دموع لا يراها العالم

دموع لا يراها العالم

بقلم: د. ثائر دوري *

قالت له زوجته كما قالت له عشرات المرات من قبل:

- اترك هذا الهوس وانتبه لعملك لقد أصبح أولادك شباباً وهم بحاجة لكل ليرة تكسبها من المحل.

لكنه استعطفها قائلاً:

- راح الكثير ولم يبق إلا القليل.

وبدأ يشرح لها ميزات الانضمام إلى اتحاد الكتاب العرب. سيكون لي راتب تقاعدي وطبابة مجانية وسنحصل على حسم كبير على أسعار تذاكر الطيران على شركة الخطوط الجوية السورية عند سفرنا إلى خارج القطر، وسأحصل على ألف ليرة سورية مقابل كل قصيدة أنشرها في جريدة الاتحاد والنشر مضمونُُ عندما أكون عضواً في الاتحاد، ورجاها أن لا تدع الفرصة تضيع منه بعد أن وصلت اللقمة ..

وللانصاف إن كل ما ذكره من مكاسب مادية لم يكن يعني له شيئاً، لقد كان يرغب في الانتساب إلى اتحاد الكتاب العرب ليصبح شاعراً معترفاً به، وبالتالي يستطيع أن يلقي الشعر على منابر الاتحاد الكثيرة بعد أن يسبق اسمه تعريف (الشاعر فلان عضو اتحاد الكتاب العرب)، هل هذا الحلم البسيط كبير على مسيرة ثلاثين عاماً من مكابدة الشعر، بدأها منذ كان في المدرسة الثانوية، حيث تدفق الشعر من قريحته بعد أن أحب ابنة الجيران، فنظم قصيدة يشكو مكابدته من صدودها على البحر الطويل، الذي كان أستاذ اللغة العربية قد علمهم إياه حديثاً، ورغم أن أغلب رفاقه كانوا يكتبون الشعر مثله في هذه السن المبكرة فإنهم توقفوا عن فعل ذلك، أما هو فقد استمر مع أن الحياة لم تسانده أبداً في مسعاه هذا، إذ ترك دراسته وتطوع في المخابرات ليقضي عشرين عاماً من حياته المهنية برتبة مساعد أول في أحد فروع التحقيق، في مهنة أبعد ما تكون عن الشعر، ورغم كل ذلك استمر يكتب الشعر.

كان يستغل أية مناسبة ليعلن عن نفسه شاعراً. لقد ألقى قصائد في الأفراح وفي التعازي وعند عودة الغائبين وأثناء فراق الأحبة، كانت زوجته تنظر بلا مبالاة إلى نزوة زوجها هذه، بل ربما ارتاحت لها، إذ كانت تحقق لها حضوراً مميزاً في المناسبات التي يذهبان إليها أفراحاً وأحزاناً. لكن هذه اللامبالاة بدأت تنقلب قلقاً حقيقياً منذ أن تقاعد عن العمل وبدأت نزواته الشعرية تكلفهم مادياً، فبدل أن يتفرغ لإدارة محل بيع الأحذية الذي يملكه صار يضيع كثيراً من الوقت في الركض وراء الشعر حيث كان دائم التواجد في المركز الثقافي، بل وإنه صار يسافر إلى المحافظات الأخرى ليستمع لأحد أصدقائه يلقي شعراً، ثم نحت الأمور منحى أكثر خطورة عندما قرر أن يطبع أعماله الشعرية على نفقته الخاصة. لقد اختمرت في ذهنه فكرة الانضمام إلى اتحاد الكتاب العرب وكان الشرط الأول لتحقيق ذلك أن يكون لدى الشاعر مجموعتين شعريتين مطبوعتين.

