باخرة الحلم
باخرة الحلم
بقلم :سعيد جاويش
ذؤابة من النور تفصل بينه وبين السماء الملبدة .. افترش صخرة مليئة بالنتوءات..
عاجلته دوامات الجنون .. زجره البحر بعنف .. أسلم روحه لماضيها المكتظ .. أواه إنك لاتسبح في النهر مرتين .. النهر يتغير وأنت كذلك.. زجاجته البنفسجية المغلقة بسدادة مهترئة ذكرته بقلبه برياح الأمس الهادرة.. تبدد الواقع والمحجرين أمسيا مدى ً وأعماق.. أرهقته مياه النفس الراكدة لايقوى على صد الرياح العابثة بذؤابته..
.. قصة الركوع حكايا الصراخ السابق والصمت اللاحق
يامعبد السكينة أغثه بقرابينك الحكيمة.. كلمة واحدة لاتكفي لموت لكنها كانت قاضية
كضربة ملاكم ٍ محترف .. يومها كان كهفاً مترعاً بمياه تغلي وتفور يأوي إليه الوحوش الطيبة والسكون .. لاتلمح سوى عينين محمرتين وحقيقة بأنصال ٍ براقة..
أفرغ بنفسج زجاجته دفعة واحدة .. شحبت عيناه بعدما كانتا تسميان جمرتي الكهف
تحول لخيوط مبعثرة تنهشها الأنواء يجمعها قلبه .. شعره كالبيرق يجيب على أسئلة الريح بلا مقاومة ٍ تذكر .. التفت حوله كائنات طائرة أجسادها سوداء وجوهها مشوهة عيونها حمراء ملتهبة .. رماح صغيرة مدببة تنفر من جباهها .. رقصوا حوله بانتظام مذهل ... الطبول تقرع
بصخب ٍ هائج يدمي الأعصاب التالفة.. بدؤوا يتلفظون بكلمات منفرة غير مفهومة
إيقاعها رتيب مزعج طنينها حاد جدا ً.. باااه.. بييه.. بوووه.. باااه.. بييه.. بوووه... ثم حطت عليهم أجنحة ٌ تشبه أجنحة البعوض الضار زادت من بشاعة الصورة والصوت .. الريح عقدت حاجبيها تتابع مايحدث بترقب ٍ واهتمام بالغ.. البحر أصاخ السمع , فضوله لايرتوي لسماع الحكايات القديمة.. اقتربت الكائنات الطائرة المشوهة من بعضها ثم اتحدوا في أحدهم ودخلوا الزجاجة البنفسجية الفارغة !!.. (هل يمكن لكلمة أن تنقلب جهنما ً ؟.. )...
فتح الزجاجة الحمراء الملاصقة للبنفسجبة وبدأ يشرب .. لا لا ليست كلمة فحسب..
كلمة وبصقة على جسد الجبل الكالح الأصم .. ( لماذا لماذا تبصق على الجبل أيها الأرعن الحقير .. ) لايذكر سوى أنهار دماء ٍ حفرتها السياط اللامعة على جسده الواهن المتهالك.. الكثير من الوحوش الطيبة رفاق الكهف الجميل دخلوا النسيج القطراني المحكم المتقن .. وُز ِع على كل ٍ منهم رسن ٌ من الذهب الخالص كان كافيا ً لزرع ابتسامة ٍ صفراء أبدية على وجوههم المتجمدة واغتيال روح الماضي الحافل بالنقاء .. إلا هو يتوسط بركة من الدماء المتخثرة الحارة على البلاط البارد.. يسعل.. يتقيأ.. يئن بجنون فلايتلقف سوى الصدى من الجدران الحجرية الصماء.. لم يكن معه في قحطه سوى رامبو وهو يتمتم قصيدته العذبة ( يالهم من أقوياء /
الرهبان/ يالهم من سلالة من الفنانين/ من الخير أن تندثر ).. كان يزوره على
صهوة ٍ زرقاء ويردد ( الحياة هي المهزلة التي ينبغي أن يحوكها الجميع )..
حتى الزوجة لم تعد موجودة .. تذكر فجأة ً أنه لم يعرفها جيدا ً طوال زواجهما,
أخيراً قررت الساقطة أن تهجره مع قنفذ ٍ أسود لعين .. وصلت إليه تأوهاتهما
الفاجرة على شريط ٍ مسجل أعادوه على مسامعه عشرات المرات في اليوم الواحد..
الحمى تداهمه .. انفضوا جميعاً من حوله.. أشواك القنفذ الأسود الذي يتولى محاسبته
تمزق أحشاءه كما أثداء الزوجة.
زاره معظم من عشقهم ، محمد والمسيح .. علي وغيفارا .. بوذا وعمر الخيام ورامبو.. علت وجوههم أشباح ابتساماتٍ غامضة.. أخذ يصرخ فيهم ( أنتم صناع
الحلم.. رسل الأمل والاعتقاد .. لماذا لماذا لم تخبروني أن الأرض ممهورة ٌ بختم
الشياطين ).. لم ينبسوا إلا بصمتٍ لايرحم.
غمرته موجة مالحة فتح الزجاجة الخضراء .. سكب محتواها في جوفه دفعة واحدة..
تحسس عشرين عاما ً مترعة بالثواني فوق الأحجار الباردة داخل البزة المخططة
فوجدها تسكن تجاعيد الوجه الوسيم الطيب وحتى الشَعر تحدث كثيرا ً خلال تلك
الأعوام الرهيبة حتى صار أبيض اللسان ..
اقتربت باخرة بيضاء هائلة من الشاطىء نزل منها كائنات كثيرة متشابهة لاهم
ذكور ولا إناث أجسادهم من أثير ٍ مضيء .. نظروا إليه برحمة سالت من عيونهم
دموع النور .. بدا لهم كتلة عظام ٍ شاحبة مضرجة بالدماء الساخنة لكن رائحتها زكية
تعبق مثل عطر نادر مقطر من ورود النجوم.. اصطفوا حوله بانتظام ٍ مدهش وكأنهم
في طقس ٍ مقدس رفعوا ركامه المتبقي بمهابة ٍ بالغة .. ساروا في موكب ٍ مهيب صوب مركبهم الشاهق .. ورحلت باخرة الحلم في الدخان الأبيض..
لاتزوروه هنالك على صخرته المليئة بالنتوءات .. لن تجدوا سوى بضع زجاجات
ملونة وبقع
دماء بائسة.. لقد سرى بهدوء مع باخرة الحلم