العمّة سكينة
العمّة سكينة
بقلم: نعماء محمد المجذوب
أعود إلى الزمن البعيد.. من سؤال إلى آخر كنت أغوص أكثر فأكثر في ذكرياتي، تعيدني إلى المرحلة الأخيرة من وجود الاستعمار في سورية، إلى الفترة التي تكونت فيها ذكرياتي الأولى، وتجاربي الذاتية في البلد الذي نشأت فيه، حين رأيت الأحداث المتلاحقة، ومن سنة إلى أخرى كنت أغرق أكثر فأكثر فيها، ثم لتشكل مجتمعة مقاطع من سيرة الوطن.
كل ذكرى بمنزلة استراحة ممتعة ومدهشة، وكل حدث أجدني فيه بإزاء تجربة جديدة.. مزيج من مشاعر شتى من حيث لم أقصد،
فكل حدث كان أسير زمان ومكان محددين، وظروف لم نصنعها، نتيجة ما كان يجري في بلدي خاصة، وفي الوطن عامة.
كان بيتنا يصخب بالحياة، لا نحرم يومياً من نزاعات يثيرها حب التملك بين الأطفال، وخلافات تنشأ عن محاولات الهيمنة، وقلة التناغم والانسجام أحياناً بين الكبار والصغار، وقد يصعب حصول الوفاق بين أمور دقيقة لتفاصيل الحياة اليومية.
كل شيء يتغير أثناء قيلولة أبي، نندفع إلى السكون كي لا نتعرض إلى العقوبات في أغلب الأحيان، ولا مجال لأي مبادرة اعتذار، أو بارقة تأسف.
كان لزاماً علينا أن نهيئ له الراحة من الضوضاء، حتى غدت تؤرقه شقشقة العصافير التي تهاجم غرفته من النوافذ.. قيلولته جعلتني ألوذ بركني المفضل عند المصطبة في نهاية الدرج الحجري، المؤدي إلى السطح.. من العلو الشاهق كنت أراقب الطبيعة من حولي، يمتد نظري إلى الآفاق البعيدة.. بحر واسع، جبال، أحراش متناثرة على السفوح، مئذنة باسقة فوق السور الأثري، ثم مع أذان العصر تعود الحركة، ويمزق الضجيج السكون.
في جلستي الهادئة كنت أفلسف تأملاتي في الطبيعة الوادعة، وأستعذبها، وتتسع أحلامي، وعيناي تستشرفان إلى حدود الآفاق، وتستشفان جمال البحر، ونقاء صفحته، أتصور نفسي وأنا أسبح، وأغطس، ثم أطفو.. كنت أصل في خيالي إلى قراره العميق، لأنتزع محارة حبلى، أتصور الموج يتقاذفني، ثم ليبلغني الشاطئ حيث الأمان.. أبتسم بانبهار، وتبقى روحي غير مشبعة، أحلام كانت تراودني وأنا لا أزال أخطو في عامي السادس، والأمور مستبهمة علي، مستغلقة الأبواب، تتكاثف في تساؤلات محيرة.
كانت مرحلة استكشاف لما يحيط بي، ونقطة تحول في حياتي، ودنياي تسير في ذلك الفضاء العجيب، وما فيه من شمس، وقمر، ونجوم، تفصلني عنها مسافات هائلة، لا أول لها ولا آخر، وتدور في ذهني ثرثرات..
كانت العزلة التي أمارسها فوق المصطبة فيها لذة روحية، أرسلها بتأملاتي، ولا تمثل أكثر من المتعة والدهشة.
كان الخريف كئيباً، وكل شيء يبدو عادياً، ونسمات منعشة بالبرودة بعد صيف رطب، حين كنت أجلس في ركني المفضل فوق المصطبة.. ثم مثل أمام ناظري في الأفق البعيد ركام من العساكر وهم يغادرون السفن المبعثرة عند الشاطئ، حدقت النظر، لم يكن في مقدوري أن أفسر الأشياء، مجرد رؤيتي لهؤلاء شتت ذهني، وخاب عقلي في تفسيره، وقصرت معرفتي، ولكن إحساسي لم يخف عني خطورته، أدركت أن الذين يتساقطون من السفن هم أناس غير عاديين.
لم أحتمل رؤية المشهد، اكتسب معنى جديداً، لم تسعفني سنوات عمري القليلة للقبض عليه، ولم أعرف أن ذلك هو بداية لأشياء كثيرة إلا بعد زمن طويل.
شعور بالارتباك انتابني، وانقباض ضغط على صدري فجأة، لم أعرف سر هذا الشعور، لبثت لحظات أحدق.. عساكر يبدون لعيني من بعيد كالدمى، ثم تتناهى أصواتهم عميقة، تطرق سمعي في جلبة.. انتظموا أرتالاً، داخلني ذعر، تسارعت أنفاسي، خفق قلبي بشدة، سرى في ذهني حكايات، شخصت أمامي، بهلع همست:
- أيمكن أن يكونوا هم الذين يتحدثون عنهم؟
هم بلا شك الذين يذكرهم أبي والرجال.
