الدكتور المجذوب

علاء سعد حسن حميده

[email protected]

شعر إبراهيم بالعرق يتصبب من وجهه وكل جسده .. كان يتفصد منه وجسده كله ينتفض بشدة كأنه محموم .. أو كأنه يبذل مجهودا خرافيا.. كان يقاوم ليرفع ثقلا هائل الوزن .. وجد نفسه يصرخ بصوت مكتوم مؤلم كأنه يصدر عن محموم :

لا أدري .. لا أدري يا دكتور

حاول .. حاول يا إبراهيم ..

لا استطيع .. لا أستطيع يا دكتور .. يكفي هذا ..

حاول معي ثانية إبراهيم .. هيا تشجع يا رجل .. أنت على وشك النجاح

كلا يا دكتور .. لا أستطيع .. لا أستطيع رفع كل هذا الحمل ..

ثم صرخ بألم : لا .. لا .. لا أستطيع .. أرجوك

قبل أن يغفو قليلا كأنه أغشى عليه ..

تركه الدكتور إيهاب يرتاح قليلا .. وقد اقترب من ذراعه فرفعها إليه برفق وحقنه بإبرة كانت معه .. ثم شد عليه الغطاء الخفيف .. واستدار إلى مكتبه ..كانت عيناه مازالت تحملق في هذا المريض المستلقي أمامه على الشيزلونج .. وهو يشعر أن كلاهما بذل مجهودا خرافيا هذا المساء ..

ظل الدكتور إيهاب يدق بالقلم على مفكرة أمامه تارة ، ويرفع القلم يداعب به شفتيه تارة أخرى ..في حركة لا إرادية اعتاد عليها منذ كانت تستعصي على الحل معه مسألة حسابية أو معادلة رياضية منذ طفولته .. ولم يكن لحركة القلم هذه الآن سوى دلالة واحدة ..

لم يكن في الحقيقة إبراهيم يمثل بالنسبة إليه مريضا اعتياديا من هؤلاء المرضى الذين اعتادوا على مراجعة عيادته الخاصة .. لكنه جاء إليه بناء على توصية من بعض أقارب الطبيب المقربين .. بالتحديد كان الدكتور عبد العزيز شقيق زوجته هو من أوصاه به بشدة .. ولم يأت إليه إبراهيم طواعية ، وإنما سيق إليه سوقا بعد عناء شديد من زوجته ، وكأنها حملته حملا ليراجع عيادته ..

ولم تكن حالة إبراهيم خطرة أو حرجة .. لكنها كانت حالة شاذة غريبة ، لم يقابل مثلها الدكتور إيهاب من قبل .. كانت أعراضها متشابهه مع أعراض كثير من الحالات المتشابهة ، لكنه حتى الآن لا يستطيع تشخيصها ، أو لا يستطيع الوقوف على السر الذي يكمن وراءها ..

كانت حالة إبراهيم حالة تثير التحدي في نفس الطبيب الشاب الذي لم يعرف الفشل من قبل .. تذكر الدكتور إيهاب وجه الدكتور عبد العزيز شقيق زوجته الجراح الشهير .. وزميله في التدريس بالجامعة .. تذكر وجهه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة هازئة ، أو ابتسامة شفقة ورثاء كتلك التي يبتسم بها الوالد لابنه عندما يسقط على الأرض في بداية تعلمه المشي !! فحرك إيهاب كفه أمام وجهه بضيق كأنه ينحي صورته من أمام عينيه .. لقد كان صهره الدكتور عبد العزيز مازال يعتبر الطب النفسي نوعا من أنواع الدجل والشعوذة .. أو على أحسن تقدير ضربا من ضروب التخدير لمشاعر المريض بكلام دبلوماسي معسول ..

فالطبيب النفسي ، أو كما يحلو له ان ينادي زوج شقيقته مستفزا ( المحلل النفسي ) ، لا يزيد عن أن يكون مثل هؤلاء المشعوذين الذين يخدرون مشاعر الناس ويبيعون لهم الأوهام .. فهو لا يستخدم سماعة لسماع النبض ، ولا جهاز لقياس الضغط ، ولا يلجأ إلى الأشعة والتحاليل المختبرية لاكتشاف العلة ، ولا يمكنه أن يمسك بمشرح ليفتح ولو ( خراج صغير ) .. فهو لون من الطب لا يعتمد على الوقائع المادية الملموسة ، ولو عبر المهجر الالكتروني .. فالطب النفسي كما يراه هو طب الكلام .. وأحيانا يبلغ به تطرفه في تحدي زوج شقيقته قائلا وابتسامة شامتة تلوح على شفتيه :

طب الكلام .. يسكت هنيهة ثم يضيف .. الفارغ ..

