النورس والبحيرة
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
كانت متوسطة الطول حسنة القوام جياشة العواطف ، مستغرقة في أحلامها الصغيرة
. خاصة وأنها في آخر فصل دراسي
في الجامعة . عليها مسحة من جمال فلا هي
تبهرك و لا يرتد عنها بصرك سريعا . جلست على أريكة في إحدى الغرف التي تضم مكتبة
صغيرة فيها بعض المجلات والكتب . تناولت كتابا وألقت رأسها بين دفتيه كأنها تهرب من
شيء أو تبحث عن فضاء آخر .........صمت قاتل لم يعكر صفوه سوى غراب أسود حط رحاله
على شجرة باسقة في مواجهة غرفتها. انتصبت واقفة كمن أفاقت من غيبوبة. و حدقت في
الطائر الأسود......اغرب عني أيها اللعين آكل الجيف.....حلق الأسود بجناحيه وطار
بعيدا عن شرفة المنزل.
دندنت بصوت خافت ، وحاولت أن تخفي قلقها ووساوسها وهي تقلب في محطات التلفاز
الفضائية....تدخل عليها أمها ، تمشي على أطراف أصابعها.. والريح في الخارج تشتد
كأنها ذئاب تعوي في برية جرداء
-
" أحمد الله أنه لا
توجد عندك غير محاضرة صباحية واحدة غدا.." قالت الأم وهي تتفحص برنامج محاضرات معلق
عند الباب...كانت تتعثر في عباراتها على غير عادتها ...كأنها تحاول إخفاء شيء ما
-
هل اشتكيت لك من
المحاضرات وأوقاتها يا أمي ؟ تساءلت الفتاة بعفوية و براءة
-
أعلم ذلك فلم اسمع
منك شكوى من أي شيء..لكن ثمة زوار بعد صلاة المغرب
-
من ؟ تساءلت الفتاة و
لكن بفضول و ترقب
دار أبو ثامر وولدهم..أرجو أن تهييىء نفسك ، حيث أن إحساسي يقول أنهم قادمون بحثا
عن عروس حلوة مثلك. تأملت الفتاة في قسمات وجه أمها فقرأت رغبة أمها في حصول اتفاق
ما ، و أحست بخفقات في القلب و تململ في الصدر ..لم تكن قادرة على التمييز بين
مشاعر مختلطة و هواجس تتأرجح بين هاجس و خوف و رغبة و عزوف. حاولت أن تكبح جماح
القلب و قالت متظاهرة باللامبالاة..." ولكني أضع الدراسة في أعلى سلم الأولويات و
ليس بي رغبة في زواج في هذه المرحلة بالذات ، وأشاحت بوجهها نحو الشباك.
حاولت الأم أن تهدئ من روعها و تخفف من
توترها و عنادها ، وأسهبت في مواصفات العريس" اللقطة" ووظيفته و ممتلكات أبيه من
العقارات المنقولة و غير المنقولة ، ثم أن العريس في العقد الثاني من عمره.. أي أنه
في بدايات الشباب . و لما علمت الفتاة انه يتعهد بأن تكمل الدراسة وأنه مطواع ، لين
و طيب السريرة وافقت الفتاة ...لم تكن واثقة من أسرار الموافقة السريعة المسبقة هل
الهروب من إلحاح أمها أم هي الرغبة الخفية في ولوج عالم جديد بعد أن أضفت الأم على
العريس سمات لا تقاوم و هالة لها سحرها ؟ عانقت الأم ابنتها عناقا طويلا كمن أفاقت
من حلم وردي جميل .. تسربت علامات الخجل إلى وجنات الفتاة وتدثرت بحياء أخاذ.
الزمن يمشي بتسارع عجيب و دقات الساعة
تكسر صمت المكان و ساعة الغروب تقترب وئيدة الخطى.
تنتهي صلاة المغرب و تتهادى أفواج المصلين عبر
الأزقة..تفوح بالمكان بركات الأدعية و التسبيح...تسمع أصوات أمام البوابة ..يدق جرس
الباب على استحياء....يخرج الأب هاشا باشا ، يصطحبهم إلى غرفة الضيوف ويجلس الجميع
و من خلفهم لوحات تتوشح الجدران برسومات فنية نافرة الألوان. يتبادلون أطراف الحديث
و يعرجون على أيام خوالي حيث كانت تربط بين العائلتين وشائج مصاهرة قديمة.