ألفيت خطاي تهبط درجات السلم بسرعة مذهلة.. رأيت أنه لابد من إيقاظ أبي وهو ناعم بقيلولته، كي أخبره بالأمر، وعنده قد تتفتح المعرفة لدي.. بحذر شديد، على أطراف أصابعي، اقتربت منه وأنا أرتعش، ألقيت نظرة على وجهه الهادئ، ترددت، لا أدري، هل جذبته أنفاس لهاثي، أو نبضات قلبي؟.. فجأة فتح عينيه، شدني بذراعي، هزّني بعنف، سألني:
- لم ترتعشين؟ ما بك؟ هل من شيء؟
ارتاع وهو ينظر إلى الخوف في وجهي، قلت:
- أجل يا أبي، عساكر بقبعات حمر، عند شاطئ البحر، رأيتهم من فوق السطح.
جرى بسرعة هائلة، صاعداً درجات السلم ثلاثاً ثلاثاً، توقف مرتاعاً، أحس بالدم يفور في جسده، شعرت بظل الخوف يحاصر بصري وأنا أتبع أبي في صمت، وإيقاع أحذية الجنود يعلو في الفضاء باقترابهم، ذكرتني بلحظات غائبة قبل ولادتي، لحظات تعود إلى ماض أحسبه سحيقاً كالموت، يتحدث بها الكبار.
تشبثت بيد أبي، بلهفة سألت:
- قل لي، ما يحدث الآن؟
دفعني برفق، هبط السلالم، استرجع أنفاسه، نادته أمي:
- ما الذي حصل يا أبا غسان؟
لم يجبها، بدا مستعجلاً، أسرع إلى الحارات يطرق الأبواب باباً باباً، تجمّع الرجال.. ثم في الغرفة المعتمة عند منتصف الدرج كانت ترفع أشياء بأيد ترتعد.
بحيرة تساءلت:
- ماذا ينسلون من الخوابي الضخمة والبراميل؟
كان قلبي يخرج من بين ضلوعي مع خروج الأشياء.. بقيت واقفة أنظر بعينين مفتحتين، ودميتي بيدي، ازددت رعدة، فطنت في لحظة إلى أنها وقعت من يدي، وسقطت على إحدى الدرجات، ارتفعت حرارة أصوات الرجال، بلعت ريقي بصعوبة، ونبضات قلبي تستقر رويداً رويداً، وأبي يهتف إليهم مشجعاً.
سأله أحدهم:
- هل سيدخلون حاراتنا؟
أجاب مطمئناً:
- أحدكم سيستدرجهم إلى كمين، كما حصل في العديد من المرات.
- والنساء والأطفال؟
- سيكونون في مأمن، في القبو الواسع تحت البيت.. الزاد مهيأ من قبل.
حمل أبي البندقية، علقها فوق عاتقه، وبابتسامة قال لهم:
- لا تيأسوا، قد يمر اليوم بخير، سننتصر بمشيئة الله.
هبطوا درجات السلالم بسرعة.. استل بعضهم سجائر من جيوبهم، وسرعان ما أشعلوها، وراحوا يدخنونها بشراهة.. تفقدوا البنادق جيداً، اطمأنت قلوبهم، وانطلقوا في لحظات ليتخذوا مواقعهم، سألت عمتي سكينة:
- إلى أين هم ذاهبون؟
لم تجبني، كانت في شغل عني، فالبيت صار الآن صاخباً، والوجوه لا لون لها، والأيدي تجمع الأشياء، ويندفع الجميع إلى القبو.. عرفت أن شيئاً خطيراً سيحصل، وأن الحياة تصنع مصائرنا.
الكل صامت، الحركة فقط هي التي تتكلم، والعيون هي التي تراقب، كل شيء أمامي غامض، أحاول تفسيره.. كان الكلام موجزاً.. شعرت بخطورة الموقف، بتعجب قلت:
- ما أسرع ما تجمع هذا العدد الهائل من رجال البلد!
سألت عمتي:
- متى يعودون مع أبي؟
- سنبقى بانتظار عودتهم... سترتاح النفوس، ويطرد القلق.
تركوا الغرفة المعتمة مفتوحاً بابها، وقلما أن يفتح، كانت أجواؤها المظلمة تحيرني، فيها حيوية نابضة بالأشياء، الدخول إليها صعب، أو متعذر، تثير في ذهني أشباحاً لا تحصى، لثعابين، وعفاريت، وأشياء مخيفة، يمدني بها الخيال، قد أقترب منها حين ينسى بابها مفتوحاً، يخيل إلي أنني أسمع فحيحاً، وصفيراً، تجعلني لا أجرؤ على الهبوط فوق درجاتها القليلة.. وتبقى الغرفة المعتمة لغزاً محيراً، ولكنها تتحول أحياناً إلى مكان لقاء بين أبي وبعض الرجال يحملون إليها أشياء مغلفة يفرغونها فيها... ثم لا يلبث هذا المكان أن يتحول في خيالي إلى أجنحة تحلق بي، فيها تداعيات، وأصوات مزمجرة لا تنتهي.... فقط يسمح لعمتي سكينة بفتحها، وإغلاقها حين يهمس أبي في أذنها:
- هاتي الأوراق من الغرفة العلوية.
أو يجري معها أسئلة مستفهماً عن أشياء، وإن اقتربت منهما دفعني بكفه.
أظل أسأل بدهشة وريبة، ووجه أمي يجرجره ألم جديد، وهي تلملمنا، وتدفع بنا إلى القبو القابع تحت بيتنا خلف السور.. أتفحص الوجوه، أسبح في تعابيرها، أسأل، ولكن الجميع مشغول عني بهمومه، يصفعني صقيع الأسئلة، وتتقاذفني أمواجها عند ضفاف ذهني، أجدها غامضة، قد تتعثر الإجابات، ولكن لا أستطيع أن أوقف الأسئلة.