والدكتور إيهاب الطبيب الشاب النابه المتأنق في إسراف .. قد جعل لنفسه منذ البداية طريقة مختلفة لعلاج مرضاه .. فهو لم يحاول أن يتبسط إليهم أبدا .. أو يكتسب صداقتهم ، أو يشعرهم كما يحاول أكثر الأطباء النفسيين أنه قريب منهم .. بل على العكس يتخذ من التعالي عليهم ، والعجرفة في التعامل معهم شعارا دائما له .. إن وسامته الجذابة ، وأناقته المفرطة ، وارستقراطيته الطبيعية ، وإيمانه الشديد بعلمه وكفاءته ، مع إحساس أصيل بموهبته الفذة في مجال العلاج النفسي ، كلها مؤهلات وضعته سريعا في مصاف الأطباء الكبار .. لا يلجأ إليه إلا أبناء الصفوة .. وهو منذ البداية كان مؤمنا أن الطب النفسي هو طب الصفوة .. فإن أبناء المجتمع الشعبي لا ينظرون إلى علاج الاكتئاب وحالات الاضطراب النفسي إلا على انه ترف لا يقدرون عليه .. هم يعالجون الأمراض الجسدية الكبرى ( بالاسبرين ) ، ويثقون في الدجالين أكثر من ثقتهم في أطباء النفسية والعصبية ..

ولم يكن الدكتور إيهاب يسمح لنفسه أن يخسر ولو جولة في معركة ، وخروج حالة كحالة إبراهيم من عيادته دون علاج ناجح تمثل له قمة الخسارة والفشل ..

بل إن هذه الحالة بالذات التي جاءته بتوصية من غريمه الطبي وصهره المتعالي الدكتور عبد العزيز لا يمكن أن يدعها تمر من تحت يديه دون علاج ..

لقد أصبح الدكتور إيهاب يعيش شخصية إبراهيم .. يحاول أن يسبر أغواره .. ولم تكن مشكلة إبراهيم مشكلة فريدة من نوعها .. ولكن السبب الكامن وراء المشكلة .. كان هو المعضلة أو التحدي الحقيقي أمام الطبيب ..

 وإبراهيم هو زوج للسيدة نادية ابنة عمة الدكتور عبد العزيز أو ابنة خالته ، لا يعرف على وجه الدقة .. غير أن مشكلتها أصبحت تؤرق عائلة الدكتور عبد العزيز ، وأصبحت حديث المجالس والصالونات في العائلة ، ولولا ذلك ، ما تدخل الدكتور عبد العزيز وأرشدهم إلى صهره الدكتور إيهاب ، على أنه لم يشر بذلك ، إلا بعد أن نصح نادية بعرض إبراهيم على مختلف التخصصات العضوية .. ذات الصلة ، وغير ذات الصلة .. وكلها أخفقت في تشخيص الحالة أو وصف العلاج المناسب ..

وإبراهيم نفسه رجل مستقيم وقد كان شابا مستقيما كذلك .. معتدل الخلق .. حلو المعشر متدفق الحديث ، يميل إلى المزاح والضحك ، سريع البديهة وابن نكتة ، ناجح في عمله ، وإن لم يكن استطاع أن يدخل بعد إلى مجتمع الصفوة الذي تمثله عائلة زوجته .. إلا أن أسرة زوجته ذاتها كانت الفرع متوسط الحالة الاقتصادية والاجتماعية في العائلة ، ولذا لا يجد أي غضاضة من الارتباط بعائلة زوجته ، فهو زوج كفء لها ، ومن أسرة مكافئة لأسرتها ، وإن لم تكن له عائلة في مستوى عائلتها ..

وهو متزوج منذ أكثر من عشر سنوات وكان زواجه مبكرا بمجرد أن تخرج في الجامعة مما يضفي ظلالا أوسع على استقامته وسلامة طبعه ، وله من زوجته نادية ابنتان ..

