قافلة النور

قافلة النور

قصة بقلم الأخت: أم حمزة

بحفيف صوته العذب.. يسوق خرافه.. يطمئن حزن فؤاده.. ودموع المساء تلمع لؤلؤاً على قلبه التائب، والندم ثلجاً يغسل نفسه. سنوات خمس بين الكهوف.. يفتش.. ينبش.. يرفع.. يقبض النقود.. ويغرق نفسه في أحضان خضراء الدمن..

سنوات خمس لم يفكر لحظة واحدة بأخته (هنيّة) التي اعتقلتها السلطة..

المال أفسد عقله وقلبه.. والآن السلطة وزعت سجيناتها للعمل من أجل تشجير المناطق البعيدة.. أعمال شاقة ليس غير..

صعق، ذهل.. مسّه الجنون.. قرأ اسم (هنيّة).. ستأتي إلى قريتهم.. يذكر ذلك اليوم الذي كان لأبيه دماً ولأمه حسرة وشقاء.. و (لهنيّة) أغلالاً وجلاداً وألف ليلة وليلة في عذابات التفتيش. سجّان، وقضبان.. أشجان وأحزان..

ما أبعد ذلك اليوم.. كانت (هنيّة) في المدرسة الثانوية.. والمدرّسة (عفاف عبد العزيز) بنت البلد التي عُيّنت في قريتهم.. شعّ الربيع حنوناً دافئاً.. زينة قدسية تستريح بشموخ على رؤوس الشابات لن تمرّ أمام بيوت القرية، قلوب الفتيات تويجات تضحك بشلالات نور وصفاء.

زارته أزلام السلطة، بسطت المائدة، عوت الخمرة في العقول رعونة وبذاءة: (نريد عفاف عبد العزيز) يا رفيق سالم.. عميلة خائنة.. وألقى في يده شعاع شمس.

أنضرت خضار الصحارى.. ضحكت ريم البوادي.. أينعت أروقة الصفصاف.. أترعت آبار القرية بماء نمير.. أزهرت مروج الذهب.. وقبّل الصبح خدود القطن.

مضى أمامهم مسحوراً.. مأخوذاً.. دروبه البيض.. زوارق أحلامه.. أكواخ أمانيه.. تطرده من قلبها الباكي الحزين..

شهروا أسلحتهم.. راعه أن يرى (هنية) تقف على المنبر.. لحظات ملئت بالرمل عيناه.. وقعت طيور المفاجأة كجلمود صخر.. حطت حمائم رحمة وثراء على قلب (هنية).

زمجر الضابط:

- أنت عفاف عبد العزيز؟

الصمت أبلغ من الكلام.. والدمع يشبه الابتسام. الكلام مشنقة.. والصمت معتقل..

خمس سنوات (يا هنية) وجهك مذبوح من العذاب.. ثغرك مترع بالدماء.. قواك ثملة الاحتمال.. أجفانك مجروحة الفؤاد.. (هنية).

يومها شلت الكلمات على لسان سالم.. حتى اصفرار الوجه الأسمر الناحل..

انطلقت السيارة بالصيد الثمين.. وسالم غارق في ذهوله.. وخفافيش الشماتة تعوي على لسانه ضحكات محمومة.

أخذ يهذي كالمجنون.. لتنفعك صلاتك وصيامك يا (هنية).. لتنفعك تضحيتك يا (هنية) وأنت يا عفاف.. أنا الجلاد وأنت القربان.. وضحك حتى انطرح على الأرض، يلعق قيئه كخنزير مسعور.. ولم يستيقظ إلا على صوت الطلبة.. أغلقت المدرسة.. هربت المدرسة مع عشيقها.. تضاحك أهل القرية بسرهم.. (وعفاف) ضحك الفجر في عينيها بشائر ونوراً.

لا يزال ذلك اليوم مكتوباً أمام ناظريه.. كبنات نعش.. (هنية أو عفاف) في القرية تقتلع الأشواك تزرع أكاليل غار.. هداياها بينهم.. قرط لطفلته.. حذاء لولده.. شال لزوجه.. عباءة له..

(هنيّة) معتقلها في آخر القرية.. آخر بيت على اليمين.

آه (يا هنيّة) رمس أبي قذى في عيني.. دموع أمي سنوات سبع شداد. ذكره على لسان أطفالي ممل قاتل.. آه يا هنيّة..

كل يوم يراها.. من بعيد.. لم يقترب أبداً منها.. كيف يجرؤ؟.. وهل يجرؤ؟.. جرائمه لا تزال ندية الجبين. آخرها السيد (قحطان العبد الله) في القامشلي.. نزل إلى المدينة لبيع الحليب، تعلّق به الصغار.. ووثق به الكبار.. بأعصاب ذئبية تسلل.. نهب البيت، ألقم الأطفال أثداء الرصاص.. فقأ عيون الطهر.. اغتصب حلية الصبا.. أشعل النار، كتب محضراً مطولاً.. أغرق نفسه بالخمر والنساء..

