التائبة
بقلم : غرناطة الطنطاوي
- يا ويلي ماذا فعلت بنفسي؟ كيف غرّني الشيطان، وأدرجني في مدارج الهلاك؟ أأكون قد خرجت من دين الإسلام؟
يا مصيبتاه.. أيغفر الله لي هذا الذنب؟..
أخذت المرأة تلطم وجهها وتشقّ ثوبها توبة وندماً، وتعضّ أصابع يديها حتى أدمتها.. تتمنّى لو أنّ الأرض انشقّت وابتلعتها، قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه..
ولكن هيهات.. هيهات.. فالذي حدث قد حدث.. فعجلة الزمن تدور إلى الأمام، تطحن من يقف في طريقها، ولا تعود إلى الوراء، لرغبة هذا أو ذاك.
فكرت كثيراً إلى من تلجأ، ولا ملجأ من الله إلا إليه، ولكن لا ضير لو استشارت إحدى صديقاتها القريبات منها عسى أن تجد عندهن راحة الضمير.
أرسلت إلى صديقتها آمنة المقرّبة إليها.. وجاءت آمنة على عجل، فرأتها في حالة يرثى لها.. شعرها مشعث.. ونظراتها زائغة.. ترفع يديها إلى السماء، وتتمتم بكلمات مبهمة..
أقبلت الصديقة نحوها بلهفة، وسألتها عن حالتها.. فردّت عليها بانكسار:
- تعلمين يا صديقتي حبي لإسلامي وإخلاصي له..
سرحت الصديقة قليلاً تتذكر كيف دخلت صديقتها هذه في الإسلام،وكيف أقبلت عليها بلهفة وسعادة تحدثها عن الإسلام العظيم، وعن الراحة النفسية، والطمأنينة القلبية التي صارت تشعر بها منذ دخولها في الإسلام..
خرج صوت المرأة كأنه من كهف عميق:
- لقد وقعت في الإثم، ولا أدري كيف أكفّر عنه.. منذ أربعة أشهر لا أعرف طعم الراحة والنوم.. أقوم طوال الليل أصلي حتى تورمت قدماي.. ولكن قلبي يحدثني أن الله غير راضٍ عني.
نطقت الصديقة بصعوبة:
- ما هو هذا الإثم العظيم الذي تكادين تموتين كمداً بسببه؟
- إنه إثم لا يغتفر.. إنه.. الزنى.. نعم الزنى.. أنا أعرف أنها كلمة جارحة تأنف الآذان سماعها.. ولكن لا أدري كيف طاوعت شيطاني وهويت إلى هذا الوادي السحيق..
ظهرت تعبيرات الاشمئزاز على وجه صديقتها آمنة ولكن ما لبثت أن تحولت إلى حزن عميق على حال صديقتها التائبة.. ثم قالت:
- هوّني عليك، إنك بما تشعرين به من ندم واستغفار صادقين، سوف يغفر الله لك، فكل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون.
تمنّت المرأة أن تركن إلى كلام صديقتها، وأن تشعر براحة الضمير فتريح نفسها، ولكنها في قرارة نفسها تشعر وكأنها تكذب على نفسها، وتكذب على الله.. لا.. ليس هذا هو الحل..
همّت صديقتها بالكلام، فنظرت إليها تستجديها الحل:
- يا صديقتي لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أيام معدودة، أنّ الرجم هو الكفّارة الوحيدة لذنبك.. وهذه عقوبة شديدة ولكنها من الله نزلت وعلينا الطاعة.
سرحت المرأة وفكّرت بكلام صديقتها، ثم تذكرت شيئاً مهماً.. فتحسست بطنها المنفوخ وقالت:
- وماذا عن بطني هذا والذي فيه؟..
قالت آمنة:
- اذهبي إلى رسول الله e وأخبريه، قد يستغفر لك الله..
- نعم إنَّ هذا هو الحل الوحيد، وقد راودني هذا الحل أكثر من مّرة، وهممت بالذهاب إلى رسول الله r.. ولكن الحياء منه منعني..