الألم ينمو معي ويتسع.. كنت أبكي بين يدي عمتي المسكينة، دون أن أعرف ما يبكيني.
كثير من رجال الأحياء أسرعوا نحو القبو لاهثين، ينسلون البنادق من بين القش، يتهامسون فيما بينهم.
- لا تنسوا المكان والموعد.. سنلتقي هنالك.
منهم من وقف أمام النوافذ الضيقة في جدران السور، إصابة الأهداف منها سهلة لأي قنّاص.. الخندق العميق الدائري حول السور يشكل حاجزاً منيعاً.. هدير أصوات الرصاص قوي، جريت مذعورة، أذناي تؤلماني، ورأسي يصدع منه.. قرضت أظافري حتى آلمتني أطراف أصابعي.
في لحظة سكون ألقيت بنظري إلى الخارج، لمحت صفين من الرجال يتراشقان بالرصاص، ظهور جنود العدو خلف السور، كانت لمحة خاطفة، سرعان ما انفلتُ مذعورة إلى ركن بعيد، أنضم فيه إلى النساء والأطفال، يبتهلون إلى الله، يتلهفون على عودة الرجال سالمين.
كثر القتلى من جنود العدو، سقطوا وهم لا يدرون كيف صرعوا، ولا يدرون أن طاقات السور الضيقة كانت مجالاً سهلاً لاقتناصهم.
بعجب تساءلت:
- هل أتوا إلينا ليلقوا مصيرهم في أرضنا؟
هل كان توق الثائرين شديداً للتخلص منهم؟
ليت رجالنا يعودون سالمين.. ما أظن، شاهدت بأم عيني الدماء تسيل من أجساد بعضهم، مستلقية فوق الأرض.
اقتربت ثانية من أحدهم، وهو يصوب نحو الهدف من الطاقة، دفعني بكفه، وبضيق هددني قائلاً:
- ابتعدي، لا أراك بجانبي.
جريت بعيداً، لا أكاد أعي ما حولي.. مضت اللحظات ثقيلة، ورأسي يموج بالتساؤلات، ولا أدري لها جواباً.
رجع الرجال فيهم المصابون تنزف دماؤهم، خفق قلبي بشدة، وعيناي تبحثان عن أبي، هممت أن أصرخ، تراجعت، قد يدفعني أحدهم إلى القبو.. كانت النساء خائفات، ولكنهن يتظاهرن بالشجاعة.. سألت إحداهن عن زوجها، أجابها أحدهم:
- لن يعود بعد اليوم.
بثبات قالت:
- أعلم، وجد سكناً آخر في عالم أكثر أمناً.
جففت دموعها وهي تبتعد، لملمت أطفالها، رجعت نبضات قلبها إلى وتيرتها الطبيعية، فتحت باب بيتها، حاولت أن تبدو هادئة وهي تردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، استنشقت الهواء النقي قد يطرد أحزانها وآلامها، ولكنها وجدت نفسها تمتصها بشره.
كانت نسمات الغسق تلاطف وجهها مواسية، كأنها تقول بهمس:
لست وحدك في مصابك، أنت كزوجات وأمهات كثيرات، لم يعد أزواجهن، وأبناؤهن، وهن يستنجدن بما يملكن من شجاعة، وصبر. تساءلن:
- أين المفر من البلاء؟
- هذا هو الواقع.
- الشهيد لا يتألم، اختار جنان الخلد عند ربه.
سألت عمتي سكينة:
- القتال في البلد حقيقة، هل هي البداية؟
أجابتني بتأوّه:
- بدايته كانت منذ أربعة وعشرين عاماً، رحلته ليست في بلدنا فحسب، بل في الوطن عامة، في كل قراه، ومدنه، منذ وجد الاستعمار، ونحن في خضم مليء بالأحداث والمعارك.
قلت:
- الدنيا قائمة قاعدة..
- ما شاهدته هو شيء قليل منه.
لهو الطفولة امتزج عندي مع مشاهد العسكر الفرنسي، والمدفع الراسخ أمام سور البلد، والمشنقة المرتفعة، ومع مشاهد التظاهرات، وسماع الخطب يتردد صداها في كل مكان، ورؤية أبي يرفع فوق الأكتاف خطيباً، ومشجعاً على الثورة والتحرير، بل كان الثائر الموجه للثوار، لديه قدرة سحرية على إبراز نبض الحماسة وإشاعة حب الجهاد في كل من يلقى من الرجال.. وكانت الأناشيد الوطنية تمجيداً للوطن في حياة الأجيال.
كان كل مواجهة بين الثوار والعدو تستدعي منا الهبوط إلى القبو، كنا نجد أصواتاً لا تنقطع في حالة صراخ الأطفال، وجريهم، وبكائهم.. تتكرر الحالات والمواقف، ويكون الجميع في حالة هلع، فأتخيل أنني في عالم غير عالمنا المعتاد، عالم صاخب ينسجم مع ما يحصل، فتشيع في نفسي حالة من الذعر، والتشظي.
لم يعد الأطفال أشقياء، يلعبون بالأشياء بغية لحظات كشف ودهشة، ولم يعد لهم القدرة على الأحلام العذبة، اختلطوا في عالم الكبار، المفاجآت ملأت عيونهم في القبو تحت الأضواء الشاحبة، وعيونهم تتراوح بين اليقظة والنوم، ويغوصون في كثافة التنبيهات والأوامر.