قرأ في عيني أمه الغضب الساطع.. تصفّح في عيون أطفاله الخوف والرعب: هاك نقودك لا تنفعنا.. زوجه تحمل سلال البيض إلى المدينة..

(سالم وهنية).. أسود وأبيض.. ثرى وثريا.. انحطاط وشموخ.

(هنيّة) يا ذات العذاب الجهنمي.. عشق الندم.. قضمت حجارته.. شربت زجاجه..

يا هنية.. والآن أنا نادم.. نادم.. نادم.. يا هنية.. أمسياتك.. لا أنساها.. ترشين أرضية البيت بالماء، فيها عطر أنفاسك ينهل قمراً أزرق. تمسحين عن جبيني حبات العرق.. تصلّين، أضحك، قد ولّى عهد الصلاة يا مسكينة.. تنظرين إليّ ساهمة واجمة وللدمع في عينيك مد وجزر.. تقرئين القرآن أقهقه: أنت مطربة ذات شأن.. أرى طيوف العذاب على جبينك الأسمر الباكي.. وأنا نادم (يا هنية).. شيء في صدري يوجعني.. هل تقبلين ندمي؟ هل أطمع يا هنيّة؟.. سآتي إليك.. بصماتنا على شفاه حجارة الطريق تبسم لي أملاً.. أغانينا على ثغور السنابل تناديني أن أعود.. أهازيجنا على ذهابنا الأبيض تهرول بي نحو أفق السلام.. آثار أقدامنا الحافية على الأعشاب تشدني نحو أنس الأمان.. هنيّة هل تقبلين.. تقبلين مساومتي؟! لا زلت تلك.. الصغيرة أختي.. ذات الوجه الملائكي.. تبكين أثور.. تعطينني حذاءك.. تدمي الأشواك رجليك تضحكين وتركضين.. المال (يا هنيّة).. عشقي الأزلي سعادتي، حبي.,. وتر الذلّ في نفسي.. أيهما يا (هنية): أنت مع الموت.. أم الخيانة مع النقود وأوسمة الشرف والحياة؟ أيهما يا (هنية) أيهما يا (هنية)؟ المال يأتيني رغداً حيث شئت ومتى شئت سنابل سنابل.. وأنت يا (هنية) أنت لعيني بريق البصر.. وأنت لروحي الروح وأنت لعقلي الفكر، وأنت لأرضي سيول المطر.. كيف أختار؟.. أيهما؟.. وأنا أقتات من وراء الخراف؟ فشلي يتوج حياتي.. غلالي فقيرة.. أرضي جافة.. ساقيتي خالية الوفاض.. كيف أختار؟..

وراحت جمرات الندم تشوي فؤاده وسياط السهاد تكوي جسده، وحجارة الأرض ترجم ليله، وعندما أرخى النعاس غلالته على جفون عجائز الشمس التي تعبت في تجوالها قبّلت خدود ولدان المساء ونامت بسلام وهدوء.

عاد (سالم) بخرافه وقلبه يعزف أغنية لا عهد له بها.. استل زهور الأقحوان.. زرعها في شعر أمه، خطف شتلات الريحان، غرسها على رمس أبيه، ودموعه تتسابق، تنسل، تجمع شتات قلبه.

اهتز الضابط ضاحكاً:

- أهلاً سالم.. أين أنت يا رجل؟ اشتقنا إليك يا رجل؟ أين الخروف يا رفيق؟ أين الخروف يا رجل؟

ضحك (سالم) ضحكة طرب لها الضابط.. (هنية) مع معولها، جراح الدموع تدمي خدود الصبا، تروي حقول الصبر، تزرعه حلماً يسع الدنيا غفراناً.. وقدّم سالم الخروف محبوراً سعيداً.. يرقص.. يغني.. يقفز كمهرج أعرج.. وسكروا حتى الرمق.. انقلبوا خنازير.. تتقلب على أقيائها، تدب على الأرض تجتث نفسها ثم تجثو..

وهبّت نسائم رخية طرية كسمر غامض مثير، أقعى على قلوبهم وعيونهم نوماً يخور كثور أعمى مشلول..

يا سالم.. هل تحفظ السر.. ما رأيك أن تنام الليلة مكاني يا سالم؟

وألقى في حضنه رزمة من نقود: يا سالم أتعرف.. الرقيب سمير.. الحقير ينافسني. وما رأيك؟ مئة ألف.. طلقة واحدة. يا سالم رصاصة واحدة وأنت ضليع في لغة الرصاص..

ضحك سالم ضحكة أدخلت الرعب والخوف بنفس الضابط.. وقال:

- الدفع أولاً يا سيدي.. الدفع أولاً.. ليس واحداً بل عشرة يا حضرة الضابط عشرة يا حضرة الضابط..

