تأمّل في الطبيعة... ثمَّ
قصة: نعماء المجذوب
إحساس غامض تسلل في كيانها، وتلجلج في خفاء.. أصابتها رعشة حين حدثتها نفسها، بأن موقفاً صعباً قد تواجهه اليوم.. أفرغت حقيبة يدها، وأبقت القليل من النقود فيها.. آثرت المشي؛ رياضتها المفضّلة، وهي تردّد مع كل خطوة: "يا حافظ، يا أمين".
توقفت برهة عند المفترق، نظرت أيّ الطريقين تختار؛ طريق اليمين قصير، يطلّ على مناظر خلاّبة.
ولكنّه ترابيّ. وطريق الشمال طويل، سهل، ولكنّه مزدحم بالمارّة.. فآثرت اليمين.
كانت تسير بمحاذاة حقل القمح، ووهج شمس الضحى يزيد سنابله تألقاً، ونسمات الربيع تمرّ بينها، فتتمايل رؤوسها برقة، وتبدو للرائي كسطح بحر يكسره تموجات الهواء، ومن خلالها تبرز زهور شقائق النعمان بجراءة، ونبات البابونج يتغلغل بين سيقان السنابل، ملتفاً حولها.
كانت الصلة قد توثقت بين الألوان، والضوء، ازدانت بها الطبيعة، وألقت عليها جمالاً، وبهاء، تلك واحدة من معجزات الله الباهرة، وقدرته، وبديع صنعه، وخلقه.. وترددت الآية الكريمة في ذهنها: (ألم تَرَ أنّ الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمراتٍ مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود).
الألوان تتماوج أمامها، بين صفرة السنابل، وحَمرة الشقائق، وزرقة أزهار أخرى، وخضرة الشجر.. كما التلال المتناثرة حول الحقل بألوان، وأشكال.. تجعل القلب يدرك كيف يزين الله الزهر، والثمر، والجبال، والناس، والدواب، بمختلف الألوان.
لفت نظرها في جانب الطريق الترابيّ حزمة من السنابل، متقاربة جداً، كأنها قد فرّت خلسة، واجتمعت تتوشوش بأسرارها، مدّت يدها لتنسل واحدة مثقلة بحملها، فمنعها خاطر، يقول لها:
- لا تشتتي البنات، دعيهنّ في همساتهنّ، وحلو أحاديثهنّ.
فارتدّت كفّها إلى جنبها بخواء.
كانت تتأمل الأشياء بخشوع واع، ويأخذها العجب، فالتربة واحدة، والماء واحد، ونسل البنات مختلف.. فتسبّح الله الخالق.
لحقتها فراشتان رقيقتان، تهفهفان كالنسمات، تتعانقان تارة، وتفترقان تارة أخرى، وقد تحومان حولها تداعبانها، وتنسابان بخفة أمام وجهها، ثم تجريان بعيداً، وما تلبثان أن تعودا إليها.
دغدغ منظرهما أحلامها، وآمالها، وهمست بكلمات تاهت في سفر بعيد:
فراشتي هفهفي، سلاماً حالماً من مهجتي
لابنتي، حبيبتي، البعيدة في الغربة
والثمي ثغرها، والمسي شعرها
وزغردي في سمعها، واهمسي في سرّها
وقولي بأنني في بعدها
أتوق لضمّها.. فغربتي
طالت، طالت.. فمتى أحبتي نلتقي؟
برغم الأحلام، وسكرة الآمال، ظلّ الإحساس الخفيّ الذي راودها منذ البداية، يزاحم المشاعر الجيّاشة، فتنشد على الحقيبة، وما تدري، ألشرٍّ سيحصل، أم هو الوهم والحذر؟.. حاولت أن تهتدي إلى إجابة مقنعة.. فلما عجزت، تركت الأمر للظروف، وركزت انتباهها على حقل السنابل.. حدثت نفسها فيما لو قطفت من هذه الأزهار، ووضعتها في مزهرية في البيت، هل تبقى محافظة على روعة الجمال المبعثر في أرجاء الطبيعة، وعلى سفوح التلال؟
كانت تفكر، وتتصور، وهي تسير على جانب الطريق المشرف على حافة الحقل، وتسبّح الخالق بديع السماوات، والأرض، ولم يزل إحساسها الخفي يزاحم عبير الزهور، ورقة النسيم، وجمال الألوان، ورفيف الفراشات، ويدها تضغط على الزناد.. ضحكت من الهاجس الذي اعتراها، أيّ زناد هذا؟.. إنه مجرد ضغط على حزام الحقيبة..
كانت تنظر إلى الأشياء ببصر عينها، وببصيرة قلبها، وعقلها، وتقارن وتفاضل بين الألوان في مخيلتها، وتعبر بكلمات وصور، فلكل لون معنى، وفكرة، تتمثلهما نفسها، تنظر إليها مبعثراً في الطبيعة، تجذبها الزهرة البيضاء، المصاحبة للنور، والصفاء، تراها في طهارة النفس، ونقائها من الأدناس، فيسري إلى نفسها مرح، وبهجة، وتردد قول الله تعالى:
(... وأما الذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون)..