كنت أتسلل من بين الجمع، وأرمق العالم من حولي بعينين ترصدان صوراً غائمة، وبذهن طفولي يفكر بقلب ومشاعر.. شباب ينسلون البنادق المدفونة في القش، بهمس يتحدثون، يلقون نظراتهم من الطاقات الضيقة في السور.. المجاهدون القدامى ينظرون إليهم نظرة الأب الحاني الذي فقد عافيته في جسمه، ولم يفقد حماسته القديمة، فلم يتركوا الثوار الجدد دون رعاية وتوجيه، بعد أن كانوا ينفجرون ثورة وعنفاً في الدفاع عن بلدهم، ظلت مقدرتهم على الإفادة والإرشاد، وإن كانوا يتراجعون في القتال، طموحهم في تحرير الوطن لم يتراجع، يعتقدون أن النصر هو نتاج الجهاد الذي لا يتطلب معرفة عميقة بالحياة، ولا تجارب عدة فيها.
كانوا يركزون باستمرار على فكرة استرجاع ماضي الأمة العظيم، والنهوض في وجه الريح، وعدم التراجع أمام مغريات المدنية، حتى عقدت الأخوة بين المواطنين، واتسعت التجارب فيما بينهم، وازدادوا ترابطاً وتسامحاً كلما طال عهد الاستعمار.
قد ينزعج حمار أم إبراهيم في القبو، فيأخذ بالنهيق، كأنه يصرخ بالرجال، أن هلمّوا، أدّوا مهماتكم دونما تباطؤ.. يريدون أن يسكتوه، فيضربوه، يتمرد، يقرر النهيق أكثر فأكثر، وبشكل أكثر صخباً:
أنا الذي حمل الأسلحة من المرفأ..
أنا الذي سهرت الليالي أحرسها في هذا المكان الرطب.
ضربه أحدهم:
- اصمت، لا تلفت الأنظار إلى مكان وجودنا، كي لا يسمعك العدو، ألا ترى لا يفصل بيننا سوى السور والخندق؟
تكرر نهيقه، همست ساخرة:
حمار حساس، ومرهف، ومتمرد، زاحمه الثوار مكانه.
اقتربت منه، لامست جسمه أواسيه، قدمت له شيئاً من التبن، والماء، أكل.. هدأ، قلت له:
لا تبك، كلنا نبكي، كلنا في حالة حزن.
ضحكت وأنا أتذكر أبي أثناء قيلولته، البيت في حالة سكون ووقار، إلا هذا الحمار المشاكس، يعلو نهيقه.. يصرخ أبي من الأعلى طالباً أن يسكتوا حمار أم إبراهيم، ويكموا فمه.
نظرت إلى الحمار، قلت:
أهكذا حالك دائماً؟ شقي، صاخب.
حرّك شفتيه:
فهمت، إنك مسئول، لك دور في الثورة، لطالما نقلت الأسلحة ليلاً، وحرمت لذة النوم.
من خلال فلسفتي للأشياء علمت أن الرجال، والسلاح هما القادران على السعي الدائب، حتى يصلا بالوطن إلى الاستقلال، والتخلص من الدخلاء المستعمرين.
ظل الثوار لزمن طويل يدخلون في مواجهات حادة مع العدو، ويصارعون الفقر والجهل والأمراض، عزاؤهم أنه لا مستقبل لهم إلا في وطنهم، ويأملون بتغيير الأحوال بعد رحيل المستعمر، ويلوذون بالأحلام والأماني والأفكار السامية.. كانوا يلتقون بجنود العدو كما رسموا بالضبط، ويعلمون أن الحرية والسلام يستلزمان الشجاعة والحرب، للوصول إلى ما يريدون.. كنت ألتقط مثل هذه الكلمات من أبي، فأدهش، ولم أهمس بشيْء.. وماذا تهمس طفلة لم تختبر الحياة، وبحيرة أتساءل:
ما بال هؤلاء الغرباء يقبلون إلينا جماعات تلو جماعات؟
هل تتمخض المشاهد عن حروب متلاحقة، وفظائع قاسية لا ترحم؟
وما بال أبناء الحارات كلما ازدادت قدراتهم الجسمية تفجرت في معارك بجانب الآباء؟
وما هذه الدنيا؟..
ليس لي إلا عمتي سكينة أستمع إليها وهي تجيبني على تساؤلاتي، وتروي لي أقاصيص من ينبوع صدرها الصافي، كأحضان الطبيعة الساحرة، كالنبات الذي ينمو، تعرف كيف تغذيني بالمعرفة، وتجعلها تنمو في ذهني، لتثمر بطيب.
كان لعيني عمتي وميض خاص، وذكاء خاص أيضاً، نحيلة القامة، حلوة الحديث، تحضر مجالس أبي وعمي الشيخ عبد الله، وما يحيرني القلق في عينيها، سمعتها في حوار مع أمي تقول:
- الحرية حقيقة، لا تصل إلا بالجهد والمشقة والتضحية، ولا ينالها إلا من عمل من أجلها، ولا تتأتى من نفس مظلمة كدرة، بل من نفس صافية.
كانت في حديثها تتطلع إلى السماء، وكأنما ينبثق منها عطر ونور.
بألم قالت أمي:
- الذاكرة لا يرسخ فيها إلا كل ما هو مؤلم ومرير.
بتحد قالت عمتي:
- شعبنا صلب، عنيد، نشط، متشبث بحقه في أرضه، وبالحياة.
- الظروف قاسية جداً.
