أهل كهف القرن العشرين
أوراق من دفاتر المخابرات
الطاهر إبراهيم*
بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاما على اعتقال ابنه،أعلن العجوز المقهور "أبو صالح" عن يأسه من بقاء ابنه الوحيد صالح على قيد الحياة، بعد أن أطلق سراح الكثير من المعتقلين السياسيين على فترات متباعدة، وقد سأل الكثيرين منهم عن ابنه فلم يسمع جوابا من أي واحد منهم يؤكد أنه التقى به ،ومنهم من كان يعرف ابنه قبل الاعتقال. وقد شمل السؤال نزلاء جميع السجون السياسية السورية وما أكثرها،وكان النفي هو القاسم المشترك لكل من سئل عن معرفته بمكان وجود صالح.
وكان أول شيء فعله أبو صالح هو عقد مجلس للأسرة ضم زوجة صالح وأمه، أعلن فيه عن قراره باعتبار صالح في حكم الميت، بل هو ميت فعلا، ووجه كلامه إلى كنته فاطمة قائلا لها: أن بإمكانها ،بعد جلوسها للعدة، أن تتزوج ولا حرج، الأمر الذي رفضته فاطمة بشدة، وأنها ستحبس نفسها على تربية ابنها وابنتها ، سيما وأن ابنها "محمود" على أبواب امتحان الثانوية، وابنتها"علا"التي ولدتها بعد اعتقال أبيها تحضر لامتحان شهادة "البريفيه".
وكانت الخطوة الثانية هي إعلان أبي صالح عن فتح مجلس العزاء لإشهار وفاة ابنه. وقد توافد أهل الحي ومعارف الأسرة من كل أحياء حلب لتقديم واجب العزاء بما تقتضيه عادة الناس في مثل تلك المناسبة.
وكان ممن حضر مجلس العزاء رفاق صالح من المهندسين الذين تخرجوا معه من كلية الهندسة، أو من زملائه في العمل، كان من أخصهم خالد وحسن وهما من أعز رفاقه في الكلية، بل كانا معه دائما في فرقة واحدة أثناء عمل المشاريع التي أنجزوها خلال السنة الأخيرة من الدراسة الجامعية، وخصوصا مشروع التخرج الذي نالوا عليه أعلى درجة نالتها الفرق المتخرجة في ذلك العام.
وبعد ستة أشهر من قيام مجلس العزاء اتصل المهندس حسن بزميله المهندس خالد، ليزف إليه خبرا كاد يصعقه لشدة غرابته، وهو أنه ذاهب اليوم ليهنئ زميله أبا محمود وأهله بخروجه من السجن، ويسأل خالدا إن كان سيرافقه إلى هناك.ولأن الخبر كان من الصعب تصديقه، فقد سأل خالد صديقه حسن عن أي أبي محمود يتكلم؟. وبين مصدق ومكذب علم خالد أن صديقه (الحي الميت) صالح قد ردت إليه روحه وعاد حيا بين الأحياء،وهو يتقبل التهاني في بيت أبيه محمود صالح.
ولم ينتظر الصديقان أياما وليالي ليذهبا لرؤية صديقهما أبي محمود، فقد سارعا من ليلتهما تلك إلى دار صالح حيث عانقاه وذرفا دموع الفرح، ثم جلسا عن يمينه وشماله في صالة الضيوف الواسعة في بيت والده في حي "الكلاسة" الشهير،وقد ازدحمت الصالة بالمهنئين، وأصوات الزغاريد تنطلق من جناح النساء. وما هي إلا ساعة حتى أفسح الحضور وسط الصالة، وبدأ أهل الحي بإدخال أطباق الطعام المتنوعة مشاركة منهم لجارهم أبي صالح بالفرحة الكبيرة، وهذه عادة كريمة مازال المجتمع السوري محافظا على تقاليدها، رغم ضيق العيش الذي أصاب السوريين خلال ثلاثة عقود مضت.
