الحنطُور
الحنطُور
بقلم : محمد عبد الله الهادي
وقفتْ ووضعتْ حقيبة مشترياتها أرضاً ، بسطتْ منديلها الأبيض الصغير المطرَّزة حوافه بورُود حمراء ، مسحتْ به قطرات عرق تفصدتْ على جبينها ، نظرتْ لسائق الحنطور الواقف بجوار الكورنيش ولوَّحتْ لهُ بالمنديل ، انتبه لها وراح يهز مقـود حصانه الذي كان يغـفو هـزَّات جعلته يفـيق ويتحرك صوبهـا ..
ـ " على فين إن شاء الله يا أمِّي ؟ " .
ـ " المنشية يا بني .. الله يسترك " .
حنَى جذعه بزاوية حادة وتناول منها الحقيبة ووضعها خلفه ، بينما كانت هي تتشبثْ بحافة كرسي العربة وتصعـد وتستـقر عليه ..
عندما صلصل جرس الحنطور المعدني الصغير برنينه اللطيف ، كان حصان العربة قـد انتظمتْ قوائمه على الإسفلت وأخذت سرعتها المعتادة التي تشبه الرقص الرشيق ، وفرقع سائق الحنطور بالسوط الطويل على أرض الشارع الممتد مع الكورنيش المجاور للنهر ، النهر الذي يخترق فاقـوس ، ولا يخلفها إلاَّ بعـد حين للمزارع الخضراء وحدائق الفاكهة الشاسعة مروراً بالحسينــية حتى آثار صان الحـجر ..
كانت قد خلصتْ جسدها من زحمة وضجيج السوق ، وكفَّتْ عن التنقل بين مفروشات الباعة وعربات الخضر والفاكهة وهي تنتقي وتفاضـل وتفاصـل .. نظرت للشمس التي علتْ بالسماء الصافية وشعرت بحماوتها ، أدركتْ أنها تأخرتْ ، وأن عليها أن تُسرع الآن بالعودة للدار لكي تعـد الطعام قبل أن يعـود أفراد الأسرة من أعمالهم المختلفة ، ثقلتْ الحقيبة في يدها وأحسَّتْ بوطأة حملها وصحَّتها التي لم تعـد تحتـمل ..
فرقع السوط بصوت عالٍ والحنطور يشق طريقه بين المارَّة والمركبات ، ودَّتْ لو يطير بها طيراً ويحطّها حالاً في دارها لتلحق وقتها وتنجز عملها . تطلعتْ لماء النهر الأسمر العفي الذي تتدفق أمواجه صوب الشمال ، والوجه الذهبي اللامع للشمس الحامية يتألق على سطحه ، رأته وهو يعدو معها فوق الموج صوب الظهيرة ولا يفارق سرعة الحصان .. سألت نفسها بلومٍ : كيف سرقها الوقت المخادع وجرى منها هكذا ؟ .. هل يعودون بعـد الظهر فلا يجدون طعامهم جاهزاً على المائدة كما اعتـادوا ؟ ..
ودَّتْ لو تبادلتْ الحديث مع سائق الحنطور الشاب الذي يقي رأسه بمنديلٍ عريضٍ ويرتدي جلباباً فضفاضاً ، فهو في نفس عُمر ولدها " منصور" تقريباً ، ودَّت لو تقول له إن " منصور " الذي أسمته على اسم المرحوم خاله ، والذي يقيم هو وأسرته معها في نفس الدار ، يهزهز قلبها كعصفور صغير عندما يرفع كفَّيها الاثنتين لشفتيه ويقبِّل ظاهرهما ، وهو يردد مفاخراً بشطارتها أمام الجميع : " تسلم إيديكي يا ست الكُل " . وزوجته " نجلاء " التي تعمل معلِّمة معه في نفس المدرسة ، والتي تقوم بكافة أعباء الدار وتترك لها أمر الطعام ، تردد أيضاً نفس الكلام عندما تساعدها في إعداد المائدة التي ينتظمون حولها بعـد عودتهم : الحاج " عطيَّة " من المكتبة ، و" نجلاء " و " منصور " والتوءم " شادي " و " فادي " من المدرسة . يكفي الحاجة " بدريَّة " أن تفعل هـذا كل يوم برغبة حقيقية وطيب خاطر ، سعادتها الكبرى تتجلَّى في هذه اللحظات عند سماعها ذلك الكلام الذي يمدح طعامها و " نفسها " الحلو ، الذي يجعلهم يأكلون بشهيَّة ونفس مفتوحة ، فتتبخر آنئـذ لحظات التعب في سماء وردية من السعادة ، تؤكِّد لها رغم تقدُّم العُمر أهمية دورها الحيوي في حياة أسرتها .. فتتمتم من بين شفتيها : " الحمـدُ لله " .