- ويبقى الشعب متماسكاً رغم أنف الظروف، وشامخاً، لا يطأطئ رأسه للاستعمار، صهرته الأحداث، وجعلته كائناً لا ينهار بسهولة، يتشبث بحقه في الحياة بقوة.
ابتسمت أمي والأمل يلوح في عينيها، وقالت:
- لابد أن يتغلب على المعاناة، ليخرج منها قوياً.
كانت عمتي قلقة على الوطن، ومغامرة في آن.. كنت أرى الألم في الوجوه، فأتساءل:
من أين يأتي الألم؟
موجه يتواصل في لجج حياتنا، كيف نكسره؟ كيف نبدده؟
كنا نغني للألم، نتوجه في تهويمة الفجر، ليهون علينا، ونحن نلبس الحزن في ذاك الزمن البعيد.. كانت الأسئلة مبللة بالحيرة، لم أتمكن رغم استفساراتي من العثور على أجوبة مقنعة.. كنت أجد أبي موزعاً بين الرغبة في العزلة والكتابة، والنداءات التي تلزمه أن يكون صوتاً وضميراً لمجتمعه.
قد يصيبني الصمت أحياناً، الأفكار التي تلازمني أكبر من سني، توالي الفواجع على البلد والوطن جعلتني أعيش الأسى، وأهجر ألعابي، كثير من الآباء قتلوا بأيدي العدو، أتساءل:
من يأخذ بثاراتهم؟
من يأخذ بثأر الطفولة؟
كانت الأعاصير التي تنتظرنا مخيفة، يحاول الثوار التغلب عليها بالجهاد، والوصول إلى الحرية بحكمة.. مكوث المستعمر في أرضنا كان يسبب القلق الدائم، ويخشى الشعب أن يستحضر العدو عالماً جديداً، لا يزال عصياً على الحضور، يغوي المجاهدين بالمضي لإبعاده.
الوطن لا يضيق بأبنائه، رغبته قوية إلى معانقة أحراشه، وشواطئه، وجباله، والاتحاد بعناصره، ينفر من الدخلاء الذين يزاحمونه، ولا يرون منهم سوى الهدير والنار، والاستعلاء، يتدافعون إلى الوطن كالأمواج، كل ما في بحرنا يصبح موجة كبرى تحملهم، وتلقيهم إلى شواطئنا، ويتبعثرون في طرقاتنا الأليفة، خطواتهم عجلى، وفي أيديهم السلاح ليقتلونا به.. ويتعانق الرماد.. والورد.
المواطن إنسان عادي، بسيط، ولكنه في المواجهة ماكر، مراوغ كالقنفذ، مرهف الحواس، مفتح العينين على حركات العدو، وعلى الأمكنة، وتضاريسها، غير مغفل، إنه أقوى من الموت، ويسعى إلى دفء الحياة، ويعلم أن لا حرية من غير دم.. ونظرات المجاهدين لا ترحم، سيرغمونه بقسوة على الرحيل.
قد تمر أيام فيها الهدوء، واللحظات النادرة لتأمل ما مضى، وما هو حاضر، وما هو منتظر، والأواصر تجمع بين الأزمنة الثلاثة، مع شيء من الحرية، فيها يلعب الأطفال، ويلهون في الحارات.. فوق سطحنا المرتفع، المطل على الخندق الدائري العميق، كنت أحس وكأنني فوق قمة جبل شامخ، أسترخي ممعنة النظر في الآفاق، حيث ينتابني شعور غامر بالصفاء والأمل.
كان أبي يبتسم بسخرية حين يسأله أحدهم:
- هل المستعمر يحدث نفسه بدوام الاستقرار؟
يجيبه:
- إنهم يحلمون.. طبعاً يحدثون أنفسهم بذلك.
وآخر يسأله:
- متى يرتحل؟
- سيأتي اليوم الذي يرحل فيه، ويزفر أحلامه الهشة على ضفاف الوطن.
- نراهم يتطلعون إلى الآثار في بلدنا، ويبحثون عن تاريخ نشأتها، والتركيز على معالمها البارزة، وربطها بعجلة العهد الروماني، ويصممون على أن تكون ملكهم وحدهم.
بفخر أجابهم أبي:
- إنهم يتغاضون من أن آباءنا الأولين امتلكوها بجهادهم، ودمائهم.
- نراهم يحاولون الدخول إليها عبر البوابة الأثرية.
- لكنهم يصطدمون بالزوابع البشرية من أحيائنا، فيهربون من أمامها.
بعجب قال آخر:
- نراهم يدخلون المعبد الأثري خارج البلد، بقصد أو بغير قصد، إنهم خطر يهددون معالمه، إذ جعلوه مأوى للكثير من جنودهم، وخيولهم، تسبب عنه انهيار الكثير من أجزائه.
بلا مبالاة قال أبي:
- ليفعلوا فيه ما يشاءون، العاصفة الثورية التي تفجرت، ورفضت قبولهم في أرضنا، شقت لنفسها طريقاً جاداً في الجهاد، والشباب يعتزون به، ويتخذونه أساساً للهجوم على المستعمر.
كنت أسمع أبي يسأل عمتي بابتسام:
- ماذا فعلت أيضاً يا سكينة؟.. أخبريني.
كانت عمتي النموذج الأمثل بين النساء، ولكن لم تكن حالة نادرة، نساء كثيرات كن يعاونّ الثوار، منهن من يسبقن الزمن ليفوز أبناؤهن بوسام الاستشهاد، يوصينهم بألاّ يكونوا أسرى، بل شهداء، على أمل اللقاء بهم في جنان الخلد.. من أجل الوطن يحرك الإيمان وجدانهن، وفكرهن.
