زاذان
زاذان
قصة : غرناطة الطنطاوي
اقترب المساء وئيداً، وجنحت الشمس إلى مغيبها بعد نهار طويل حار، أرسلت فيه سياطاً من لهب على عباد الله، الذين هربوا من شواظها إلى أعراش نخيلهم الوارفة... وأخذوا يرشّون أرضهم برذاذ الماء لتشيع الرطوبة في أجسامهم وحلوقهم الملتهبة..
بدأ الصحب يتوافدون إلى نخيل متطرف من المدينة، هذا يحمل عوداً، وذاك يتأبط مزماراً، وآخر ينقر على دفّه وهو يسير الهوينى.
ازدحم المكان بالأصحاب، وأخذ كل واحد منهم مكانه الذي تعوّده، وقام الخادم يرشّ ماء الزهر عليهم، ثم أشعل عود بخور، وأخذ يتجوّل به من مكان إلى مكان، فعبق النخيل برائحة شذيّة ناعشة، داعبت الأنوف، وهيّجت العواطف المتأججة... صاح أحدهم مترنحاً:
- يا سلام هذا هو نعيم الدنيا، ماء دافئ ، وخضرة ناضرة ، وصوت حسن .
فتبعثرت القهقهات، وانطلقت الفكاهات على سجيّتها، وتهادت دندنات عود عذبة، ونقرات على الدفّ تعلو وتهبط، ولحن شجيّ من مزمار حزين يحرّك كوامن النفس ويهدهدها...
تعالت أصوات مستنكرة:
- تأخّر شيخ الطرب، فمجلس الشراب والغناء لا يكتمل إلاّ بوجوده، ماذا حدث؟ لعلّه لحن جديد يصوغه الآن ليمتعنا به... ياله من بلبل غرّيد... إنّه يملك حنجرة كحجر كريم يزداد مع الأيام صقلاً وتوهجاً.. أين أنت يا زاذان؟..
ترامى صوت من بعيد عذباً رقراقاً منساباً كانسياب الجدول بين الحقول:
- تأخرت عليكم وما تأخرت لشيء قليل... إنّه لحن عظيم سهرت عليه ليلي كلَّه ومعظم نهاري، لأتحفكم به ونسهر الليلة حتى الصباح على أنغامه..
تهافت عليه الأصحاب كتهافت الصّبيان على قصعة حلوى ، وحملوه على أكتافهم حتى أجلسوه في مكانه المعلوم ، وهرول الخادم إليه ليبخّره ويسكب عليه ماء الزهر المنعش ، وقدّم له آخرون كأس شراب مترعة فشربها حتى الثمالة، وشرب الجمع معه، وهم يحملقون في وجهه يحثّونه على الغناء... أخذت حنجرة زاذان تتذبذب وتتقصع على أنغام عوده العذبة... فتعالت الآهات والتنهدات وتمايلت الرؤوس طرباً ونشوة.
ولأمر يريده الله، اقترب الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من هذا المكان يريد صديقاً له في طرف الكوفة.. فتهادى إلى مسمعه صوت زاذان تحمله نسمات الليل البليلة، أصاخ السمع جيّداً ليتأكد مما سمعه، فإذا هو يسمع فسقاً ومجوناً وقد تحلّيا بصوت حسن جميل...اربدَّ وجه عبد الله واحتقن وانتفخت أوداجه... ومال بوجهه إلى صاحب له كان يسير معه قائلاً:
- ما هذا المنكر؟ أما يستحيون من الله؟..
فأجابه صاحبه بصوت هامس:
- إنه زاذان المغني المعروف ، وهؤلاء هم صحبه ، وهم يسمرون كل ليلة حتى الصباح ، ولم ينفع معهم نصح أو إرشاد.
اقترب عبد الله قليلاً من مجلس الغناء ، ووضع يده على أذنه ليسمع جيداً وبدا على محياه الاستنكار والاستمتاع في آن واحد وقال لصاحبه:
- ما أحسن هذا الصوت ! لو كان بقراءة كتاب الله تعالى كان أحسن ..