...تتقدم الفتاة في خفر شديد تحمل
صينية الشاي على استحياء، تتسارع نبضات قلبها و تقول بصوت متهدج...تفضلوا ثم جلست
على أريكة مجاورة لدقائق معدودة ، تكلمت باقتضاب و أجابت عن بعض تساؤلات العريس ،
لم تتأمل به كثيرا إلا أنها تمكنت من اختلاس بعض النظرات عندما كان يحدق في إحدى
اللوحات من وراء نظارة سميكة عتيقة الإطار ، و تجرأ العريس لحظة و سأل عن تخصصها و
نظراتها المستقبلية للحياة...سرت رعشة خجولة من جديد فعادت العروس إلى غرفتها وسط
إعجاب العريس و أهله ..كانت تسترق السمع في غرفتها و تهزها الضحكات ، كان كل شيء
يبعث على الاطمئنان – الأعمال التجارية و الأرصدة و.....شعرت أن أبواب الحلم أصبحت
مشرعة على مصراعيها وأن الخصاصة والحرمان أزفا على الرحيل ، وأحست أن أحاديث البطون
المتخمة تختلف عن أهات البطون الخاوية.
شيء ما لفت انتباه العروس بعد أيام من
قراءة الفاتحة وعقد القران...كان العريس معظم الوقت يلوذ بالصمت و ينشغل بحبات
المسبحة و كأنه يعدها حبة حبة..!كان يتمتم بأشياء ..ربما كانت أدعية تناسب المكان و
المناسبة؟أو أنه ربما التزم الصمت احتراما لوالده ..ففي مناسبات كهذه يفسح المجال
للكبار فيتولوا دفة الحديث...كانت تلك همسات تتشكل في عقلها الباطن و لم تكن تجرؤ
على الهمس بها أمام والديها ....حاولت جاهدة أن تطرد الهواجس من مخيلتها حتى لا
تعشش فتفسد جو الفرح. جاءت نسمة أمل جديدة هبت عليها فأنعشتها كيف لا و آمالها قاب
قوسين أو أدنى من التحقق !
تتداعى الصور في مخيلتها وهي على وشك
الولوج في القفص الذهبي أحست أنها طائر يحلق فيهبط ليجمع رزقه مع حبات الندى.
في شارع " أبو فراس الحمداني " كان كل
شيء يمر برتابة ، ثمة مطاعم متناثرة و بقالات صغيرة مبعثرة هنا و هناك...في الرابعة
عصرا الشارع يكاد يخلو من المارة سوى بعض الصبية . في هذا الشارع و في ذاك الحي
تسترخي شقة صغيرة ضمت عروسا في عمر الورود و عريسا ما زال يحاول الاختفاء وراء
نظارة سميكة .....مرت أسابيع و الحال لم يتغير ، حاولت العروس أن تشرع في حديث ما و
لكنه في كل مرة كان يتذرع بانشغاله أو أنه مرهق بسبب العمل و يقترح موعدا آخر...لم
تكن قادرة أن تبقي عبراتها حبيسة في مآقيها..كانت تنزوي في احد زوايا غرفة نومها
..توصد الباب و تودع ما في جعبتها في ثنايا دفتر مذكراتها
جاء في الصفحة الأولى "أعيش في هذه
الحياة كزورق مقلوب تتدافعه الأمواج و تتزاحم عليه الدلافين....أصارع نوبات الفزع
التي تحاول أن تنهش جسدي و تحيلني إلى جيفة ملقاة في أطراف صحراء بلقع "
أرخت جفونها قليلا كأنها تسدل الستار عن صفحة جديدة من مأساتها..تشعر بدوار يلف
رأسها ....تتوقف قليلا عن الكتابة ..تحتسي فنجان قهوة- على غير عادتها- ثم تابعت
"كنت أبكي بصمت في حلكة الليل ..أبكي حتى يكاد رأسي يتصدع و دموعي تجف، و لولا جذوة
الإيمان في أعماقي لكنت ألقيت نفسي من النافذة المطلة على الشارع الرئيسي و لقضيت
تحت عجلات سيارة طائشة...لم تعد الدموع قادرة على غسل أحزان القلب أو التخفيف من
