بابتسامة رقيقة , بادلها الابتسامة بمثلها وقال : كبرنا يا زهرة ,,,

طوقت رقبته بكلتا يديها ورفعت رأسها مداعبةً وجهه بمقدمة أنفها  , وقالت بغنج ودلال :

لا , لم نكبر , أنت واهم ,

- بصوت خافت قال : ليس أنا من يقول ذلك , إنها رسالة وصلتني قبل قليل من ابنتنا , تقول فيها : بعد تسعة أشهر سنصبح أنا وأنت جداً وجدة ,

صرخت زهرة بفرح : حقاً ما تقول ؟؟؟

وبكل قوة احتضنته وضمته الى صدرها , وضع رأسه على كتفها وتمتم قائلاً :

هاتان الفتاتان الشقيتان , إحداهن أغرقتني وإحداهن انتشلتني , فوالله لا أدري أيهن أغرقتني وأيهن انتشلتني ,

-  سألته زهرة وهي ما زالت تحتضنه : لا أسمعك حبيبي , ماذا تقول ؟

- ضحك وقال : لا شيء حبيبتي , كنت أقول فليبارك الله لنا في حفيدنا .

( انتهت )