أمّن صاحبه على كلامه ، وتابعا المسير وهما يضربان كفاً بكف ، ويهزان رأسيهما أسفاً وحسرة على شباب ضائع ، وقدرات كالهباء المنثور.
في صباح اليوم التالي تعمّد صاحب عبد الله أن يقف في طريق زاذان، وينصحه للمرة الأخيرة لعلّها تصيب هذه المرة.
وعند ناحية الطريق ظهر زاذان مترنحاً تعباً ثملاً، قد انحسر عقاله وكوفيته عن رأسه، وظهر شعره أشعث، وعيناه حمراوان ناعستان، يجرّ رجليه جرّاً..
نظر إليه صاحب عبد الله بأسى ، واقترب منه وأسنده إلى يده ، وأخذ يحدّثه بحديث الأمس . وأخبره بما قاله عنه عبد الله بن مسعود ...
ما إن سمع زاذان قول عبد الله فيه وفي صوته ، حتى انتفض جسمه ، وطارت نشوة الخمر من رأسه، وقال بصوت متلجلج :
- أحقاً ما تقول ؟ أهذا ما قاله عني عبد الله الصحابي الجليل ؟... واخجلتاه ! واأسفاه !.. مما بدر منّي في أيامي الخوالي.. قُتل الإنسان ما أكفره ، يقوده شيطان لعين كأنه حيوان أعجم .
انطلق زاذان يسير وهو يكرر:
- قُتل الإنسان ما أكفره.
حتى وصل إلى بيته ، فاستقبله خادمه ببشاشة ، وكم دهش لتغيّر حال سيّده فخاطبه في إشفاق :
- سيّدي ماذا حلّ بك حتى تكلّم نفسك ؟
أخذ زاذان عوده وهشّمه تهشيماً، ثم نظر إلى خادمه نظرة غريبة حالمة وطلب منه أن يحضر الماء الساخن ليغتسل ويتوضأ ليصلي...
قفز الخادم فرحاً وعانق سيّده مهنئاً بتوبته وبتسرّب نور الإيمان إلى قلبه... ودعا له بالثبات والإيمان والطريق السوي...
كان عبد الله بن مسعود في المسجد يقرأ القرآن لتلامذته الذين تحلّقوا حوله يستضيئون بنور علمه وهديه... فلمح عن بعد رجلاً مستتراً بحائط المسجد،و متردداً بين الإقدام والإحجام... أشار عبد الله بيده الدقيقة السمراء إليه ليقترب منه... وكأنّ الرجل كان ينتظر هذه الإشارة من عبد الله، اقترب الرجل وقد جعل منديلاً في عنقه ، يشدّه كأنه رسن ليحقّر نفسه ويصغّر من شأنها ، والدموع تجري على خديه ، فاعتنقه عبد الله وأخذ يبكي معه متأثراً بحاله .
تهدّج صوت الرجل وهو ينشج، ثم استجمع نفسه وقال:
- سيّدي عبد الله أنا زاذان عبد من عباد الله المسيئين إلى جنب الله ، أعنّي على ذكر الله واستغفاره... أعنّي على شيطاني .. أعنّي على شياطين الإنس والجنّ ..
قال عبد الله والبشر يطفح من وجهه :
- أنت صاحب الصوت الحسن ، كيف لا أحبُّ مَنْ قد أحبّه الله ؟!. الصوت الحسن من نعم الله ومن أحبِّها إلى النفس البشرية ، فعلينا حفظ هذه النعمة وتوظيفها على أحسن وجوهها ، وفي طاعة الله وليس في معصيته ...
طأطأ زاذان رأسه خجلاً، ومسح دموعه بظهر كفه، والتمس مقعده قريباً من عبد الله، وأصاخ أذنه، يستمع إلى قراءة القرآن بكلّ حواسه وأحاسيسه... تنطلق به حنجرة ابن مسعود، وتتغلغل في أطواء نفسه، ليصير خلقاً جديداً، وليكون نبراساًَ لكلّ الضالين والمنحرفين عن هدي الله.