باي باي يا عصفور!
العملاء في السجون الإسرائيلية
نعيم الغول
(1)
لماذا يسمونني عصفورا؟
سؤال وجيه! فأنا لا ريش على بدني، لا جناحان على خاصرتيّ، ولا منقار يخرج من رأسي.
أنا لا أطير، ولا ألتقط الحبوب، ولا أقف على أسلاك الكهرباء ولا التليفون.
ولو سألتَ لماذا، فلن يجيبك أحد، لأنهم لا يعرفون.
وحدي أنا أعرف.
ببساطة لأنني أنتمي إلى العصافير.
وللعصافير حجرة لا تذهب إليها، بل يأتيها كل من ليس عصفورا، لتنقره العصافير.
(2)
قريتنا كزنار في بطن الجبل؛ لا هي في القاع فيسحبها السيل، ولا هي في القمة فينقطع النفس وصولا إليها. في الوسط. وبالنسبة لي خير الأمور ليس أوسطها. ولهذا مكثت فيها طفولتي وأول تبرعم شبابي، قبل أن يظهر محمود المواسرجي في حياتي كدخان طائرة استطلاع في سماء زرقاء صافية تهفو لكل شيء ومحرومة من كل شيء: دخان أبيض رفيع يمتد ما دامت تخترق جوف السماء ، ثم يفترش مساحة أكبر، وتتخلله بقع وثغرات كالكلح في وجوه لا تعرف الخجل.
وقد ترك المواسرجي لديّ أثرا يظل هو يتذكره، ، وأظل أنساه، فيذكرني به.
ولمن لا يعرف ما أعني، فليتخيل كيف يكون الحال عندما يغلق الباب على فضاء حجرة ترتوي من ضوء خافت يسقط على طفل في الثالثة عشرة أمامه زجاجة "كونياك" وعلبة سجائر "مارلبورو" ورزمة "شيكيلات" يقعد في حضن شاب مهمته صناعة العصافير التي لا تطير.
(3)
في الحجرة أدخله حارسان بخشونة كبيرة، وقبل أن ينصرفا ركلاه في بطنه وظهره. انبطح يتلوى.
أنا كنت في الزاوية متورم الوجه منفوش الشعر بفعل أصابع شيطانية شدتني منه إلى الأعلى، ولاحت على رقبتي وقميصي الممزق آثار دم.
من يراني لا بد أن يقول " هذا الشاب خارج من طوشة كبيرة"، ولكن لأنه في السجن سيستنتج بسرعة أنني خارج من علقة ساخنة للتو واللحظة.
في الزاوية المقابلة، جلس، وبدا لي صورة مني، وبدا لي كأنني أنظر إلى نفسي في مرآة سحرية، تـُظهر ما يتمناه المرء حقيقة مع فارق واحد أنه ليس أنا لا طولا ولا عرضا ولا شكل رأس ولا لون بشرة، والأهم من كل هذا لا حدة عينين تقذفان برجولة لا أعرف كيف تـُصنع، أو من أن أين تـُشترى؛ فأنا كما قلت عصفور صنعه المواسرجي محمود، ومهمتي الآن أن أجعل مفردات الرجولة والصلابة والصمود والكتمان مجرد كلمات دُفنت دلالاتها في أعمق أعماق الأرض .. كلمات لا يمكن استخراجها ممن يدخل إلى حجرة العصافير إلا بالتنويم المغناطيسي كأي ذكريات أليمة دفنت في أعماق اللاشعور.
(4)
لا أعرف كيف يعرف الناس ما لم يقل أبدا.
فأنا لم تظهر عليّ علامات حمل؛ لأنني لا أنتمي إلى جنس الإناث، ولم ألبس فستانا ولم أعلق حقيبة يد ولم أتقصع في الشوارع.
تعرفت على شبان "قيل" لي إنهم يجتمعون ليلا، ويخرجون من القرية، ويغيبون بضعة أيام ثم يعودون، وعيونهم تضج رجولة، وأجسادهم تتوثب نزقا كلما مرت دورية جنود.
لم تكن مشكلتي الدخول بينهم، بل كانت حين أضع يدي في يد الواحد منهم وأتحدى، تظل الغلبة لي حتى تلتقي نظراتنا.
ولهذا لم يحدث أن واتتني الجرأة على النظر في عيني أي منهم مباشرة، حتى بعد أن نجحت في تسليم ثلاث خلايا، وحكم على كل واحد منهم مؤبدين بتهمة التخطيط لاغتيال مستوطنين يهود، والانتماء إلى جماعة إرهابية، وتكوين خلايا سرية تخريبية.