بمعنى أن الحياة كانت تسير بينهما بشكل طبيعي .. إن لم تكن قد اشتهرت علاقتهما بجيشان العاطفة ورقة المشاعر ..

والسيدة نادية امرأة جميلة فاتنة ، أنيقة المظهر في بساطة وغير تكلف ، وهي صارخة الشباب والأنوثة .. حتى أن من يراها دون معرفة سابقة لا يتخيلها أبدا سوى فتاة لا زوجة وأما لبنتين !

وإبراهيم نفسه في شرخ الشباب .. في الحقيقة إن أقرانه من الرجال ، بعضهم من تزوج منذ عام أو عامين ، وبعضهم من لم يستكمل نصف دينه بعد .. وهو شاب في منتهى القوة والحيوية .. كما انه يشيع البهجة والسعادة فيمن حوله من خلال شخصيته الاجتماعية وكثرة مداعباته ومزاحه ، كل هذا يجعله بعيدا في نظر كل من يعرفه عن أن يكون مستهدفا للعلاج النفسي بحال من الأحوال !!

إنه أجهد الدكتور إيهاب نفسه بكثرة تعليقاته المازحة أحيانا واللاذعة أحيانا أخرى عن كل تلك الإجراءات التي يقوم بها في استجوابه ..

حتى أنه اضطر الدكتور إيهاب اضطرارا أن يتبسط معه ، وأن يجاريه ، وهو الأمر الذي لم يفعله أبدا مع مريض قبله ..

لقد اتسعت حيرة الطبيب الشاب ، وهو يشعر أن المريض إبراهيم يأخذه هو نفسه إلى العلاج .. كأنه يعوده في عيادته لا من أجل أن يحصل على العلاج ، ولكن ليعالج هو الطبيب وينزله من كبريائه بطريقة أنيقة مهذبة تلقائية .. تلقائية وبريئة إلى الدرجة التي تجعل الدكتور إيهاب لا يستطيع السيطرة عليها ، ولا أن يواجهها بالحزم ، أو إظهار الامتعاض اللازم لوقف حالة الانفلات المستمر من سيطرته لمريضه إبراهيم !!

إن رجلا في نقاء وحيوية إبراهيم وفي مثل عاطفته المشبوبة ، ورقته الظاهرة ، من الطبيعي أن يتأثر بكل نظرة جذابة ، أو ضحكة جميلة ، أو دعوة تظهرها على استحياء وترفّع خلجات الوجه ، وحركة الكفين .. وزوجته نادية بارعة في مد حبال الوصال إلى أعلى قمة الجبل ، كما يروي إبراهيم ذاته .. وكما تشهد فتنتها التي يحسده عليها عشرات الرجال كونها وقفا عليه .. فيستجيب إبراهيم ويصل إلى درجات مرتفعة تكاد تصل بهما إلى القمة ، ولكنه ينطفئ فجأة .. يخبو .. يتلاشى .. كأنه لم يستجب منذ لحظة واحدة .. أو كأنه لا يملك هذه الحيوية والطاقة !!

يعقب هذا في كل مرة ذلك الصمت المطبق .. حتى ليكاد كل منهما ينكر ذاته ..

وربما ظلا هكذا يومين أو أكثر لا يكاد يجري بينهما حديث !!

والغريب حقا انه لم يكن في صحة إبراهيم ولا في الظروف المحيطة به أي سبب يفسر هذه الحالة التي تحولت عنده مع الأيام إلى عقدة ..والغريب أكثر أنه يحب نادية ، ويراها أجمل امرأة في الدنيا !

ولم تكن نادية وحدها هي التي تتألم في البداية في صمت ، ثم بدأ بوحها الخافت ينطلق رغما عنها كالأنين المخنوق ، ثم أصبح الأنين صراخا ، والصراخ صار أكثر حدة .. وخرج الأمر لأول مرة خارج جدران البيت ، وتحول إلى مادة مجالس العائلة ..

