هاربة من الحياة
إيمان شراب
ركبت الطائرة هاربة من عالمها .. هاربة من مسؤولياتها ..هاربة من زوجها ..هاربة من أمومتها ومن اسمها الذي أصبح : ماما !
على المقعد حاولت أن تستجدي الاسترخاء الذي حرمته طويلا طويلا .
منذ سنوات ، منذ أن تزوجت وأصابع المسؤوليات تشد عليها ، ولكنها تقاوم وتقاوم ...حتى تعبت من النضال والمقاومة ، فقررت أن تهرب ولن تعود مهما حصل !
أعدت حقيبة سفرها ، وطلبت من زوجها أن يحجز لها للسفر .
سألها : إلى أين ؟
قالت : إلى أي مكان في العالم , تعبت منكم ، ومن مسؤولياتكم وأريد أن أتحرر !
قال مهدئا : اهدئي يا بانياس ! وهوني عليك !
كم مرة قلت لك ، لا تحملي هما لي ، و أنا راض بما قمت .
قالت : هذا أنت ! والأبناء ؟ من سيتحمل أعباءهم ؟
لا لا ، لا تقنعني ولا تثر عواطفي .. هذا قراري النهائي ! سأرحل يعني سأرحل .
قال : هذا جنون عزيزتي ! أين تذهبين ؟
حسنا ، ما رأيك أن تسافري إلى والديك .
قالت : لا ، أريد أن أكون وحدي ، وحدي فقط !
أقوم متى أشاء ، وأنام متى أريد ، وأقرأ ما أرغب ، وآكل ما أشتهي , وأشاهد البرنامج الذي أحب ، أتكلم حسب مزاجي ، وأصمت حسب رغبتي !
أنا مسلوبة الإرادة ! لا أتحرك ولا أتكلم ولا أصحو ولا أنام ولا أخرج ولا أدخل إلا داخل إطار أنتم أضلاعه !!
أين أنا ؟ أين بانياس ؟ أين ما أريد ؟ أين مواهبي ؟ أين طموحي ؟ وأين أمنياتي ومشاريعي ؟!
بعد صمت ليس قصيرا ، وفي تأثر بالغ ، قال زوجها :
حسنا ، حسنا ، اهدئي و لك ما تريدين .
ودعت الأبناء والزوج ، احتضنتهم بحرارة لم تستطع أن تبرّدها ، وودعتهم ببكاء لم تقدر على منعه ...
كانت تنظر من النافذة إلى لا شيء ، ولكن العقل يضيق بالأشياء !!
خرجت من صمتها على رائحة وجبة الطعام على طاولتها ، قالت تحاول أن تقهر شعورها بالإحباط :
أخيرا ، سآكل دون قلق أو إزعاج ،أو( ماما ) في كل جزء من الثانية !
آه ، هذا رز ! يا حبيبي يا محمد ، أنت تحب الرز كثيرا !
وهذه سلطة ، حبيبتي سّراء ، أرى يديك الصغيرتين تنتقيان مكعبات الطماطم فأهمس لك أحيانا ، وأنهرك أحيانا ، طالبة إليك أن تأكلي بيمناك ومما يليك!
وأنت يا أحمد ، لو رأيت السمك لغضبت واعترضت ولما تحمل والدك لسانك !
وأكلت وجبة صامتة لا حياة فيها ولا طعم ...
سألتها المضيفة : شاي أم قهوة ؟
قالت :قهوة .
وشربتها كآلة دون مذاق ودون إحساس .
فهل تحلو القهوة إلا مع زوجي ؟ ( اعترفت بذلك في نفسها ) .
ثم .. جاء الليل : هل نام أبنائي ؟ هل غطاهم أبوهم ؟
وأنا ! كيف سأنام وحدي على هذا السرير البارد ؟!
إيه يا بانياس .. استرخي ...استرخي ...استرخي ..
استيقظت فزعة تتلفت حولها على طرق باب غرفتها ، سألت :
من بالباب ؟
قال العامل : الفطور يا سيدتي .
فتحت الباب بعد قليل ، ومعه صرخت .. صرخت دهشة ! صرخت سعادة ! صرخت حمدا !
هجموا عليها من كل جانب ، احتضنتهم وأطالت ..
قال زوجها : هل يشفع لنا أننا نحبك ؟؟
قالت : وهل الحياة حياة بدونكم يا قدري المتعب الجميل ؟؟