كان أبي يوصي المجاهدين ساعة يتجهون إلى القتال بما يقوي الحماسة في نفوسهم، ويذكرهم بالفرح الأكبر في قول الله تعالى: (فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون).. فالإسلام رسم أبعاد شخصيات المجاهدين في هذه المرحلة الثورية من حياتهم.
كنت أسمع، أرى، وأصمت، ولم يكن صمتي عن الحزن الشديد، بل عن الانبهار بالقدوة والتأسي.. مع الوقت كبرت مشاعري، واتسعت بسبب الأحداث المتلاحقة التي أحاطت بنا جميعاً، حملتني هموم البلد والوطن، حتى كنا نخشى ألا يحتوينا لكثرة ما نسمع من هجرة الكثيرين.
كان في كثرة الأحداث وجع الإنسان في الوطن.. نظرت إلى الدنيا، اكتشفت أنها ليست كما تبدو لي في لعبة أو دمية أتنازع عليها، إنها أكثر خطورة، إنها الحرمان من الحرية والسلام.
أوجاع الوطن كانت بداية الألم والشحوب لنفسي، وأنا أسمع عن هؤلاء الذين يغادرون الحياة، تاركين أطفالاً ونساء.. كنت أمعن التفكير كثيراً فيما أسمع وأرى، ثم أغرق في بئر من الأفكار والتصورات.. بددت الأحداث روحي، وعلمت أنني لم أعد الطفلة التي كانت.
اضطرنا تسارع أحداث الثورة إلى المكوث داخل الحارات القديمة، لأشهر متواصلة، يحمينا السور المرتفع، ومن حوله الخندق العميق.. راقبت أموراً كثيرة، وجدت نفسي كأنني صرت ناضجة إلى درجة بت فيها قادرة على أن أحكي لصاحباتي معنى ما جرى، وهو ما أترجمه عن أبي، وعمي الشيخ عبد الله، وغيرهم من الرجال، حين كانوا يحولون الغرفة الواسعة في منزلنا إلى قاعة نقاش في قضايا البلد خاصة، وقضايا الوطن عامة.
عندما أكون في حيرتي التي يزداد غمامها أحياناً، محاولة البحث عن الإجابة، وخاطر يائس يطوف برأسي، ألجأ إلى عمتي قائلة بلهفة:
- حدثيني عن الوطن.
أنظر إليها بانبهار، ويجيء صوتها بعيداً كالهمس، وأكثر من تساؤلاتي الملحة:
- زيديني من حديثك، زلزلي بقولك ذهني، افرغي ما تكتمينه عني، أزيلي الحيرة من نفسي، أنقذيني مما أنا فيه، قولي بالله عليك كل شيء عن الوطن.
كنت أغرق في موج عينيها وهي تحدثني، وتحطم الألم في أعماق نفسي وتسكت أنيني، وتغسل بحنينها صدري، وعيناي لا تفارقان شفتيها، وعينيها.
تصمت أحياناً، ثم تنصحني قائلة:
- لا تفكري كثيراً، لا تزالين صغيرة.
في إحدى المرات، شاهدتها تخرج من الغرفة المعتمة، وتتأكد من إغلاق بابها.. سألتني:
- منذ متى وأنت هنا؟
- منذ دخلت هذه الغرفة.
بهتت، أمسكت بذراعي وهي تقول:
- هيا انزلي إلى البيت.
تشجعت، وسألتها:
- ما هذه الأوراق التي تحملينها في صدرك، ثم تهبطين بها من سطحنا إلى أسطح الجيران، ثم ترجعين من دونها؟ أخبريني..
وضعت كفها على فمي أشبه بالذعر، وبصوت خافت قالت:
- إنك متوهمة دائماً.
انفلتُ من يدها وقلت:
- ليس كذلك، بل شاهدتك وأنت تخرجينها من هذه الغرفة المعتمة، من الخابية، وإلا لما كنت سألتك عنها.
ابتسمت، ضمتني إلى صدرها، قالت:
- انسي هذا، إياك أن تذكري ما شاهدت لأي إنسان.
بعد شرود وتأمل، أدركت فعلاً خطورة ما تفعله عمتي، تفعل بأمر من والدي الثائر على المستعمر، خاصة عندما يعود من دمشق. قبعت متوجسة داخل ملابسي.. أحسست بفرح خفي.. لماذا؟.. لست أدري.. ثم حاولت أن أستدرجها لتفصح أكثر.. عادت تقول:
- حبيبتي اصمتي، عندما تكبرين سوف ترين بنفسك الآثار البهيجة بعد رحيل المستعمر، إن الأحداث يا صغيرتي تتحرك بدقة منذ أزمنة بعيدة، من قبل أن تولدي.
- لماذا يا عمتي؟
- شعبنا في الوطن وجد نفسه تنتهك حقوقه في أرضه.
نظرت إليها بانعتاق.. كانت مهيأة بالفطرة كي تكون شجاعة، مخلصة، ذات نزعة خيّرة.
تكررت الصدامات، اتسمت بالعنف، الحارات خلف السور كانت نقاط انطلاق الثوار.. الأحداث تتلاحق في بلدنا، وفي كل قرية، ومدينة، في الوطن.
لست أدري، لم كنت أطيل النظر في صورة الأمير فيصل المعلقة على الجدار.. كان تأملي فيها يثير تساؤلات غامضة في ذهني.. لم علقها أبي أمام أنظارنا؟.. قد يكون لها قصة أخرى.. ربما.