قاومت زوجته مسعاه هذا كثيراً، واستلزم طبع كل مجموعة شعرية مفاوضات طويلة معها، تبدأ بالنقاش الكلامي وتنتهي بأن يبكي بين يديها حتى يرق قلبها، الذي كان يزداد قسوة على مر الوقت، خاصة بعد أن بدأت تكتشف تلاعبه بحسابات المحل ليخفي عنها بعض المال كي يدعو أصدقاءه الشعراء من أعضاء اتحاد الكتاب العرب إلى حفلات عشاء، حيث يشتمون الحداثة الشعرية بعد أن يسكروا ويتهكمون على جيل الشباب الذي يكتبها ويستعيدون ذكرياتهم مع شعراء انقرضوا منذ زمن بعيد.

قالت له زوجته:

- لقد نفد صبري من كل هذا. خسرت مائة ألف لتطبع ديواني شعر لم يشتر أي إنسان نسخة واحدة منهما، رغم أنك حلفت لي بأيمان مغلظة أن المشروع رابح. كنت تسرق النقود من المحل لتدعو أصدقاءك إلى السهرات فتغاضيت عن ذلك والآن تريد عشرة آلاف ليرة كاملة لتدعو هذا المسئول في الاتحاد.

وضح لها:

- عضو المكتب التنفيذي للاتحاد. ومسألة قبولي في الاتحاد هي بين يديه إن رشحني قبلت وإن لم يفعل ضعت تماماً وصرت أشقى إنسان في الكون، سأشعر أن حياتي ضاعت هباءً منثوراً وأن كل ما صرفته في سبيل الشعر، الدعوات، وثمن الديوانين، وحياتي كلها قد خسرته دون مقابل. المال لا يعني لي الكثير لكني أود أن أترك لأولدي ما يعتزون به، كم هو رائع أن تقول ابنتك لخطيبها: أبي شاعر عضو في اتحاد الكتاب العرب بدل أن تقول له إن أبي بائع أحذية. عمري كله سيضيع هدراً إن لم تتحقق هذه المسألة.

قال ذلك وجثا على ركبتيه واعترف لها أن التراجع بات مستحيلاً لقد دعاهم إلى العشاء منذ الصباح، وإذا تراجعت سيتلطخ شرفي بالوحل وسيرث أبنائي العار من بعدي، لو أن المسألة تخصني وحدي لتساهلت بها، فأنا رجل بائس، ضائع ولكن ما ذنب أولادنا أكبادنا حتى يتلطخوا في الوحل من بعدنا لذنب لم يقترفوه.

قال ذلك ثم انخرط في البكاء، فرق قلبها. سألته:

- هل أنت متأكد أن قبولك في الاتحاد مسألة مضمونة.

جفف دموعه بمنديله، لقد عرف أنه بدأ يصل إلى غايته، لقد حفظ الطريق فما إن تبدأ بمناقشته حول الضمانات حتى يعرف أنها ستعطيه ما يطلبه، أكد لها أن المسألة مضمونة ألف في المائة، هل من المعقول يا حبيبتي، يا زوجتي العزيزة أن أغامر بلقمة أولادنا إن لم تكن المسألة مضمونة؟ وهم أن يخبرها أن الشاعر الكبير عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب قد زاره مع صديقه الشاعر أحمد عضو الاتحاد، أيضاً، الذي يمهد الطريق لدخوله في الاتحاد، زاره في محل بيع الأحذية هذا الصباح، حين كان ضيفنا الشاعر الكبير عضو المكتب التنفيذي يتجول في المدينة التي يزورها ليشارك في مهرجانها الشعري، وقد قدم المجموعتين الشعريتين إلى السيد عضو المكتب التنفيذي بعد أن كتب عليهما إهداءً خاصاً، فتصفح إحداهما السيد عضو المكتب التنفيذي وهز رأسه وهو يقرأ إحدى الصفحات. لقد كان الإعجاب بما يقرأ واضحاً على وجهه. لقد تناقشنا في حال الشعر العربي فاكتشفنا أننا متفقين في الحقد على الحداثة الشعرية وبالصدفة عرفت أنه كان يعمل مساعداً في فرع أمن قبل أن يتقاعد، تخيلي لو أني تعرفت عليه أثناء الخدمة لكانت الأمور اليوم أسهل كثيراً، لقد اكتشفنا أننا متشابهان في أمور كثيرة. وهم أن يقول لها إن نمرة حذائهما نفسها، لكنه أحجم لإدراكه أن زوجته ستعرف أني أهديته حذاءً من المحل ولم أتقاض ثمنه، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، لقد استغل الشاعر أحمد الفرصة وأخذ هو الآخر حذاءً دون أن يدفع ثمنه، هل يعقل أن أطلب منه الدفع أمام عضو المكتب التنفيذي؟! ثم إن الرجل خدمني كثيراً وها هو ذا يسعى إلى ضمي إلى الاتحاد. هل كثير عليه أن يأخذ هو الآخر حذاءً بألف وخمسمائة ليرة سورية؟!