فإبراهيم أيضا كان يتألم .. كان يعاني كبتا وحرمانا كالذي تعاني منه زوجته ، ومع الحرمان والكبت يعاني إحساسا خانقا بالعجز .. وشعورا مريعا بالفشل والهزيمة والضياع .. وقد بقيت له ذرة من كرامة يواجه بها الناس في محيطه الاجتماعي متخفيا وراء خفة ظله وسرعة بديهته .. فلم يكن يعلم أبدا أن السر الرهيب قد تسلل خارج جدران بيته .. ولو قدر له أن يعلم .. لم يكن أمامه سوى طريق واحد أو نهاية محتومة واحدة .. لم يكن يرى أمامه سوى الانسحاب .. أن يبتعد عن حياة الناس .. أن يهرب من مواجهة كل من له به أدنى صلة ، وأن يتشرد في الأرض .. لم يفكر قط في الانتحار كونه حرام .. لكن أن يعتزل الناس ويهيم على وجهه فهذا شأن آخر ..

والدكتور إيهاب مازال يحقق في دقة متناهية في أدق تفاصيل الطقوس التي يمارسها الزوجان قبل أن تناجي عيناها عينيه ، وقبل أن يستجيب الاستجابة الكبرى التي لا تلبث أن تنطفئ ..

وكانت مناقشة التفاصيل تشعر إبراهيم بالاختناق .. كانت تخرجه عن طوره فيصرخ في وجه الطبيب رافضا كل شيء ، فيهرع الدكتور إلى تهدئة ثورته ، وسرعان ما يستسلم إبراهيم لطبيبه .. وأحيانا كان يثير حفيظة الدكتور إيهاب وحيرته ، عندما كان يعاند في البوح حتى تحت تأثير المهدئات !!

لم يكن إيهاب يحتاج ، إلا إلى الوصول الحاجز .. إلى الصورة التي يرى فيها إبراهيم زوجته في اللحظة الحاسمة .. إن كل التفاصيل التي عرفها من إبراهيم تؤكد أنهما يعيشان حالة من التناغم والانسجام ، والتنوع والتجديد يحسدهما عليها كل الأزواج !!

 والسيدة نادية من خلال ما ذكره زوجها لم تكن امرأة تقليدية أو متحجرة .. لقد كانت باعتراف زوجها ( امرأة متجددة كل يوم ) !!

ورغم حيرته ، كان الدكتور إيهاب يشعر أنه على وشك الوصول إلى شيء .. الوصول إلى الصورة التي تتحول إليها نادية في نظر زوجها في تلك اللحظة التي تذبل فيها الوردة المتفتحة ، وتفقد عبيرها الغلاب وفتنتها الآسرة ..

العجيب أن إبراهيم الذي كان يرفض رفضا قاطعا ، الذهاب إلى طبيب نفسي .. حتى حملته زوجته إلى عيادة الدكتور إيهاب بدهاء وحيلة .. قد أصبح حريصا على موعده مع الطبيب الشاب الذي كان في مثل سنه تقريبا ، وهو يشعر أنه ذاهب للقاء صديق منذ أيام الطفولة .. كان يشعر بفرحة في يوم زيارته للدكتور ، كما كان يشعر بلهفة على لقائه !!

إن كل ما يشعر به يدل على الثقة المتبادلة بينه وبين الدكتور إيهاب ، انه صديقه وليس طبيبه والدليل على ذلك أن الدكتور إيهاب نفسه بدأ يتغير بسبب صحبته .. علاقته به إذن ليست مجرد علاقة طبيب بمريض .. إنما هي علاقة صداقة وطيدة ، والتأثير بينهما متبادل .. لم إذن لا يريح نفسه ويريح الدكتور ويبوح له بالسر الكامن في أعماق نفسه ؟

المشكلة الحقيقية أنه فعلا لا يعرف هذا السر ، ولو عرفه لاستطاع أن يعالج نفسه وما احتاج إلى طبيب .. فهو يؤمن أنه طبيب نفسه خاصة في المسألة النفسية .. انه يطرب لنفسه أحيانا ، إن أمهر طبيب أمراض عصبية ونفسية لمجتمع الصفوة ، لم يستطع رغم كل هذه الجلسات الطويلة المتكررة أن يكتشف السر .. وهذا كله يعني أن حالته ليست سهلة ، وانه نفسه عجز عن علاج نفسه لا لكونه فشل في ذلك ، ولكن كون الحالة نفسها شديدة الغموض والتعقيد ..

هذا المساء اكتفى الدكتور إيهاب بإضاءة خافتة في حجرة الكشف ، وحرص على توفير جو إضافي من الاسترخاء .. لقد بذل مجهودا فوق طاقته ليصل إلى الصورة ..