كان الاستعمار فاجعة مزلزلة، أثارت الدهشة، واتصفت بالغرابة، ولا يمكن للشعب أن يصمت، صار تشكيل صورة الموت شيئاً عادياً، واقعاً نعيشه، الموت بكل أشكاله وجوانبه، فردياً أو جماعياً.. في سبيل الوطن الموت كان يهون، الموت كان يجدي، يفجر الأعماق في صراعات متنوعة.
عندما كانوا يقولون وقعت الحرب، تنتابني مشاعر متناقضة، بالرغم من أنني كنت مطلعة على الأجواء التي سبقت، وكنت متابعة الأخبار من خلال اجتماعات الرجال مع أبي في منزلنا، إذ تمر أيام ثقيلة، ثم ينفجر كل شيء، ولم يعد أي شيء كما كان عليه.
خلف الحارات القديمة كانت المدينة الحديثة، بيوتها متناثرة، متباعدة، يغادر الثوار الحارات إلى الطرف الآخر، لتحصل المواجهة، ويطول مكوث النساء مع الأطفال في القبو، ونشغف بالتطلع من طاقات السور الضيقة، نراقب، نرتقب، وأقرأ بذهني كل ما تراه عيناي.
قد أهجر المصطبة فوق درجات السلالم أثناء تتابع الأحداث، وإن هدأت أجلس مع نفسي، أغمض عيني، وأرحل بنزهة قصيرة مع ذكرى مشهد العسكر وهم يهبطون من السفن، نزهة في متاهات النفس الرحيبة، لا أريد أن يقطعها علي أحد، أشعر بلذتها كألذ نغم في نفسي، فيها لذعة في قلبي، تمشي برعشة موحية، وأتساءل:
هل كانت تتيسر لي لو لم أقبع في هذا المكان؟
أراني متيمة بأجواء بلدي، فيه اكتشفت ذاتي منذ طفولتي، واكتشفت ذات بلدي، كان للأمكنة روحها، تركت تضاريسها بصمات في أعماقي، وهي تعاني الدمار والحزن بقدوم المستعمر منذ زمن طويل.
نظرت إلى البحر، كان شاطئه وديعاً جميلاً، صار يرتبط في ذهني دائماً بجنود العدو، ما زلت أحاذره بنظراتي مع أنني مفتونة به، أخشى أن يتناسل منه ثانية موج الجنود، بقي هذا الحس متجسداً، وضارباً في أعماقي إلى مالا نهاية.. ففي عبق البحر تختلط الرؤى.. شخوص، أحداث، أحلام، أوهام، سحابات متلاحقة من الذكريات في عالم من الخيال، وسؤال يتردد صداه باستمرار:
هل الحياة إلا وهم وحلم، وشطحة من خيال؟
أراها صلبة أحياناً كالصخر، معقدة الظواهر.
حبيبي وطني، حبي له يلبسني، ترعرعت فيه، أناشيده يتردد صداها في أعماقي.
انتابني ضيق حينما تصورت أني سأفقده في يوم من الأيام، لثمته بنظراتي.. ألهمت بأنني سأفقده، سأبتعد عنه، وستطغى لواعج الحنين عليّ، فبكيت، وبكيت..
في صبيحة يوم قائظ من أيام تموز، كانت الثورة ضد المستعمر كبيرة الأحلام، كان لها أهمية في التحول وتوسيع المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار، التجارب كانت مريرة مع الثورة ضد العدو، وكان إيمان الشعب ملحاً بضرورتها ليبقى الوطن بريئاً منه، لينال الشعب حريته.. يعلمون أن الحرية لا تنفصل عن الموت، كما الظلال عن الشجر، ويبقى الثوار المجاهدون يدفعون جنود المستعمر، ويلاحقونهم في كل مكان في الوطن، غير حافلين بما يصيبهم من جهد المسير، وهم يرزحون تحت عبء الاستعباد.. فهل يستريحون بعد طول المسير؟
كانت عبارات التشجيع تحثهم قائلة:
- استمروا بدفعهم عنكم، لا ترحموا منهم أحداً، امضوا في طريقكم، سيروا على أقدامكم، لا تلتفتوا إلى الوراء، لا تخشوا أسلحتهم، وعدتهم، إيمانكم بالله ورحمته بكم ستنجيكم منهم..
يواصل المجاهدون ثوراتهم في كل شبر من أرض الوطن، ليبقى المستعمر تائهاً في حقده، وبكائه على زمن مات، ودفن في بطن التاريخ.
ارتاح آذار هذا العام قليلاً، لعله يعطي الفرصة للشباب الغض أن يتفتح، ولعل الشعب في الوطن ينعم قليلاً ببعض ألوان الربيع، وبهجته، وعطره، فقد مجّت النفوس وهج النيران، ورائحة البارود، كانت حرب المستعمر لنا مضلة وظالمة.
ثم كان ربيعاً بهيجاً ذا نكهة تعبق في النفوس، حين عادت جموع الثوار بأهازيج النصر، يحملون معهم نبأ استشهاد عدد منهم في معارك متفرقة، كان موقف النساء يطرح أكثر من علامة استفهام، تتداعى تبعاً لطبيعة الأحداث والانتماء، كان يثيرني صمودهن، وإيمانهن، وكتمهن لمشاعر الأمومة، أو مشاعر الود لأزواجهن، لم يصرخن، أو يشققن جيوبهن، بدت منهن مواقف تثير الدهشة. تساءلت:
من منحهن الصبر وأغراهن بالعزاء؟
أهو مجد الاستشهاد، وحلاوة الإيمان؟
مالي أرى الدموع جفت من مآقيهن؟
أم أن الفاجعة استهلكت عواطفهن؟
كان الموقف عجيباً، لم أستطع أن أفسره.