مدّ يده، أخذ رزمة النقود.. والمسدس مع صبيانه، وضحك وانسل بخفة وحذر وهذر.. وكأنه ثعلب من ثعالب القرية..

لحظات ثم عاد.. يطوف حول البيت.. كان الثور لا يزال جاثماً على أزلام السلطة.. ودخل البيت.. بدهاء فتح الباب..

سالم.. سالم.. زوبعة من الحيرة والاضطراب تعربد في نفسها وعقلها.. دوامة من الذهول.. شتات.. حسرات.. دموع، لقاء، تصرخ، تسكت.. زيف، خداع، ندم، مكيدة.. خلاص، نجاة..

هيا.. يا هنية.. أسرعي.. أسرعي.. أسرعي يا هنية.. لقد وضعت المخدّر في الخمر.. والسمّ في الطعام.. أنا نادم.. نادم.. يا هنية هل تقبلين؟

تقبل ترفض.. تضحك تبكي.. سراب وهم.. حقيقة.. نور ظلام..

سالم وهنية.. عجائز شتاء.. وصبايا ربيع.. سالم.. يا هنية.. جاء لينقذك.. لينقذك يا هنية..

ورأت هنية.. لآلىء الندم تغسل ظلام القلب، وتعج بالخير والثراء.. وهوى على الأغلال.. يحطمها.. بحقد دفين.. وغضب سحيق.. وحنق بغيض.. عندها أحسّ سالم: أن سلام العالم كله تفجّر بين جنبيه ماء نميراً.. هيا يا هنية.. أسرعي أمي وهند والأولاد ينتظرون..

دفعها أمامه.. ورأى غرابيب الهزال تنعق على جسدها الضامر.. والسياط أغنية حزن تعالى صداها.. والقيد يسرح أسورة وخلاخيل.

كيف تواصل الطريق؟ كيف تواصل الطريق؟

سالم وهنية.. جلاد وقربان.. أنت الجلاد يا سالم.. أنت الجلاد..

بحفظ الله يا هنية..

قالها عميقة.. قوية.. ندية.. بخشوع، برعشات قلبه التائب.

وسارت قافلة النور.. والظلام جراد يأكل الأخضر واليابس.. والظلام بوم أرعن، وعويل ذئاب.. وعواء خوف ورعب.. سارت والنجوم عناقيد حبلى بالنور.. سارت والقمر صامد أمام الأفوال بضياء سماوي حنون.

رجع سالم.. جر الجثث.. غلّق الأبواب.. وأخذ صفيحة الكاز.. ردها مكانها.. ثم أخذها.. ثم ردّها.. وأخذت الدوامة تقتلع روحه.

أشعل النار في البيت.. أحرقهم يا سالم.. بل أحرق نفسك يا سالم.. أنت الجلاد يا سالم أنت الجلاد أحرق نفسك.. ستكون بطلاً يا سالم.. مدرسة سالم عبد المجيد.. مؤسسة سالم عبد المجيد.. فرقة سالم عبد المجيد.. الخلود بعد الموت يا سالم.. لا.. يا سالم.. لا تفعل.. أنت نادم.. تائب يا سالم.. لا يعذب بالنار إلا ربّ النار يا سالم.. جاءته الحروف سيلاً من مطر تروي جفاف الصحارى.. وصرخ بكل قواه:

- لا.. سآتي يا هنية.. هرول.. أخذ يركض.. يتنفس بعمق هواء عليلاً نظيفاً طاهراً، بل يتنسم عطر الجنان..

سارت قافلة النور.. أجنحة الظلام أم رؤوم.. والنسيم يهدي جرعات الأمل.. حطت رحالها.. والفجر طفل أثغر ببسماته اللازوردية يغري النور، ينتزعه في عناكب الدَّيجور.. وقافلة النور تظللها باقات عطر من ترحيب طهور.

ارتشف سالم الشاي ببطء لذيذ.. ها قد عبر ساحات الضلال كلها (ما أعذب السلام) يمدّ يده برزمة النقود، تضحك زوجته، تأخذها بحنان وحب.. أمه تضحك، تنثر زهر الأقحوان على أرضية الغرفة الصغيرة. و(هنية) تزرع ثمة عوداً يابساُ جافاً أمام النافذة..

يا سالم.. من هذا الجفاف واليباس ستنبت بيادر الأعناب والرمان..

غفت قليلاً في أحضان الأمان بينما كانت السيارة تعبر ساحات المدينة الواسعة، ها قد دخلت مدينة السلام.. وراحت تحلم بغد أفضل وتبسم للغد المأمول.. ودمعة طفرت من عين سالم.. تطلّع نحو السماء، رآها ترفل بالصفاء والغفران. ها قد عبرت ساحات الضلال كلها.