أخيرا انطلق لسان إبراهيم ، لم يكن يتلعثم أو يتباطأ بل كان يقذف الكلمات كأنه ينتزع حملا ثقيلا مستقرا في أعماقه :

- أمي .. نعم أمي يا دكتور إيهاب .. ما إن أقترب من نادية وأنا أتلظى شوقا إليها حتى أرى وجه أمي بدلا من وجهها ..

أطلق إبراهيم صرخات حادة متقطعة ، وهو يقول :

-        لا .. كفي دكتور .. كفى هذا .. لا أستطيع .. لا أستطيع ..

منذ هذا المساء وتحول كل اهتمام الدكتور إلى دراسة علاقة إبراهيم بأمه .. إنها علاقة تكاد تكون نموذجية ليس فيها أي شذوذ أو غرابة ، فهو يحب أمه حبا شديدا ويحاول أن يبرها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وأمه نفسها سيدة فاضلة ليس عليها غبار في حياتها ومعاملاتها وسيرتها !!

وأخيرا فلتت من لسان إبراهيم كلمة أو كلمتان .. فهم من خلالهما الدكتور إيهاب شيئا :

إبراهيم ينظر إلى أمه نظرة تقترب إلى القداسة .. فهي بالنسبة إليه ليست امرأة .. لا يمكن أن تكون امرأة ، وإنما هي ملاك يمشي على الأرض ..

كما أنه لم يستطع أن ينظر إلى أمه أبدا باعتبارها ناقصة عقل ودين .. هي بالنسبة إليه كاملة الأوصاف .. كأنها بلا عاطفة تتحكم في كيانها كله .. أو كأن عاطفتها التي هي في منتهى الكمال والرقة .. تخضع لسيطرة جبارة من عقل هو أكبر وأكثر كمالا من عاطفتها الكاملة تلك .. ولذا فهو لم يحاول أبدا أن يناقش رغبات أمه ولا أفكارها إلا على أنها مسلمات بديهية .. فهي لا يمكن أن تضعف أو تميل أو تحب أو تكره أو تجامل ، أو تتحامل .. إنها مثال الكمال والاتزان في كل شيء وأي شيء !!

أدرك الدكتور إيهاب كل هذا .. وأدرك أيضا أن هناك قاسما مشتركا يجمعه بإبراهيم في هذا الجانب .. هو كذلك لم يتخيل أمه أبدا على أنها امرأة .. لم يحاول أن يخاطب عاطفتها .. دائما يخاطب عقلها وفكرها .. ثقته في نضجها ورجاحتها ثقة متناهية !!

لكن ما علاقة كل هذا بنادية زوجة إبراهيم ؟.. لم تحول حبه لها وتعلقه بها إلى صورة تكاد تشبه حبه لأمه ؟

لماذا أصبح يضفي عليها تلك القداسة التي تمنعه من أن يقترب إليها برغبات البشر ؟

وعاد الدكتور إيهاب يجمع كل تفاصيل العلاقة بين إبراهيم ونادية .. لم يعد يكتفي بتفاصيل العلاقة الخاصة ، ولكنه أصبح يبحث في تفاصيل العلاقات اليومية .. بل لم يعد يكتفي بسؤال مريضه إبراهيم نفسه ..

انه هو ذاته تحول بسبب إبراهيم إلى حالة تكاد تكون مرضية .. هو لم يتعلق بمريض هكذا من قبل ، ولم يعد لتوصية صهره ولا تحدياته دخل بما يقوم به الآن .. إنه لأول مرة في حياته العملية ، يترك عيادته ، ويزور بيت المريض بنفسه ، يقبل دعوته على عشاء عائلي يجمع الأسرتين ، ويظل يراقب التفاصيل الدقيقة .. كل ما يدور حوله في منتهى الرقة واللباقة والانسجام ..

يتعمد الذهاب لزيارته في وقت لا يكون فيه موجودا بالبيت ويجمع تفاصيل أخرى من زوجته نادية بمعزل عن ابنتيها ، ثم يستمع إلى الطفلتين بهدوء وصبر !!

إنه لم يعد يعالج إبراهيم .. إبراهيم لم يعد مجرد حالة عنده .. وإنما أصبح يقترب من نفسه هو .. إنه كلما وضع يده على التفاصيل .. يشعر كأنه بدأ يتوحد مع مريضه ..