طالت السهرة بالأصدقاء الثلاثة، بعد أن انفض المهنئون، وكأن خالد وحسن لا يريدان أن يغادرا حتى يسمعا من صالح سبب انقطاع أخباره، حتى عد بين الأموات،واعتدت زوجته عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام. وكان مما قاله صالح لصاحبيه:
تعلمون يا أحبائي أن نقابة المهندسين دعت إلى الاعتصام في مبنى النقابة في صبيحة يوم 31 آذار1981احتجاجا على القمع الإرهابي الذي تمارسه أجهزة أمن السلطة والاستمرار في حكم البلد بقانون الطوارئ و..،إلى آخر القائمة التي تتذكرونها كما وردت في بيان النقابات المهنية. وقد سهرنا حتى ساعة متأخرة من ليلة 30 آذار مع أعضاء الإدارة في النقابة. وعندما خرجت متوجها إلى بيتي عبر سيارة أجرة لاحظت أن سيارة كانت متوقفة أمام مبنى النقابة قد تبعتنا إلى أن وصلت إلى البيت فدخلته وأنا أتعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن. وقبيل أذان الفجر سمعت قرعا عنيفا على باب الدار، فخرجت أستطلع من يكون هذا الطارق المزعج؟ ولم أكد أفتح حتى دفع الباب ودفعت عنه بقوة وامتلأت ساحة الدار بأكثر من عشرة من العناصر المسلحين، اقتادوني فورا دون أن يسمحوا لي بارتداء ثيابي حيث كنت ما زلت ألبس بيجاما النوم. ولم أكن أعلم أنه قد سبقني إلى ضيافة أجهزة الأمن أعضاء إدارات النقابات المهنية( المهندسون، المحامون،الصيادلة، الأطباء..) بعد أحيط بهم فباتوا ليلتهم تلك في سجون المخابرات، حيث تم اعتقالهم جميعا من بيوتهم قبل تنفيذ الاعتصام الذي أشرت إليه آنفا.
عصب عناصرالمخابرات عيني ووضعوا القيد في يدي ورجلي،حملوني في سيارة سارت بي إلى حيث لا أدري. غير أن طول الطريق رجح لدي أنهم ذاهبون بي إلى دمشق عاصمة الأمويين، التي كان مشروع تخرجنا كما تعلمون هو دراسة الطراز المعماري الفريد من نوعه لجامع الأمويين كما بناه المهندسون في عهد الوليد بن عبد الملك.
وقد علمت من بعض الكلمات المتناثرة من أفواه العساكر أني موجود في سجن "الشيخ حسن"، فقلت في نفسي يالها من مفارقة عجيبة، أن يجعلوا من اسم الرجل الصالح، ولا بد أنه كان كذلك وإلا لما سمي الشيخ حسن، عنوانا لهذا السجن الرهيب الذي قضيت فيه كما علمت في ما بعد خمسة عشر عاما،في زنزانة لا أرى من البشر إلا سجانين عبوسين.
ولأني سأوفر عليكما بعض الأسئلة التي تدور في رأسيكما، فقد كنت لا أخرج من الزنزانة إلا في رحلة الصباح والمساء إلى دورة المياه، وعلي أن أتدبر أموري حتى لا أحتاج إلى رحلة إضافية، لأن ذلك سوف يعرضني إلى ما أنا في غنى عنه من شتم وضرب وبذيء كلام.
لم أكن أظن أن السجن سيطول بي إذ أن تهمتي هي المشاركة في اعتصام وهو أمر مشروع في قوانين دول العالم كلها خصوصا أن التي دعت إليه نقابة معترف بها، وفي نظامها الداخلي ما يسمح لها بذلك.
ولأني لم أطلع على الأساليب التي عومل بها غيري من المعتقلين، فقد ظننت أني صورة متكررة لغيري من المعتقلين، وهي كذلك فعلا إلا في مفارقتين شعرت بهما من خلال المقارنة بين ما كنت فيه، وما مر على غيري من عباد الله المعتقلين في السجون الأخرى الموزعة على محافظات القطر.
المفارقة الأولى، في عمليات التعذيب، فلم أتعرض لها إلا في الأسبوع الأول من اعتقالي، ثم غدوت قطعة من المشهد العام للسجن، مثلي مثل الحرس الذي يتناوب على مرافقتي إلى دورة المياه، أو الذي كان يحضر الطعام، وهو ما لا يتناسب أبدا مع ما جرى لمعتقلي سجن تدمر الرهيب كما عرفت ممن جاء لتهنئتي من خريجي "باستيل القرن العشرين"، أومما قرأت في كتاب"تدمر شاهد ومشهود"،لأحد المعتقلين الأردنيين الذي حل ضيفا على سجن تدمر لمدة عشرة أعوام تقريبا، وهذه المفارقة لم أحاول أن أجد لها تعليلا، وحمدت الله أن الأمور كانت بهذا القدر.
أما المفارقة الثانية، فهي هذا التعتيم الذي عشت فيه كمعتقل، لا يزوره أحد ولا يرى أحدا غير من ذكرت في صورة المشهد العام للمعتقل. وهذه القضية شغلت بالي في الأشهر الأولى من اعتقالي، حيث كنت أعلم قبل الاعتقال أن هناك زيارات للأهل، أو على الأقل إرسال حوائج لا بد من الحاجة لها في المعتقل مثل الثياب وغيرها مما يحتاجه الإنسان في حياته. وقد بقيت عدة شهور وأنا أظن أن هناك خطأ أولبس في الموضوع، بحيث ربما ظن أولو الأمر أني مشترك في محاولة انقلابية، وهذا الأمر سرعان ما تلاشى لأني لم أتعرض لأي تحقيق يدل على شيء من هذا القبيل، ومع مرور الزمن تعايشت مع واقع هذا الحال، إلا في قضية واجهتني استطعت بفضل من الله أن أجد لها حلا.