وبحيرة تتساءل:
- لماذا يجعل الكثير من الناس من اللون الأبيض رمزاً للحزن، ويلبسون الثياب البيض أيام حدادهم؟
وخطر في ذاكرتها قول الشاعر:
ألم ترني لبست بياض شيبي لأني قد حزنت على شبابي
فهل ارتدت الوردة بياضاً حزناً على شبابها، الذي سيفنى قريباً؟
انتقل نظرها إلى وردة زرقاء، كلون السماء إثر الغروب، انتابتها كآبة، حين تذكرت لون الموت، والمرض، والحزن، فارتدّ بصرها عنها.
تقاطرت عليها الأفكار، وعقدت الصلة بين الألوان والنفس، وهي تلامس بعينيها ألوان الورود المختلفة، وجاشت مشاعرها وهي تتأمل شقائق النعمان، حمرتها أثارت الحياة في نفسها، ابتسمت وهي تقول: ألا يولّد الفرحُ، والنعمة، والصحة حمرة لون الإنسان؟.. وما لبثت أن انهمرت الدموع من عينيها حينما تذكرت الدماء في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، تهدر ظلماً في حرب، وقتال.
الطريق لم تزل خالية، وهي تتأمل الأشياء من حولها، وتذوب في كل شيء، وتعقد الصلة بين الأرض والسماء، وتحلق بخيالها بعيداً، فوق الشمس والقمر، وتستقر بمشاعرها، وبصيرتها عند جنة الخلد، حيث لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.. كان الخيال أسرع من البرق، وقدماها لا تزالان ملتصقتين بأديم الأرض.. أحسّت بالانتشاء، كأن الكون عالمها وحدها، تحلق فيه بلا جناح، وتنتشي بلا عطر، وتجول في جنان، وأنهار.. ويكنفها الأمان، والسلام، وبتعجب تقول:
أي سرّ هذا الذي يسري في سرّي؟!..
لملمت الوجود كله في صدرها، وملكته في خاطرها.
ويشدّها النظر إلى اصفرار نوع من الورود، يلمّح إلى تبدل حال الحياة إلى حال أخرى، والتهيؤ إلى الزوال، والفناء، والاضمحلال، ضاق صدرها حين خطر في ذهنها وصف القرآن الكريم جهنّم وأهوالها، في قوله تعالى:
(إنّها ترمي بشرر كالقصر، كأنه جمالة صفر).
وبتأفف قالت: تباً لهذا اللون الذي أقلق نفسي.
ثم استراحت عيناها عند الأوراق الخضر.. تفتحت نفسها إلى خصوبة الحياة، ونمائها، وبركتها، والاخضرار لون النضارة، يبعث البهجة، والفرح، ويخلو من كل الصفات، والمعاني السلبية، لقول ابن القيّم في كتابه (الطبّ النبويّ):
"أربعة تفرح: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، والمحبوب، والثمار".
ومن معانيه: النعمة، والرضا، قال تعالى:
(ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق).
فهو لون ثياب البررة، والأتقياء.
مكثت برهة تتأمل النبات، والشجر، وترتوي نفسها من السرور، وينعشها الجو برطوبته، والهدوء السائد حولها، يزيد إحساسها بمتعة التأمل.. أغمضت عينيها على شعور لذيذ في ابتهال، ومناجاة.
في هذه اللحظة الصافية، لامس سمعها همس خطوات من ورائها، وصوت يناديها.. انتفضت، والتفتت.. ركّزت نظرها على رجل أسود، نحيل، طويل الساقين، كان جميعه كحلوكة الليل في وضح النهار، يطرّي وجهه بابتسامة خبيثة، بنبرة حادّة، سألته:
- ماذا تريد؟
اقترب منها.. أدنى منها زجاجة عطر، عارية من الغلاف، يغريها بالشمّ، والشراء، وإصبعه فوق زنادها –عفواً فوق غطائها- نظرت إليه بدهشة.. تراجعت خطوة أو خطوتين، رأت في عينيه نظرات من يوشك أن ينقضّ على غريمه.. سرت رعدة في جسدها، تصورت نفسها مع وحش يتحفّز للانقضاض عليها، بحيث يلقيها في حافة الحقل المنخفضة بين الأشواك، والصخور.
ملأ الغضب نفسها، وحفّزها، وزاد من نشاطها، وزوّدها بقوة، وجراءة، جعلها تفكر في طريقة تمكنها من الهرب، وبصوت حادّ قالت له:
- ابتعد عني.. ألا تراني امرأة محجّبة، ما ينبغي أن أتعطّر في الطريق؟
- انظر إلى هذه البنايات على سفوح التلال، هنالك من يشتري.
أرادت بقولها أن تحوّل نظره عنها، قبل أن يضغط على زناد القارورة.. استدار، فجرت بسرعة مذهلة إلى الجانب الآخر من الطريق.. لاحت منها نظرة خاطفة إلى الخلف، فلم تجد له أثراً.. تسمّرت في مكانها، جالت عيناها في الأمكنة، وبين الأشياء.. وبحيرة تساءلت:
- أين اختفى هذا اللعين مع قارورته.. أين هو.. من هذا الذي رافقها منذ خروجها من البيت دون أن تراه.. ثم ليظهر فجأة، ويختفي بلمح البصر؟!!
أدركت بأن عناية الله كانت ترعاها.. تابعت سيرها بخطى الواثق، المؤمن بالله، وفي صدرها صوت يردد بإيمان، وخشوع:
- (يا حافظ، يا أمين) ضمتها مع بعض المأثورات.