كما توقع وافقت زوجته وأعطته ما طلب. قبض المبلغ منها راضياً وكان قد استطاع أن يقتطع من المحل خلال الأيام الماضية خمسة آلاف ليرة سورية دون أن تشعر هي بذلك، وبالتالي صار المبلغ المرصود للعملية، خمسة عشر ألفاً، مبلغاً معقولاً، لكنها اشترطت عليه بالمقابل أن يصطحب معه ابنه الصغير ذا الأعوام العشرة. هو يعرف هدفها من وراء هذا الشرط لقد كان هذا الصغير عينها التي ترصد بها كل شيء عنه، فطالما أرسلته إلى المحل ليخبرها بما يجري.

وافق على شرطها لأنه لم يجد ضيراً في أن يصحبه ابنه إلى سهرة مع ندمائه من الشعراء، سيدخل الولد الأوساط الأدبية باكراً، وحقيقة أنه بدأ يفكر بإعداد ابنه هذا ليرث المجد الشعري الذي سيخلفه له لا سيما أن أخاه الكبير لا يكترث للشعر ولا يلقي له بالاً، لكن موافقته على اصطحاب ابنه ستكون سبب كل الدموع التي سيذرفها لاحقاً. جثا على ركبتيه وذرف مزيداً من الدموع، ثم قبل يديها شكراً وامتناناً.

في المساء سارت الأمور كما تمنى تماماً، إذ جلس في الصف الأول يرتدي بدلته السوداء ويضع ربطة عنق أنيقة وألهب القاعة، التي لم تكن تضم سوى بعض العجائز من أعضاء الاتحاد وبعض المتسكعين من الشباب الذين التجؤوا إلى هذه القاعة لأنه ليس ثمة مكان آخر يذهبون إليه. ألهب القاعة تصفيقاً عندما صعد الشاعر الكبير عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب ليلقي الشعر، ومما ضاعف سروره ملاحظته أن الشاعر الكبير قد ارتدى في قدميه الحذاء الذي أهداه له ظهيرة هذا اليوم، لا بد أنه أعجبه، طبعاً سيعجبه، أحذيتي من النوع الممتاز المريح للأقدام. يجب أن تكون الأقدام مرتاحة حتى تستطيع الرؤوس أن تفكر. أجهد نفسه كي يلتقط بعض التعابير التي قالها الشاعر الكبير في قصيدته، ليحفظها ويستشهد بها أثناء السهرة. سيسر كثيراً عندما أستشهد بأقواله، لذلك استعمل الورقة والقلم وسجل بعض الجمل والعبارات التي وردت في القصيدة وبدأ يستظهرها ليتأكد أنه حفظها تماماً.

