الثغـرة
الثغـرة
قصة: نعيم الغول
(إلى الذي غزا لعله … )
أينا يحاصر الآخر ، أنا أم أنت ؟
داهمه السؤال فجأة ،و هو يصغي لأصوات المدافع التي تنصب على الأسوار .. منذ يومين و القصف على أشده لم يتوقف لحظة واحدة .. و معظمه يتركز في الجهة الشمالية الشرقية من الأسوار ..
أمس طاف في أرجاء المدينة .. تفقد الأسوار ..
تفقد المؤن .. تفقد الذخيرة . و لم تفته حالة التوجس والقلق التي كست لونا رماديا قاتما وجوه أهل المدينة ،و مماليكها، و حرسها ،و جنودها . كان قلقا مبررا ؛ فالجيش خارج المدينة لنابليون بونابرت .. هو يعرف الاسم جيدا . وذكر نفسه بما يعرف وعيناه ترقبان سحب الدخان الذي تصاعد من الجهة الجنوبية ( بونابرت الذي يجيد الشطرنج والحرب .. بونابرت الذي لم يهزم في معركة واحدة من بين مائة خاضها .. بونابرت ..بونابرت ) و طاف ببصره في الأبراج العالية المحاذية للأسوار ، و استقرت أخيرا على البوابة الرئيسة المصنوعة من الخشب السميك ،و صفائح الحديد . لاحقه السؤال:" أينا يحاصر الآخر ؟" (شهور مضت يا بونابرت و أنت تقبع تلعق قدمي عكا.. تخز ظهرها ..تصفع خديها .. ثم ماذا ؟ أنا هنا وأنت هناك! )
قفل عائدا إلى القصر لينام رغم القصف الشديد المركز .. ( يبدو أنها " فشة خلق" يا بونابرت بعد ما فعل أهل جبل النار .. أم هل نسيت مقتل دوماس ؟ دحروك النابلسية ،و حرقوا ميمنة جيشك .. لو كنت مكانك " لفشيت خلقي "مثلك .. آه لا غنى عن القيلولة).
مولاي .. باشا .. باشا .. ثغرة .. ثغرة ..
هب من نومه منتفضا . نظر حوله .. كان لا يزال يلوح بيديه .. اصطدم نظره بوجه حافظ الدين مملوكه الأشقر ، وراعته نظرة الرعب التي انداحت في عينيه الزرقاوين كبحر عكا .. قفز من سريره، نفض رأسه محاولا إزالة الحلم بل الكابوس .. و لم يدر أيهما أيقظه صرخة المملوك أم الكابوس.
كان المملوك لا يزال ينتفض ، و يصرخ " ثغرة واسع .. ثغرة كبير .. ثغرة قد ذراع نحن مولاي باشا "فامسك بكتفيه ، و هزهما بعنف ليسكته و يهدئه .. التفت حوله متفحصا الغرفة،والسرير،وملابسه .. كانت صور الكابوس لا تزال ماثلة أمام عينية تنتفض حياة و حركة .. ثغرة صغيرة بحجم خرم الإبرة . ينسل منها نمل أحمر كثيف العدد . يحمل في فمه عيدانا من القش في طرفها نار ، ويتحرك بخفة ،و سرعة .. يدخل مخدعه .. يلقي القش على سريره، و ملابسه ..تشب النيران في كل شيء ..ألسنتها تمتد إليه لتلتهمه.. يصرخ بغضب و هو يحرك يديه : النار .. النار .. أطفئوا النار .. أغلقوا الثغرة .. الثغرة و أفاق و المملوك يصيح .. ثغرة.. ثغرة ..(لابد أني أحلم .. وحافظ معي في الحلم .. و لكن أين النار ؟) تردد صوت المدافع من بعيد يصم الأذان.. ومعه كانت أصوات طنين بشري تخرج من كل مكان ..والمملوك يدق أذنيه بصراخه ثغرة .. ثغرة .. قال له وهو يظن ان الحلم لا زال مستمرا : " إهدأ حافظ .. عم تتكلم ؟ "
-"الفرنسيون فتحوا ثغرة في السور ."
"مستحيل .. السور عرضه ثلاثة أمتار .. من الحجر الأبيض والشيد و الزيت كيف؟"
"ركزوا القصف بالمدافع على نقطة واحدة . الثغرة صغيرة .. الجنود خائفون .. انه نابليون وجنوده كثيرون ."
( ليست فشة خلق إذن يا بونابرت .. انه اختراق .. أنت تجيب على سؤالي .. لكن أليس الوقت مبكرا لتحرك الوزير وتقتل القلعة لتقول كش ملك .. كش والي ؟)
كان قد لبس ملابسه بسرعة ،و التقط طبنجتين .
دخل مملوك ثان ،و هو يهتف برعب : "مولاي الباشا .. الثغرة تتوسع .. أصبحنا نرى رؤوسهم .. الحجارة بدأت تتخلخل "
كان قد وصل إلى باب القصر .. نظر حوله .. مسح ببصره الساحة الرئيسية ، والأبراج الثلاثة والبوابات. كان الحرس و الجنود في الجهة الشمالية الغربية يتراكضون ، و الذعر يعض سيقانهم . عدد يقارب أصابع اليد الواحدة من الجنود بقي . صرخ في المملوك آمرا: " حافظ أحضر كيس القماش ، و قطع الرصاص " والتفت إلى المملوك الثاني :" تيمور احضر اليقطينة ، و املأها بكحل البارود "
توقف لحظات .. نظر إلى الجموع المبعثرة الهاربة في الساحة،و قرب البوابة الرئيسية ،والبرجين الشماليين .برزت في مخيلته صورة قاتمة ليوم النشور . الكل يهرب من الموت تمتم (الموت .. ما الموت؟ من يخش كبشا سيذبح يوم القيامة ؟)
إغراء كاد ينسل نازلا إلى قدميه .. لكن خاطرا وكزه ( ما أنت ؟ الست رجلا . ألست القائد ؟ الست الوالي .. الست الجزار ؟ بئس القائد أنت ان لم تمت دفاعا عن مدينتك ! كنت أنت الموت أمام قلعة صانور .. لكنها صمدت و صدتك. ألا تجد مكتوبا على بوابة كل قلعة تغزى " الغزاة لن يمروا" .. ألم تصدك صانور .. اليوم دورك صد ولتكن الموت داخل أسوار عكا ).
ركض تجاه السور ،وأخذ يصيح :" الله أكبر .. الله أكبر " لكن الطنين الصادر من الجموع الهاربة جعل صوته أشبه بالهمس؛ فاندفع باتجاه الثغرة ، وفي عينيه تصميم (لنوقف النمل الأحمر قبل ان يحرق كل شيء ) . كان نموذج يافا لا زال ماثلا في ذهنه . وصلت إليه الأخبار قبل اشهر باستيلاء بونابرت عليها، وذبح من فيها ،وحرق الكثير من البيوت والمتاجر . ( لن يحدث هذا في مدينتي .. أنا أحمد باشا الجزار .. لن يخيفني قزم كهذا ) صاح مرة أخرى وهو يلوح بيديه للجنود ،والحراس ان عودوا :" الله أكبر .. الله أكبر " لكن القنابل المتساقطة على الأسوار كانت تدفعهم بعيدا عنه، ومعظمهم كان يتجه إلى الباب السري . وصل إلى الثغرة .. كان الفرنسيون قد افلحوا في توسيعها قليلا، و بدأ بعض الأفراد بالدخول . صر على أسنانه .( بونابرت .. لن تفلح .. لن تمر .. يجب أن تفشل محاولتك هذه حتى تأتي النجدة ) .
كان قد أرسل منذ عرف بقدوم نابليون غازيا نداء استغاثة إلى الباب العالي، و إلى متسلم نابلس وجنين الشيخ يوسف الجرار ( سيأتي الإنكشارية و عرب جبل النار والبلقاء و سنطاردكم.. أيام ويأتون و ينتهي كل شيء ) .اخذ يطلق النار على الفرنسيين المتسللين . قتل الأول و صرخ بغيظ .. ( لو أن الإنجليز دمروا جيش نابوليون أيضا ) لكنه أحس بالخجل هتف يسمع نفسه ( جزار باشا ليس بحاجة للإنجليز . باب عالي تمام .. عرب أيوه .. إنجليز يوك )
كان قد قتل فرنسيا رابعا و جرح خامسا .. كان يستطيع والعدد القليل معه اقتناصهم بسهولة ؛ لأنهم كانوا يدخلون منحنين في وضع لا يساعد على الدخول وإطلاق النار .. وكان المملوكان يعدان الطلقات، و يدكان الطبنجات بسهولة وسرعة ..أطلق النار و أطلق و أطلق .. و كان يصرخ وسط دهشة حرسه و جنوده الذين سرعان ما بدءوا في العودة و إطلاق النار (.. مت . نابليون .. مت نابليون مت أيها القزم الأصفر ).
ورغم
أن جثث الفرنسيين تكدست فوق بعضها سادة الثغرة ،إلا انه ظل يطلق النار، و يسأل :"
من يحاصر من؟"