صدمة الاختبار.....تحولت أحلامي إلى جرح نازف وآمالي إلى خيبة جارفة...كنت أشعر
كأني قطة على قارعة طريق قرب حاوية فارغة !باتت حياتي ذات إيقاع رتيب ووجوم رهيب ،
لم تكن المسألة - كما توهمت – مجرد عرض طارئ، حاولت أن أستوعبه زوجا ، غير أن حديثه
كان يبعث على الغثيان , و كلامه يفتقر إلى الترابط و التشويق ، كنت أشعر كان نصلا
تخترق أحشائي و تمزقها إربا...طالما انتظرته..تصورته هماما آتيا على فرس أبلق يمد
يده ليحلق بي في عوالم جديدة غير أنه زاد أوجاعي و بدد أحلامي ...كنت أحرك الستائر
من وقت لآخر لعل ضوء الشمس يبدد الظلام المخيم في أرجاء الغرفة و يتشابك كخيوط
العنكبوت، حاولت أن أطرد شبح اكتئابي الذي تزامن مع زواجي فلم افلح...تأملت في
المكان والأثاث فلم أجد ما يبعث على التشاؤم فكل شيء جديد و من أرقى محلات
المفروشات ، فاتحته ذات مساء عن عزوفه و زهده و لا مبالاته ، أنكر وحاول أن يلقي
الكرة في مرماي..تذكرت القول المأثور " رمتني بدائها و انسلت " و اقترح علي
الانضمام لنادي رياضي ثقافي في الحي المجاور ...لم اهتم بالفكرة بداية إلا أنني
انسجمت مع زميلاتي في النادي بعد أسابيع من عضويتي و مساهمتي ببعض النشاطات
الثقافية خاصة وأنني كنت أجد الإطراء و التقدير...خفت حدة اكتئابي غير أن الفجوة
بيننا ازدادت اتساعا و اكتشفت أنني كعصفورة حطمت قفصها التي حبست فيه..انتابتني
مشاعر مختلطة ، و شعرت أنني كمن يسرق لحظات سعادته و يختلس معاني حياته ، كتمت
جراحي و انكساري و حاولت أن أخلق أجواء حميمية رومانسية في بيت الزوجية ، كنت أبادر
في مداعبته و ملاطفته غير أنه كان حصانا عصيا على الترويض ، لم تشده آهاتي و لم تكن
تثيره زفراتي ، فقد اكتشفت زهده فإذا ما دخل غرفة النوم كأنه دخل في غيبوبة ! ، و
عندما بلغ السيل الزبى وعيل صبري وتآكلت قدراتي على احتمال عزوفه واستغراقه و عندما
كان الوقت أصيلا و السماء متلبدة غيومها جمعت أشلائي و انطلقت إلى بيت أهلي تاركة
له ملاحظة مقتضبة فوق سرير بارد " عندما تعاني البحيرة من الجفاف تهجرها طيور
النورس "
*** ****** ***
مرت الأيام بطيئة كسلحفاة بحرية تجرب حظها فوق رمال جافة ...كلمات أمي و توبيخات
أبي كانت تنزل على رأسي كمطرقة ، و لم يستوعبوا حيرتي و همومي و اعتبروا ذلك نوعا
من دلع البنات... شعرت أنني كمن ينفخ في رماد خاصة وأن غشاوة الثراء كانت تغطي
أبصارهم..أمي وأبي على حد سواء ، كان صدى أحاديث الثراء يتردد في أرجاء منزلنا ولا
سيما وأن كل واحد نال حظه من الهدايا ! شعرت أنني مجرد متاع أضيف في سند التسجيل
....أحسست بدوار لم أعهد حدته من قبل ، بدأت أترنح ..لم أصح إلا في غرفة 124 في
المشفى ، أخافتني مناظر الأجهزة والمحاليل و حركة الأطباء والممرضين ، هدأت من روعي
ممرضة ملائكية الوجه و امتدت يد أمي على جبيني بحنان..لم يبد عليها قلق أو
توتر.....ثمة ابتسامة خفيفة ترتسم على محياها تحاول أن تكتمها ، لم أعرف كنه ما
يجري الا عند دخول زوجي و في يده باقة ورد و بعض الحلوى
-
مبروك ! قالها بإيجاز
على عادته... مبروك يا أم ......!