كانت المائدة عامرة بكل ما لذ وطاب. فالوجبة الرئيسية كانت سمكاً بحرياً من النوع الفاخر، هذا ما نصحه به الشاعر أحمد، صديقه، لأن عضو المكتب التنفيذي يعشق السمك. اتفق مع إدارة المطعم أن توضع في منتصف الطاولة سمكة ضخمة لتزيين الطاولة، وهذا أمر متعارف عليه، حيث توضع هذه السمكة الكبيرة لتزيين الطاولة ولا يمسها أحد من المدعوين، بل يستردها المطعم عند نهاية العشاء ويتقاضى ألف ليرة مقابل عرضها.

قدر أن حاجتهم من المشروب لن تتجاوز اللترين من أفخر أنواع الويسكي لأن عدد المدعوين لن يزيد عن ستة أشخاص بأي حال من الأحوال. لقد سبق ضيوفه إلى المطعم ليشرف على تزيين الطاولة وترك لصديقه أحمد مهمة إحضارهم.

وأخيراً دخل الضيوف، أولاً صديقه أحمد ومعه الشاعر عضو المكتب التنفيذي وخلفهما رجلان لم يعرفهما يرتديان ملابس رثة. صدح الأرغن الكهربائي ترحيباً بالمدعوين، وكان السيد علي قد أعطى العازف مائتي ليرة كي يعمل هذا الاستقبال. صافح السيد علي ضيوفه بادئاً بالشاعر الكبير عضو المكتب التنفيذي، وقال له:

- قلوبنا نفرشها لكم أهلا

وكانت هذه إحدى الجمل التي استعملها الشاعر الكبير عضو المكتب التنفيذي في قصيدته التي ألقاها منذ قليل، وقد حفظها السيد علي بعده ولكن لم يبدُ على الشاعر الكبير أنه تأثر لهذه المجاملة اللطيفة، بل ظلت تعابير وجهه قاسية. لاحظ علي ذلك لكنه لم يفقد رباطة جأشه، بل صافح بقية المدعوين وسار خلفهم إلى الطاولة. أصر أن يجلس الشاعر الكبير إلى صدر المائدة، وجلس على يمينه الشاعر أحمد والسيد علي وبينهما ابن السيد علي وعلى الجانب الآخر جلس الرجلان، وقدر السيد احمد أنهما من المتطفلين هواة الشعر. لا بد أنهما استغلا هذا الموقف فحضرا، يوجد كثير من هذا النوع بين الرجال. رجال يعرفون طريقة الذهاب إلى مكان لم يُدعوا إليه خاصة في أوساط الشعراء الذين يحسبون أن كتابتهم الشعر تتيح لهم خرق الأعراف الاجتماعية، يجوز للشعراء ما لا يجوز لغيرهم.

كان أول أمر فعله الشاعر الكبير هو أن أمسك زجاجة الويسكي وفتحها، ثم ناولها للسيد أحمد وطلب منه أن يسكب الويسكي على يديه ليغسلهما. لقد غسل يديه بلتر ويسكي كامل ثمنه ألفي ليرة سورية. اصفر وجه السيد علي وخاف من الأسوأ، ماذا لو فعل بقية المدعوين مثله؟ نظر إليهم بطرف عينه فعادت الطمأنينة إلى نفسه، لقد كانوا يأكلون دون أن يفكروا حتى بغسل أيديهم بالماء والصابون. مسح الشاعر الكبير عضو المكتب التنفيذي يديه من آثار الويسكي بالفوطة التي أمامه، ثم طلب من النادل، الذي سارع ليتناول الصحن الذي سكب عليه الويسكي، طلب منه أن يحضر لتراً آخر من الويسكي. قال الشاعر الكبير موجهاً كلامه إلى السيد علي:

- اسمع يا علي (هكذا ناداه باسمه المجرد) أنت شاب وما زلت في بداية الطريق وطريق الشعر طويل، لكنك صاحب موهبة. يسعدني أن أرى أنه ما زال هناك شباب متحمس للشعر.

هكذا خاطبه رغم أن السيد علي قد تجاوز الخامسة والخمسين عمراً، ويقيناً أني أكبره عمراً وهذا ما فكر به السيد علي. لكنه لم يتوقف طويلا عند هذه النقطة، بل نظر إلى الجانب المشرق في الكلام. لقد أشاد بموهبتي، هنا أمسك السيد أحمد جانب الكلام وشرح للشاعر الكبير أن السيد علي، أو علي كما ناداه قد نذر حياته للشعر، إذ أنه يكتب الشعر منذ ثلاثين عاماً لذلك يرغب بالانضمام إلى اتحاد الكتاب العرب. كان سرور السيد علي من صديقه أحمد عظيماً وفكر أن ثمن الحذاء ليس خسارة به، وبات ينتظر رداً من عضو المكتب التنفيذي، الذي قال:

- حول هذه النقطة أنا أختلف معك ..

هنا اصفر وجه السيد علي، ماذا؟ يرفض انضمامي إلى اتحاد الكتاب العرب ودارت الدنيا بعيني السيد علي. لكن تبين سريعاً أن الشاعر الكبير يختلف مع السيد أحمد على جانب آخر من الحديث لا علاقة له بانضمام علي إلى الاتحاد، قال شارحاً فكرته:

- بالنسبة للعمر الشعري فهذا برأيي من الأمور التي لا قيمة لها فرامبو مثلاً (كان شاعرنا الكبير قد قرأ سيرة رامبو، الشاعر الفرنسي، حديثاً في كتيب صغير أصدره اتحاد الكتاب العرب مترجما عن الفرنسية بمناسبة المئوية الثانية لولادته، وهذا الأمر جعله معجباً برامبو رغم أنه يكره الحداثة الشعرية، وإن إعجابه المستجد برامبو سيترتب عليه نتائج هامة في هذه السهرة) رامبو الشاعر الفرنسي عاش ثلاثين عاماً فقط، أي أن عمره كله بعمر صاحبك الشعري، لكنه أذهل البشرية. إن العمر الشعري أمر لا قيمة له هل الشعر جيش ليترقى الإنسان فيه بعدد سنوات الخدمة؟ لا أبداً .. ربما كان صاحبك هذا الذي يكتب الشعر منذ ثلاثين سنة، ربما لا يزال برتبة مساعد، في ثكنة الشعر. الترفيع من رتبة إلى أخرى ليس بعدد سنوات الخدمة بل بالموهبة.

دارت الدنيا برأس السيد علي، ما معنى هذا؟ لقد ضعت. أنا لم أعد أفهم شيئاً مما يجري حولي، منذ قليل قال إني موهوب والآن يقول إني ما أزال مساعداً ماذا يحدث حولي؟ وهؤلاء الآخرون الذين لا هم لهم إلا أن يأكلوا، ما الذي جاء بهم أصلاً إلى هنا؟ أنا لم أدعُهم. إن استمروا بالتهام الطعام بهذا المعدل فسيحتاجون لمائدة أخرى، ماذا يجري أنا لا أفهم شيئاً؟ ولمح ابنه يأكل لكنه يراقب ما يجري، لا شك أن أمه أوصته أن يحفظ كل ما يسمع ليروي لها كل شيء. لقد ضعت.

أحس بضيق في صدره، وتذكر انه لم يتناول حبة النتروغلسرين ليوسع شرايين قلبه المسدودة. وباتت صورة زوجته هي الوحيدة التي أمام ناظريه، ماذا سيقول لها؟ كيف سيفسر لها ما جرى؟

نظر إلى صديقه أحمد متوسلاً فبادله الأخير بنظرة مشجعة، كأنه يقول له تماسك ما زالت الأمور حسنة، فتماسك السيد علي ونظر إلى الطاولة من جديد نظرة واعية فرأى أن الشاعر الكبير لم يمد يده إلى الطعام بعد وقدر أنه إن لم يفعل ذلك خلال خمس دقائق فإن الشخصين الآخرين لن يتركا على المائدة شيئاً يؤكل، استغل الصمت وإحضار النادل للتر الويسكي ودعا الشاعر الكبير ليمد يده إلى المقبلات ريثما يحضر السمك. عندما سمع الشخصان الآخران بأن السمك سيحضر توقفا في وقت واحد عن التهام الطعام كأنهما كانا يحسبان أن الوجبة هي ما كان على الطاولة فقط. تهيأ الشاعر الكبير لتناول الطعام، أمسك السكين والشوكة وبلحظة واحدة وجه طعنة نجلاء إلى السمكة الكبيرة الموجودة في منتصف الطاولة لتزين المائدة فنهشها نهشة محترمة الحجم. أصابت الطعنة فؤاد السيد علي في الصميم لقد تأذت السمكة وبالتالي أضف عشرة آلاف ليرة إلى الحساب دفعة واحدة، عاودته آلام الصدر فتذكر النتروغلسرن من جديد. هم أن يبكي. لكن الشاعر الكبير، قال له بعد أن تذوق طعم السمكة:

- يا علي في الحقيقة إن موهبتك واضحة وإنك لشاعر، وسيكون لك مستقبل كبير. لقد قرأت مجموعتيك الشعريتين وأعجبت بهما.

وازنه هذا الكلام قليلاً بعد الضربة القاضية التي تلقاها منذ قليل. وتراجعت صورة زوجته إلى الخلف قليلاً، إنها ليست قاسية إلى هذا الحد ستتفهم الموقف. هي تحبني، صحيح أنها تقسو علي أحياناً ولكنها تحبني، ثم إني صاحب نزوات كثيرة ولا يمكن لامرأة غيرها أن تحتمل نزواتي. فكر، لا بد أن كل الشعراء يعانون من زوجاتهم مثلما أعاني، وخطر له أن يسأل الشاعر أحمد حول هذه النقطة في أقرب فرصة، إنه أعلم مني بكل شيء، لقد أرسله الله رحمة لي، لولاه لضعت تماماً، صحيح أن البشر لا يفهمون إذ كثيراً ما همسوا بأذن زوجتي أنه يعيش على حسابي، لكن ما أهمية النقود مقابل الخبرات التي يمدني بها. أنا لولاه لا أساوي شيئاً. انظروا إليه كيف يسكب الويسكي للشاعر الكبير، حسناً فعل قبل أن يفكر بغسل يديه بليتر آخر من الويسكي. ملأ الجميع كؤوسهم ورفع السيد أحمد كأسه إلى الأعلى، وقال:

- بصحة صديقنا الشاعر علي أبو سامر.

وغب الجميع أكوابهم، وبدا أن الأمور بدأت تأخذ منحى حسناً لقد شرب الشاعر الكبير نخبي كشاعر، لكن الطعنة هذه المرة جاءته من حيث لا يحتسب لقد نطق أحد الشخصين الجالسين على الطرف الآخر من المائدة، قال:

- اسمح لي يا سيدي أن أعترض على وصفك أخانا (وأشار بإصبعه نحو السيد علي) هذا بالشاعر. هذه الكلمة يجب أن لا تلقى جزافاً إنه أمر مأساوي ما يحدث في بلدنا من فوضى. كل شخص يسمي نفسه كاتباً أو شاعراً أو مثقفاً هذه فوضى مؤسفة، لا يجوز أن تبقى الأمور بهذا الشكل. تخيل معي لو كان بإمكان أي شخص أن يقول عن نفسه طبيب أو مهندس، بالتأكيد كانوا سيحبسونه بتهمة انتحال مهنة وسيحكمونه بالسجن مدة ثلاث سنين، أنا لا أفهم بالأمور القانونية كثيراً، لكن شيئاً شبيهاً بهذا كان سيحدث. أما في الشعر والثقافة فالأمور مباحة كل إنسان يطلق على نفسه ما يريد من ألقاب ولا أحد يحاسبه، بماذا أصف هذا الوضع سوى بالفوضى؟ صحيح أن بلدنا قد تقدمت كثيراً، لكن في هذه النقطة ما زلنا متخلفين. يجب أن يكون للمسألة ضوابط، لا يجوز أن يبقى الحبل على غاربه.

تصوروا عديم الضمير هذا الذي أفسد كل شيء، لم يتكلم منذ دخل، لم يفعل شيئاً سوى التهام الأطعمة وعندما تكلم كفر، صام دهراً ونطق كفراً، لقد خرب كل شيء. أنا على استعداد لأقتله في هذه اللحظة. لكن حمداً لله أن هناك صديقاً صدوقاً اسمه أحمد ويجلس على يمين الشاعر الكبير عضو اتحاد الكتاب العرب وأهم من كل ذلك، تربطه صلة صداقة بالشاعر الكبير وبالتالي فإن لكلامه صدى في أذن شاعرنا الكبير أكثر من هذا الخنزير الجالس في حضني وينتف في ذقني. قال الشاعر أحمد:

- تصور يا أستاذنا أن صديقي علي، أبا سامر، يحمل رأياً مشابهاً لهذا. كان يرفض أن ينادى شاعراً، كان يقول لي دوماً أنا لا أستحق هذا اللقب إن لم أكن عضواً في اتحاد الكتاب العرب. الأمور ليست سائبة. اتحاد الكتاب العرب هو الذي يقرر من هو الشاعر ومن هو غير ذلك.

تهيأ عديم الضمير ليقول شيئاً ما، لكن لحسن الحظ أحضر النادل طبق السمك فانشغل بالسمك عن كل شيء وكان هذا مصدر راحة للسيد علي، الذي تنفس الصعداء، لقد حول السيد أحمد الضربة التي وُجهت إليه إلى رصيد يُحسب له بكثير من المهارة. ولتأكيد هذه النقطة من جديد رفع السيد أحمد كأس الويسكي ودعا الجميع للشرب:

- بصحة أستاذنا الكبير، وبصحة ولادة شاعر جديد (كان يعني السيد علي) وبصحة جميع الموجودين.

مرت الأمور هذه المرة بسلام فقد انشغل عديم الضمير بالتهام السمك.

وبدوره رفع السيد علي كأسه داعياً الجميع لشرب نخب أستاذنا الكبير، ونخب الجميل السماوي الرفيع (كان هذا عنوان ديوان للشاعر الكبير). وقرعت الكؤوس وتبادلوا الأنخاب مراراً وتكراراً. وبدا أن الويسكي بدأت تلعب برأس شاعرنا الكبير. وعاد يتحدث عن شاعرية رامبو ويرمق خدود الفتى ابن السيد علي الوردية وبشرته ناصعة البياض بنظرات وقحة. في الحقيقة إن هذا الإعجاب المستجد برامبو كان مفاجأة للسيد علي، إذ لم يخطر على باله أن يكون الشاعر الكبير، الذي يكتب الشعر على بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي معجباً برمز من رموز الحداثة الشعرية العالمية، بل برمزها الأول. ليت المفاجأة توقفت عند هذا الحد، بل يبدو أن إعجاب الشاعر الكبير برامبو لا يتوقف عند حدود الشعر، بل وصل إلى أمور أخرى، هذا ما أفصحت عنه تلك النظرات الملتهبة التي بدأ يرمي الفتى بها. انتبه السيد علي إلى ذلك متأخراً عندما طلب الشاعر الكبير من السيد أحمد أن يتبادل الأماكن مع الفتى ليجلس الفتى إلى جانبه، هكذا طلب دون أي حياء، لقد أمدته سيرة رامبو الشخصية بشجاعة الإفصاح عن هذه الأمور، ولا أحد يدري هل الرغبة بالفتيان من الأمور المستجدة في شخصية شاعرنا الكبير، أي مجرد رغبة بتقليد رامبو علّه يُخلد في سجل التاريخ كما خُلد رامبو، أم أن عشق الفتيان قديم في نفسه، لكن الحياء كان يمنعه من البوح، وأتت سيرة رامبو لتشجع على البوح، أي لتصب البنزين نار مشتعلة أصلاً.

كان هذا مأزقاً لا على البال ولا على الخاطر، فكر السيد علي أن الولد سيضيع وهم أن يصرخ ويقلب الطاولة بوجه الشاعر الكبير عضو المكتب التنفيذي. لكن عندها كل شيء سيضيع. والحمد لله أن صديقه أحمد لم يجعله يفعل، إذ لمس يده مهدئاً. لكنه عاد يغلي عندما قبل الشاعر الكبير خد ابنه وبان أنه مد يده من تحت الطاولة ليعبث بالفتى، هنا الأمور لم تعد تحتمل السكوت وهم أن يصرخ، لكن هذه المرة جاءته النجدة من حيث لا يدري. لقد امتلأت مثانة الشاعر الكبير فنهض ليفرغها، فاستغل السيد أحمد الفرصة وغمز علي أن يخرج ابنه من المطعم ويرسله بسيارة أجرة إلى البيت.

كانت الويسكي قد أخذت بلب الشاعر الكبير فلم ينتبه أن الفتى لم يعد موجوداً، بل عاد يصرخ أنه يحب الحرية، الحرية المطلقة، ولا شيء سوى ذلك. لا أقبل أية قيود ..

من جهة أخرى لم يعد السيد علي في هذا العالم، لقد صارت همومه أكبر من قدرته على الاحتمال، الآن سيصل الولد إلى البيت وسيقص على أمه كل شيء، ثم من سيدفع الحساب، كل ما كان يحمله يبلغ خمسة عشر ألفاً ويقيناً أنها لن تكفي فثمن السمكة الكبيرة التي نهشها هذا اللعين تساوي عشرة آلاف و.. كما أن عديمي الضمير شربوا خمس لترات من الويسكي، وحده غسل يديه بلتر كامل، غسل يديه بألفي ليرة عداً ونقداً، ولم يكفه هذا بل كان يريد أن يخرب الولد. أثقلت على صدره كل مصائب حياته وأحس أنه رجل ضائع لا نفع منه. بدد الأموال التي يحتاجها الأولاد وجرى وراء ترهات لا تسمن ولا تغني من جوع، وماذا كانت النتيجة؟ لا شيء حتى الآن. أحس برغبة في البكاء وهم أن يطلق العنان لها إلا انه أحجم في اللحظة الأخيرة لأنه سيحتاج إلى كل قطرة دموع بعد قليل ليستعطف زوجته بعد الذي جرى هنا.

وضع نصف حبة من النتروغسرين فارتاح صدره قليلاً. أحس صديقه أحمد بحالته النفسية فأنهى السهرة وانسحب هو والشاعر الكبير ونهض عديما الضمير في إثرهما دون أن يشكراه ولو بكلمة واحدة. وبقي هو ليدفع الحساب. سدد كل ما يحمله وأبقى معه مائة ليرة فقط ورهن بطاقته الشخصية لدى صاحب المطعم، ثم خرج ينتظر سيارة أجرة لتوصله إلى المنزل. لفحه الهواء البارد فانتعش قليلاً وتذكر رغم كل خسائره أن الأمور جرت بشكل معقول فأحس ببعض الراحة. صعد في سيارة الأجرة وفكر أن المشكلة الوحيدة التي يجب أن يفكر بها الآن هي زوجته. كانت دموعه قد بدأت تترقرق في عينيه، سيبكي كثيراً هذه الليلة حتى يستطيع استرضاءها، هذا ما فكر به:

- لكنها محنة وستمر كما مرت غيرها

هذا ما واسى نفسه به.

_________ 

* طبيب وكاتب سوري - سورية