فقد ذكرت لكم أنهم أخذوني من البيت وأنا في لباس "بيجاما" النوم، وبعد مضي ما يقارب السنة بدأت بعض أجزائها تتمزق، ولم يكن لدي إبرة أو خيط لأرتق ما تمزق منها. وقد أخذ الأمر حيزا من تفكيري بدأ يكبر ويتسع حتى أصبح شغلي الشاغل، كيف أجد مخرجا؟ وقد لفت انتباهي وأنا ذاهب إلى دورة المياه غطاء علبة سردين تناولته في غفلة عن عين مرافقي. بعدها بدأت أبحث عما أحد فيه هذا الغطاء أو حتى عمل ثقب فيه حتى وجدته في قطعة زجاج صغيرة أخذتها وكأنها ضالة "أرخميدس". وبعد مسيرة أربعة أشهر، استطعت فيها جعل غطاء علبة السردين يشبه مسلة أو إبرة سمها ما شئت، وكان ثَقْب هذه المسلة الإبرة أصعب المعضلتين، حتى وصلت إلى ما أريد. وهكذا كنت أسل خيوط البطانية التي أتغطى بها وقت النوم وأخيط بها ما تمزق، وعندما كان الأمر يصل إلى حد اهتراء جزء من "البيجاما"، كنت أقوم بعمل حياكة للجزء المهترئ، حتى جاء وقت ذهبت فيه خيوط البيجاما وبقيت خيوط البطانية. بعدها قمت بخياطة "مشلح" من إحدى البطانيات، كنت أرتديه في الشتاء ليلا ونهارا. بعدها صرت أستعمل ما تبقى من قطعة الزجاج كمقص أقص فيه أجزاء من البطانيات أفصل بنطالا أو سترة حسب الرغبة وما تقتضيه الحاجة، حتى جاء الفرج وأخلي سبيلي.
كانت المنغصات كثيرة أثناء وجودي في المعتقل، وأهمها كان انشغال بالي على أهلي ( أبي وأمي وزوجتي وابني محمود)، وكانت سلوتي في مصحفٍ وجدته في الزنزانة التي حللت فيها خلفا لمعتقل آخر لم يجد ما يقدمه لي إلا هذا المصحف، ولقد كانت لعمر الله أغلىهدية قدمت لي في حياتي.وعندما حل علي أول رمضان قضيته في السجن استجاشت بي العبرات، وشعرت بالألم يعتصر فؤادي لما كان يمثله لي هذا الشهر من ذكريات. بل إن صوت المؤذن يرفعه أثناء إقامة صلاة التراويح، كان يثير في نفسي ذكريات مرافقتي لأبي إلى مسجد حينا لصلاة التراويح.
الأحداث كثيرة والعبر متنوعة، وسأختم بخاتمة أحزاني، عندما فوجئت بضابط يدخل علي وقد رسم على وجهه ابتسامة عريضة، وبشرني بإطلاق سراحي،وسلمني "بيجاما رياضية" وبدلا داخليا ودفع لي 200ليرة سورية، وأقلتني سيارة إلى كراج العباسية لانطلاق الباصات في دمشق . ولأن منظري سيبدو غريبا إذا صعدت إلى الباص وأنا أرتدي بيجاما رياضية، فقد تلفت حولي أبحث عن سيارة تاكسي تأخذني. ولم يطل بي الأمر فقد وجدت ضالتي في سيارة أجرة حيث عرف السائق أني متوجه إلى حلب، ولأني لا أريد أن أحرج نفسي، فقد استوضحت منه عن الأجرة، فقال إذا كنت لوحدك فسأكتفي ب1500 ليرة سورية،ولما قرأ على وجهي منظر الاستغراب، خصوصا وأنا أرتدي بيجاما رياضية، سألني قائلا: الأستاذ من سورية؟ فقلت له إني حلبي من "فسط حلب"(1)، خرجت لتوي من السجن بعد أن قضيت فيه خمسة عشر عاما، وعندما دخلت السجن كانت أجرة السيارة "سكارسا"(2) إلى حلب لا تتجاوز 150 ليرة سورية. فصدر عنه صفير تعجب وقال يعني أنت من أهل الكهف؟!! اصعد وسأحملك إلى أهلك بدون مقابل. وهكذا كان.
(1)تعبير حلبي يعني أنه من وسط حلب
(2)أي السيارة توصله وحده
*عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام