امرأتان
امرأتان
قصة: فاضل السباعي
أمام دكان الخضري، وقفتْ شابة، كان أكثر ما يميّزها أنها تلبس قميصاً أبيض.. وراحت تسأل البائع:
"بكم كيلو الخيار؟ بكم كيلو الكوسى؟.."
والرجل يجيبها.. وهي تطلب منه:
"زن لي من هذا كيلو واحداً، ومن ذاك اثنين.. وهذه البندورة بكم؟".
- بليرة، يا خانم.
- زن لي منها كيلو واحداً، ولكني أريدها متماسكة للسلطَة!
تناول البائع كيساً، وراح يملؤه من الخيار الرفيع الذي يحاكي الأنامل دقة واستواء، وملأ كيساً آخر بالكوسى الغضّة اللّماعة التي تغري ربة البيت بحفرها وحشوها.
* * *
في هذه الأثناء، توقّفت أمام الدكان، امرأة تتجلبب بالملاءة السوداء وتسدل على وجهها منديلاً بلون الليل.
كشفت المنديل عن جانب من وجهها، وأخذت تبحث بعينيها عن ضالتها، ألقت نظرة سريعة إلى سحّارات الخُضر المعروضة في مقدمة الدكان، ثم أرسلت ناظريها إلى ما دونها.
لمحت هناك تحت رف الميزان، قفّة صغيرة، قد جمع فيها البيّاع كل ما تخلّف عنده من أسقاط البندورة.. سألته، بصوت خفيض، وهي تشير إلى القفّة:
"بكم الكيلو من.. تلك البندورة؟"
نظر إليها البائع، وهو يتابع ملء الكيس بحبات البندورة المنتقاة للسيدة ذات القميص الأبيض، وأجاب:
"القفّة كلها.. بليرة واحدة!"
- طيّب، هاتها لي"
- معك "وعاء"؟
من تحت ملاءتها، أخرجت المرأة، ذات المنديل الأسود، حقيبة مهترئة، فيما كانت عيناها تتابعان البحث عن.. أشياء أخرى، لمحت، في ركن من الدكان، قفّة ثانية، فيها حبات من الكوسى، المكسورة والمشقوقة والمبيضّ لونها.
- وتلك الكوسى.. بكم؟
- خذيها كلها بـ.. نصف ليرة!
* * *
اهتم البائع بوضع الأكياس الثلاثة في الشبكة النايلونية، التي فتحت له فوهتها الشابة ذات القميص الأبيض، وترك المرأة الأخرى، التي جلست القرفصاء، تفرغ في حقيبتها ما في القفتين الاثنتين.
كانت السيدة الشابة تتلقّى مساعدة البائع، وعيناها إلى المرأة المقرفصة: كيف دلقت، في حقيبتها، الكوسى، ثم فرشت فوقها رُقاقة من نايلون كانت معها، وبعدئذ راحت تنقل حبات البندورة، المبعوجة والمتعفّنة.. والتي يسيل منها ماؤها!
أحسّت الشابة في حلقها غصّة، ودّت لو تفعل شيئاً من أجل هذه المرأة، التي يبدو البؤس في ملبسها، وفي بحثها عن لقمتها، ثم في ترتيبها مشترياتها المتعفّنة في حقيبتها الناصلة اللون.
وقبل أن تدفع للخضري ما ترتّب عليها، اقتربت من المرأة، وانحنت عليها، لتقول موشوشة:
"هل تسمحين لي، يا أخت، بأن أدفع ثمن أشيائك هذه، وثمن كل ما تحتاجين إليه من خضر أنتقيها لك؟"
رفعت المرأة، الكاشفة منديلها عن جانب من وجهها، إلى السيدة المنحنية فوقها، عينين سوداوين، متألقتين، وإن بدتْ حولهما تغضّنات حفرتها يد الزمن.. أجابت، وهي تهزّ رأسها يمنة ويسرة، وقد ارتسمت على محيّاها ابتسامة ما:
"لا، شكراً لك، يا بنتي!"
لم تفاجأ السيدة الشابة بهذا الردّ، لا ولم يخالجها أي شعور بالأسف. على العكس، لقد نزل "الاعتذار" الأبيّ، على قلبها برداً وسلاماً. انقلب عطفها إلى إكبار، وزايلتها غصّتها وكلّ ما شعرت به من المرارة.
* * *
قبل أن تمضي السيدة الشابة، وقفت ترقب المرأة، التي أسدلت، الآن، منديلها على وجهها كله، وهي تمشي الهوينى تحت وطأة حقيبتها الثقيلة.
تمنّت لو أنها كانت تستطيع، لحظة تلّقت منها اعتذارها، أن تقبلها من جبينها الوضّاء، من عينيها، اللتين لم تشفّا عن أيما أثارة من ذلّ البؤس أو الانكسار، بل كانتا متألقتين بالكبرياء، وبمضاء العزم على اجتياز فلوات الحياة بالاعتماد على النفس وحدها.
وأحسّت أنّ شيئاً ما، ساخناً، يترقرق في عينيها.