وفجأة انتفضت المرأة واقفة، وأحكمت حجابها، وذهبت مسرعة إلى رسول الله، متحدّية شيطانها الذي يلاحقها ويوسوس لها:
- الفضيحة.. ألا تخافين الفضيحة بين الناس.. ألا تخافين الرجم.. إنه الموت.. ارجعي إلى بيتك ولا تتهوري. عجباً لك..
ولكن المرأة تابعت طريقها بإيمان قوي وإصرار على تكفير ذنبها، والتقرّب إلى الله زلفى، مهما يكن الثمن.
وصلت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهثة مكدودة الجسم والفكر، منهكة الأعصاب، والعرق يتصبّب منها درراً، تقدّمت منه على استحياء .. وقفت .. سلّمت عليه في أدب جمّ، وهي مطرقة إلى الأرض، وأخبرته بحياء بما فعلت، وأسلمت أمرها إلى الله ورسوله..
أطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الأرض في ذهول، وأغمض عينيه، غضباً لهذا الذنب العظيم، وإعجاباً بتوبة هذه المرأة.
قالت المرأة التائبة :
- يا رسول الله.. أنا أعلم أن عقوبة الزنى الرجم، وأنا مستعدة لهذه العقوبة، ولكن ولدي في بطني هنا.. ماذا أفعل به؟..
فاضت الرحمات في النفس الكبيرة، على هذه المرأة التائبة، وعلى الجنين في بطنها، وهو بريء، لم يرتكب ذنباً، ولم يقترف إثماً، حتى يقام عليه أيُّ حدّ ..أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأخير الرجم حتى تضع التائبة الحبلى مولودها، وأمرها أن تعود إلى بيتها ..
عادت المرأة إلى بيتها مرتاحة البال من تأنيب الضمير.. وأخذت تنتظر ولادتها بفارغ الصبر.. لتنفذ حُكْمَ الله فيها..
بعد أشهر معدودة وضعت المرأة مولوداً جميلاً هزّ عاطفتها، واستثار أمومتها، فأجهشت بالبكاء.. لمن تترك ولدها هذا بعد أن تسلم نفسها للرجم والموت..
وهنا صال الشيطان وجال، وهوّن عليها جُرمها، وخوّفها من مصير ابنها بعدها.. مَنْ سيرضعه.. من سيربيّه.. من ومن..
ولكن إيمانها القوي، ورضاها بما قسمه الله لها، أبى عليها أن تسمع لوسواس الشيطان.
حملت وليدها وذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له:
- يا رسول الله هذا ولدي قد ولدته.. فأنا مستعدّة لتنفيذ حكم الله بي..
نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأثّر شديد إلى المرأة التائبة وابنها.. ثم أخّر الرجم مرة أخرى، حتى ترضع طفلها عامين، ثم تعود فترجم..
ضمّت المرأة وليدها إلى صدرها بحنان غامر، وقلبها يلهج بالشكر لرسول الله r والثناء عليه فقد أتاح لها إرضاع وليدها.. وتأجيل تنفيذ حكم الله بها حتى تنتهي الرضاعة..
مضت الأيام بسرعة، وذهب العام وجاء العام الآخر، وما درت كيف انصرم هذا العام الثاني، وجاء اليوم الموعود..
قامت المرأة بحزم أمتعة ابنها، ولبست جلباباً وسروالاً.. وشدّت عليها ملابسها بإحكام، حتى لا تتكشّف أمام الرجال أثناء الرجم.. ثم ذهبت بولدها، إلى بيت معروف بالبرّ والإحسان، وقدّمت لهم ولدها عن طيب خاطر ليربّوه تربية حسنة.. ثم عادت وضمّت وليدها بقوّة، وأمطرته دموعاً وقبلات من رأسه إلى أخمص قدميه، وولدها يمسح بيده الصغيرة وجهها وشعرها.. كأنه شعر بأن هذه اللحظات، هي آخر عهده بأمه وحنانها..
ثم انتزعت نفسها من ابنها انتزاعاً، وذهبت إلى رسول الله تتعثّر في مشيتها وهي تنظر إلى الوراء، إلى فلذة كبدها وتقول:
- الله ورسوله أحبُّ إليّ منك يا ولدي.. الله ورسوله أحبّ إليّ منك يا ولدي..
لقد تابت توبة لو وُزِّعتْ على أهل الأرض لوسعتْهم .