فأم إبراهيم كأمه هو شخصيا ، ونادية تلك الزوجة الفاتنة الرقيقة الرائعة في كل شيء .. تحب زوجها حبا جارفا ، وهي في حبها الجارف الذي يكاد يصنع لزوجها أسطورة الكمال في نظرها ، لا تحتمل منه خطأ أو هفوة ، فهي دائمة التوجيه له ..

هي لا تأمره ، ولا تنهاه ..

هي فقط تمسك بيده قبل أن يتعثر ..

تسأله عن خطوته الماضية لا شكا فيه ولا في حسن تصرفه ، ولكن خوفا من أن يكون أخطأ الحكم أو التقدير ، وتسأله عن خطوته القادمة ، كأنها تلحق به قبل أن يسقط في هاوية ..

وزوجها قديس وليس بشر عادي .. هي تراه كذلك ، وتحبه على هذه الصورة ، ولذا يجب أن يكون كل ما يصدر عنه فوق حدود الكمال !

يجب ألا يصدر منه ما يعكر هذا الكمال !!

يجب ألا يغضب أو يثور ، وإذا غضب يجب أن تظل مشاعره تحت السيطرة ..

يجب ألا يسرف ، وألا يكون بخيلا ،

وألا يتأخر عن موعد عودته للبيت ، وألا يقصر أدنى تقصير في عمله ،

وألا يمرض أو يتعب .. هو أكبر حتى من أن يمرض تلك الأمراض العادية التي يعاني منها البشر !!

لقد أحاطت نادية زوجها إبراهيم بهالة من الرعاية والعناية والحماية .. لم تشعر يوما بتسلطها عليه .. ولم يظهر لها إبراهيم أبدا تبرمه بكم التوجيهات التي يتلقاها كل يوم .. ولا ضيقه الذي يصل إلى حد الخوف الذي أصبح يلازمه كل يوم وهو عائد إلى البيت ، منتظرا منها التقريع على ذنب اقترفه أم لم يقترفه .. إنه كان يتقبل هذا من أمه لأنها كانت بالنسبة له النموذج الكامل الذي لا يخطئ أبدا .. لكنه لا يمكن أن يقبل هذا دائما من زوجته نادية .. يريد ان يشعر ببشريته ، يحتاج إلى حرية الخطأ ! .. يريد أن يتحرر من هذا الشعور الدائم بأنه على وشك تلقي العقاب !!

كلما عاد على منزله ولم يتلق كلمة لوم على تأخير يخشى أن يكون قد تأخره دون أن يدري ، وكلما عاد بحاجة من حاجات البيت اشتراها ولم تلفت نظره إلى أنها أغلى سعرا مما يجب ، أو أقل جودة مما يحضره الآخرون ، يحمد الله كثيرا على أنه نجا من التقريع ، لكنه رغم ذلك لا يأمن أن يأتيه اللوم بعد ذلك على كلمة قد ينطق بها عفوا دون قصد منه !!

 هو لم يتمرد على أسلوب نادية معه ، ولكنه أصبح يرى فيها سطوة أمه ، فأصبح يراها أيضا كأمه فوق البشر ، وعندما يلتقيان آخر الليل كان يرى في ملاكه الحارس وجه أمه !!

ولم تكن نتيجة هذا الاكتشاف الذي اكتشفه الدكتور إيهاب ذات تأثير على حالة إبراهيم ، فهو لم يتأثر أبدا بنتيجة اكتشافات الدكتور للتفاصيل الدقيقة ، لأنه لم يتسنى له لقاءه بعد ذلك أبدا ليصف له العلاج ..

لقد اختفى الدكتور إيهاب .. هجر الجامعة ، وعيادته ، وزوجته وبيته .. واختفى عن المجتمع الذي يعرفه ، وكأنه لم يكن له وجود من قبل !!

الحدس وحده هو الذي قاد إبراهيم ليراه من بعد ، بعد سنتين من اختفائه .. لم ير إبراهيم الدكتور إيهاب على وجه التحديد ، وإنما رأى مجذوبا وجهه يشبه الدكتور إيهاب تمام الشبه ، يرتدي الثياب البالية وقد أطال شعره وأطلق لحيته ، وأمسك بيمينه بمبخرة كبيرة ، وبيسراه بمسبحة طويلة كثيرة الحبات !!