بانتظار جودو

نعيم الغول

كانوا يربضون خلف  تل صغير يلتصق بالمخيم من الجهة الشرقية . و  بعيدا عنهم فيما لا يزيد عن نصف ميل كانت ارتال من الدبابات قابعة و قد وجهت فوهاتها باتجاه المخيم . و تحت أضواء النجوم الباهتة في منتصف الليل كانوا يستطيعون رؤية تحرك بعضها لتتخذ موقعا جديدا او لتبتعد الى ناحية اخرى من المخيم . كانوا ثلاثة شبان و معهم صبي .  التصقت أجسادهم بالأرض و تحسسوا بنادقهم و صوبوها نحو المدافع حين لاحت لهم ان واحدة كانت تقترب اكثر . و لكن استرخوا قليلا حين توقفت عن الحركة . انقلب أحدهم على ظهره و بانت لحيته الكثة حين رفع رأسه الى السماء و اخذ يهمس بكلمات لم يسمعوها جيدا .. لكن كلمة يا الله كانت تصل إليهم بوضوح اكثر . ابتسم أحدهم وقال لزميله الثالث : الشيخ يدعو .

قال الثالث مداعبا : عليهم ام علينا يا شيخ .

قال الشيخ : سامحكم الله نحن في خندق واحد . صحيح أننا  من فصائل مختلفة  . ولكني أدعو لكم و عليهم .

ضحكوا . همس الثالث : من أين تتعلمون الدبلوماسية يا شيخ ؟

نظر الشيخ الى الطريق المحاذية للوادي : لم يبق الا قليل من الوقت و تأتي الإشارة .

قال الثاني : ربع ساعة فقط . أرجو ان يكون الدليل ماهرا و يأتي به من بطن الوادي .

قال الثالث : أتحرق شوقا للقاء جودو هذا . لقد سمعت عنه الكثير . و لا ادري ان سمع هؤلاء الملاعين عنه ايضا .

قال الشيخ : لا لم يسمعوا عنه . انه يعمل بصورة سرية و منظمة للغاية .

كان الصبي يستمع إليهم و في ذهنه ترتسم صورة لجودو . لكن الصورة كانت تختلط بين ما يسمع منهم و ما سمعه في فضائية بيت عمه . كان عمه اول شخص يشتري طبقا لاقطا في المخيم و كان الأقرباء و الأصدقاء يسهرون عنده كل ليلة . و كان عمه يمازحهم و يقول :" ما شاء الله ، تركتم  المقهى و جئتم الي ". و لكن سرعان ما فكر بعضهم و احضر طبقا لاقطا و وضعه في المقهى و انقطعت الأقدام عن بيت عمه .و  لانه لم يكن يحب الجلوس في المقاهي  فقد ظل يذهب الى بيت عمه متذرعا بحجج شتى لكي يشاهد المحطات المختلفة .. و كانت المحطات تروي حكايات مختلفة عن جودو . و في المخيم كان الأطفال يرددون نشيدا  لا يعرف احد ممن تعلموه  :

يحكى ان

ان إيه

ان جودو

جودو إيه

جودو عربي

عربي إيه

عربي يحارب

يحارب إيه

و هنا ينقطع النشيد . و لم يكن يعرف  من يحارب جودو حقا . فقد انقسم الناس في المخيم : بعضهم  يسمعون و يتندرون  و يسخرون من سيرة جودو و يتطوع البعض و يحرف : يحارب  من .. و فئة اخرى تنتظر بلهفة أخبار جودو و تتمنى منه المدد.

تنبه لصوت الشيخ و هو يقول  : "الدليل هو ابو رمان . وهو يعرف كل حجر و حبة رمل في المنطقة  . سمعت ان جودو لا يثق الا به . و انه هرب أسلحة الى مناطق كثيرة بمساعدة أبي رمان .  "

اتسعت عيناه و قد بدا يفهم شيئا عن جودو . إذن هو مع المقاومة . و هو يأتيهم بالأسلحة . و لكن هناك شيء غريب . كانت صورة جودو في  التلفاز  تقول بأنه ليس كذلك . هناك يرتدي  بدلة و ربطة عنق تارة  و ثوبا و حطة و عقالا تارة اخرى و يسافر كثيرا و يقابل رؤساء دول و يقف معهم امام الصحفيين و يتحدث عن السلام و حين يعود  يتحدث عن  مساعدة الأهل و الوقوف الى جانبهم  . و هو يراه في كل محطة . و رغم ان شكله و لباسه و لهجته تتغير  نوعا ما  من محطة الى اخرى  لكنه يسمعه ينطق بالكلمات نفسها .  فكيف يكون الآن مهرب أسلحة .

أفاق من شروده و تساؤلاته على صوت الشيخ  يقول : "جاسر  ، اذهب و احضر لنا ماءا و طعاما . و كن حذرا . حاول ان تخفض رأسك خوفا من الرصاص العشوائي ، و تجنب الحيطان فهي على وشك السقوط ."

ابتسم جاسر بثقة : "اعرف ، القصف دمر كل  شيء .أمس مات ولدان  تحت احد الجدران و هما يلعبان . لا  تخف سأزحف ان لزم الأمر ."

و انطلق مسرعا و التقمه حوت الليل في بطنه . لكنه عاد بعد قليل . دهش الشيخ و قال : "أعدت بهذه السرعة ؟!" قال جاسر و هو يلهث :"أخذت الصرة من أمي . كانت تنتظرني في بيت عمي و هو قريب جدا من هنا . و لكن اسمع يا شيخ . جودو لن يأتي . أنت تنتظره عبثا . الكل ينتظره عبثا . بعد المظاهرات في كل مكان ووعده بان يفعل شيئا توقع الجميع بأنه سيأتي و يخلصنا . لهذا السبب انتم هنا تنتظرون.. و لكنه لن يأتي ."

قال الشيخ بدهشة : "عمن تتكلم ؟"

قال جاسر بإلحاح : "عن جودو . لن يأتي . أتعلم لماذا ؟ لانه متزوج من أمريكية . نعم هكذا قالوا في الأخبار . زوجته أمريكية و اصلها يهودي . و قالوا أنها هددته ان فعل شيئا لصالحنا   فستطلب الطلاق . أمي  تقول عنها إنها وقحة .. أتعرف لماذا ؟ لأنها هددته ايضا بأنها ستطلب من أهلها ان يضربوه  ان ساعدنا و لو بالطعام  . تخيل . أنا لم اسمع ان امرأة تهدد زوجها هكذا . تخيل لو ان أمي رفعت صوتها امام أبي .. و المصيبة انه وعدها و اخذ يسترضيها كما يقول التلفزيون ."

وضع الشيخ يده على جبين  الصبي . وقال للآخرين : "ليس الصبي محموما ."

قال احد زميليه : "جاسر ،  أتعرف جودو ؟ هذا  هو جودو . و أشار الى رجل  ملثم و بيده بندقية و أمامه تكدست بضع صناديق .

رفع الملثم يده محييا و قال لجاسر : محسوبك ابو الجود _ عبد الجواد . الاسم الحركي : جودو .

 امسك الشيخ بكتفي جاسر و قال : سأعلمك نشيدا :

يحكى ان

ان إيه

ان جودو

جودو إيه

جودو مقاوم

مقاوم إيه

وفى بوعده ..

اقترب الجميع منه حتى انصهرت  أجسادهم و أحسوا بحرارتها و شموا رائحة عرق بعضهم بعضا تجاذبوا النشيد مع الشيخ و بنادقهم تئن من قسوة قبضاتهم .