سمعت عمتي تقول في موسم العزاء:
- رحم الله الخنساء، لم تمت، إنها تعيش في حياة كل أم مؤمنة، صابرة، صمتت على استشهاد أبنائها.. وصمتت نساؤنا أيضاً على استشهاد أبنائهن، ورجالهن.. هن أدرى بمشاعرهن، يعرفن متى يعبرن عن أساهن، ومتى يكون الصمت أبلغ من التعبير.
تابعت عمتي كلامها:
- الإسلام ما زال يعيش في القلوب والعقول، كما كان غضاً، نقياً، ندياً.
همستُ في أذنها:
- أراك تبتسمين أمامهن.
مسحت على رأسي وقالت:
- لأن الجنة تفتح أبوابها، تستقبل الشهداء، ولذلك لا تبكي الأمهات، ويرضين بقضاء الله وقدره، وجزيل ثوابه.
قالت إحداهن:
- المحنة تتضاءل في النفس المؤمنة مهما عظمت.
سألتُ عمتي:
- ما هو الصبر؟
قالت:
- الصبر يدل على التجلد، وعدم الجزع، وعلى الإيمان القوي.
قلت:
- أمن أجل ذلك لا تبكي الأم ابنها الشهيد؟
- لأنها توقن أنه حيّ عند ربه يرزق.
توقفت الحرب، كانت في حقيقة الأمر تجرجر ذيولها، ثم انطفأت نهائياً، حين التحقت جنود العدو بالسفن المتجمعة في المرفأ عند الشاطئ، ولا أدري إن كنا سنتوقف أيضاً عن إلقاء الأناشيد الوطنية بطريقة جماعية في القصر المهجور، في بداية النصر، وهزيمة المستعمر.. سنبقى في حنين دائم إليها.
كان في فناء الدار بركة تثرثر، تتأود على جنباتها أصص الورود، والفل، والياسمين، ويجلو أهل الدار بجانبها مواجع الحياة القاسية، زرعتها جدتي بيدين خشنتين.. في ركن الدار كانت نخلة باسقة، قلت لعمتني:
- هذه النخلة أصبحت كغصن يابس، لم لا تقطع؟
بسرعة أجابتني:
- لا، بعد أن أموت.
- لماذا؟
- إنها تمثل لنا الماضي، لا يزال أمامنا بكل ذكرياته، هذه النخلة هي الشيء الذي بقي منه.
بعد أيام، ثارت عاصفة هوجاء، ضربت النخلة، تناثر سعفها اليابس، هوت فوق الأرض.. نظرات عمتي وشت بما يدور في خاطرها، تطلعت إليها بحزن، كانت نظراتها ذبيحة، تساءلتُ بدهشة:
أهكذا الحياة؟
هل انتهت إحدى دوراتها؟
تأوّهت عمتي، ثم قالت:
- كان لنا زمن، ومسافات، كان لنا كل شيء.
سألتها:
- والآن؟
- لم نعد كما كنا.
صمتت، لم تزل تنظر إلى النخلة الهاوية، إنها تدرك الآن أن هناك حاجزاً بين الموت والحياة، لا تتجاوزه وحدها.. تمتمت بكلمات.. هل تعنيها وحدها؟
لم أرد أن أثقل عليها بأسئلتي كعادتي.. ارتعبتُ من فكرة الموت، وأنا ألامس شعرها الأبيض، وأرى ذبول عينيها.
لم ترزق عمتي بالذرية، ضممتها إلى صدري، وباستعطاف قلت:
- أحبك يا عمتي.. أرجوك..
ابتسمت، أجابتني:
- بألا أموت.. أليس هذا ما تريدين قوله؟
- أجل.. أحبك كثيراً.
همست:
- البنوة ليست فقط أن يحمل الابن اسم أبيه، أو أمه، أو شكل أحدهما، ونبرات صوته، البنوة شيء آخر رائع.
بانعتاق ضمتني، وهي تقول:
- أنت كل شيء في حياتي.
لم تشعر بي عمتي، وأنا أغرق في حضنها بدموعي، وأخلطه بكلمات متقطعة:
- أحبك.. لا أقدر أن أعيش من دونك.
صمت كل شيء، نظرت إليّ بسكون، كبحتْ قلقها، قرأتُ أمومتها بخواطرها، طربتْ، وطربتُ، تراجعت من ذهنها فكرة الموت، قالت:
- الحب حياة، والكره موت.
فكرت بالاعتذار في ابتسامة حنان، لم تشرح لي أمراً تعذر عليها أن توصله إليّ، برقتْ عيناها وهي تقول:
- حقيقة الحرية تجلت مع الفجر بعد الظلمة، في ولادة جديدة للوطن، هي بشارة العهد الآتي، التي تولدت في النفوس بنبضات مثل قلب الشمس.
- عمتي.. هل رحل المستعمر عن واقعنا، ومبادئنا، وأفكارنا إلى الأبد؟
هزت رأسها، فكرتْ، ثم قالت:
- نخشى أن يظهر في صورة جديدة، ليعيد قصة اللعنة الاستعمارية الكبرى.