(5)
قلت له ببساطة إن عليه أن يصمد، وألا يقول شيئا، وألا يعترف بشيء، وضربت له مثلا بنفسي. لكني اعترفت له أنني عضو في خلية من قرية معروفة بإثارة المشكلات وقتل مستوطنين وجنود. ورجوته بحرارة أن يكتم ما قلت، فلا أحد يعرف ذلك إلا هو.
بعد قليل أخرجت علبة سجائري، وعرضت عليه واحدة. في تلك السيجارة كان مستقبله ملفوفا. أما أنا فكانت بالنسبة لي ورقة فيها تبغ تحترق بين شفتي كما تحترق أيامي مَرة في عوفر، وثانية في عسقلان، وثالثة في النقب، حتى صارت هذه السجون بيتي، ومن يدري قد تكون قبري.
(6)
حقيقتي صارت لأهل القرية كخبر مجاني على جهاز تلفاز مفتوح في كل بيت. فبعد تسليم خلية بيت راضي كان علي أن أصاحب الليل هربا منها تطاردني أيمان مغلظة بالذبح على عتبة بيت أبي راضي وأنهم سيطالونني حتى لو كنت في عمارة الشاباك. وقد مرت ست مواسم زيتون لم أدخلها فيها.
اليوم أجدني مضطرا للذهاب ملتحفا بالليل. جئت أودع أمي وأخواتي وأعطيهم ما فيه النصيب قبل مغادرة الضفة نهائيا؛ سأقيم في "عوفر"، وقد أتوجه بعدها إلى غزة حيث قيل لي إن صيدا سمينا تحت أعينهم، كل ذلك يعتمد على نجاحي في "عوفر".
وصلت قرب منتصف الليل إلى "تلة المشني" التي تكمن في ظهر القرية كالحدبة. ونظرت إلى السماء، ولم أنشغل كما في طفولتي بعد النجوم؛ فليس بي رغبة بالنوم، وفجأة شق السماء لهب سريع ظل يسير فيها كأنه كدودة حمراء عملاقة لها رأس ضخم وذنب طويل. إنه مذنب. أمي كانت تقول إنه علامة شؤم ونحس.لا يظهر إلا وتعقبه كارثة أو مصيبة كحرب أو زلزال أو هجرة شاملة.
ترى من المنحوس هذه الليلة أو الليالي القادمة؟
اختبأت خلف صخرة كبيرة تحتها تجويف يشبه مغارة يتسع لثلاثة كنت أجلب إليها أولاد لمحمود المواسرجي ليعصفرهم.
هدوء القرية في ليالي أيلول علامة فارقة ، لكنه كان هذه الليلة مختلفا؛ شيء ما كان يجري في القرية. أصوات سيارات وعراك ومصابيح يد كهرباء يدوية ثم يد على كتفي جعلت الماء الدافئ ينساب في ملابسي الداخلية.
كان أحد زملاء شبكتنا. قال:" قتلوا محمود المواسرجي. وقبل أيام طردوا أهلك كلهم من البلد."
صَدَقتْ أمي.
(7)
بطريقة ما نجحت خيوط الشمس بالتسلل إلى حجرة العصافير. وبعد عدد من السجائر والنكات وتفاصيل سرية دسستها في أذنه همسا اقترب مني بألفة، ثم فجأة سألني: "كيف يجن الناس؟ وما شكل المجنون؟"
قلت: "ألم تر مجنونا في حياتك؟"
فهز رأسه بالنفي.
قلت له :" هناك أسباب كثيرة تجنن الواحد منا. خذنا نحن المناضلين في السجن. إذا كان المناضل صلبا لا يتكلم يصعقونه بالكهرباء، ويحرقون جلده بالسجائر، ويغرقونه بالماء إغراقا كاذبا، ويمنعونه من النوم، ويتحكمون في طعامه لتضعف مقاومته الذهنية، ويعرضونه لإضاءة ساطعة كي لا يعرف للنوم سبيلا، ويجبرونه على الصحو فجأة وهو مستغرق في النوم إذا سمحوا له به بعد أيام من الصحو. فيجن إلا إذا أعطاهم ما يريدون عندها سيشعر أنه في الجنة. أما شكل المجنون فمن أفعاله تعرفه: فبعضهم يضرب رأسه في الجدار، وبعضهم الآخر يضرب نفسه ويبكي وينادي على أمه، وأخطرهم من يهاجم من حوله بأن يطبق على أعناقهم ويعصرها بيديه حتى تموت اختناقا قبل أن تستطيع طلب النجدة."
مشكلة البعض أنهم يصدقون ما تقول لهم بسرعة كأنك توصيهم به.
وكان آخر ما سمعته - بينما كنت ألفظ آخر أنفاسي واضرب "كالمجنون " بيدي ورجلي الأرض والهواء - قوله لي:
"باي باي يا عصفور!"