تفعل الشيء ذاته عندما تزور ابنها الأكبر " محمود " في شقته ، أو ابنتها الوسطى " فاطمة" في شقتها .. كيف تستسلم للوهن والكبر وهي ترى زوجها الحاج " عطية " الذي يكبرها يرفض الراحة أو الجلوس بالدار ، بعـد انتقاله للمعاش من عمله الكتابي بـ " شونة الحبوب " ؟ ، ما إن تسلَّم مكافأة نهاية الخدمة بالحكومة حتى فكَّر في مشروع المكتبة مع زوج " فاطمة " ، وساهما معاً وافتتحاها واقتسما العمل بها ، يعمل الحاج بها من الصباح حتى بعد الظهر ، ويتسلمها هو بعـد عودته من عمله الحكومي بمكتب الصحَّة حتى آخر النهار .. وتبلغ متعة الحاجة " بدريَّة " الكبرى ذروتها في الأعياد والمناسبات السعـيدة ، عندما يجتمعون جميعهم ـ الأبناء والأحفـاد ـ في دار العـائلة ..
فرقع السوط على الإسفلت ، وأدركتْ أن السائق مشغول عنها بالطريق ، و" حدوات " حوافر الحصان التي تخبط الأرض تصنع إيقاعاً منتظماً ، والجرس اللطيف يصلصل وينبه المارَّة ، والحنطور يقترب من كوبري " الوحـدة " الذي لم يعـد يحمل من الذكرى سوى الاسم ، والشارع المواجه له ، الممـتد حتى دارها التي تقع في نهايته ، تتغير أحواله وأسماؤه بمرور الأعوام ، ودارها باقية كما هي على حالها القديمة كما أقامها الحاج في مقتبل العمر. عندما أقاموا الكوبري أيام " عبد الناصر " وزمن الوحدة المصرية السورية ، علَّقوا على حائط " الشونة " القديمة لوحة زرقاء مكتوباً عليها باللون الأبيض " شارع شكري القوتلي " ، لكن ناس فاقوس ظلُّوا يعرفونه بشارع " الشُونة " ، وعندما أُزيلت " الشونة " منذ سنوات بعـد أن ترك الحاج العمل بها وانتقل للمعاش ، عادتْ الأرض لمالكها الأصلي الذي باعها مع الانفتاح الاقتصادي لشركة المياه الغازية . مرَّتْ الأعوام ونسي الناس " الشونة " واسمها . ودارها التي كانت وحيدة في ذلك الزمن الذي يبدو بعيداً الآن ، والتي كان من الممكن رؤيتها بالعين المجردة من عند الكوبري ، اختفتْ تماماً بعـد أن اصطفَّت على جانبيها البيوت الكثيرة والعمائر العالية المكدَّسة بالسكَّان ، والمحلات التجارية التي راجتْ وكثرتْ وجعلتْ الحاج " عطيَّة " يفكِّر في مشروع المكتـبة مع زوج ابنته ، فهو لا يطيق الجلوس في الـدار بلا عمل ..
ـ " شارع الكاكـولا يا بني " .
هتفتْ ، وتذكرتْ العربات القليلة التي كانت تدخل الشارع الهادئ في الماضي في مواسم الزراعة حاملةً أجـولة الأرز أو القطن أو القمح للشونة ، الآن ازدادتْ أعدادها وكبرتْ أحجامها وهي تدخل وتخرج من الشركة الجديدة ، ويزداد الصخب ويعلو الضجيج يوماً بعـد الآخر ، وينمو خوفها على حفيديها الصغيرين عند ذهابهما أو رجوعهما من المدرسة ..
ـ " حاضـر يا أمِّي " .
قال سائقُ الحنطور لها ، وجذب المقود وأبطأ الحصان من سرعته .. وانبثقتْ الضوضاءُ فجأةً ، وتسمَّر الحصان واقفاً ، وبانتْ الحشود التي تتدافع مقبلةً ، حاملةً الأعلام واللافتات وصور الأقصى والدرَّة وكنيسة المهد . فرقع السوطُ في يد السائق ، والحصان الذي أجفل رفع قائميه الأماميين عالياً ثم هبدهما في الأرض هبدةً واحدةً وعلا صهيله ، واهتزَّ الحنطور بشدَّة ، وخافتْ هي وتشبثتْ بحافة المقعـد . والناس الذين كانوا يتدفقون كالموج الهادر في نهر الشارع ، كانوا يهتفون بأصوات عالية ومتداخلة ومتشابكة ، مالتْ بجسدها للأمام وراحتْ تتطلع بفضول ، ونهض سائق الحنطور واقفاً بعـد أن نزع المنديل العريض عن رأسه وراح يلوِّح به للمتظاهرين . في ثوانٍ صار الحنطور نقطةً صغيرةً سوداء تتأرجح كقاربٍ صغير في عاصفة بحر التظاهر الهائج ، شملتها الدهشة ونبتَ كلامٌ كثيرٌ على شفتيها وطرحتْ بعض الأسئلة في الفراغ ولم يسمعها السائق أو ينتبه لها . الزحام والهتاف والأرض التي تهتز بعنف تحت الحنطور ، وهؤلاء الشباب الذين تسلقوا حائط الكورنيش العريض وكادوا يسقطون بالتزاحم في النهر ، وأعمدة الإنارة القصيرة سوارية اللمبات الكروية البيضاء ، وأشجار الفيكس دائمة الخضرة ، والشمس اللامعة التي وقفتْ على سطح النهر ـ الذي يجري هنا منذ آلاف السنين ـ مع توقُّف الحنطور . وكان النهر والشمس يشاهدان الحدث بشارع الكورنيش ويتهامسان ، قال النهر للشمس : إنه هو الذي حمل صندوق النبي موسى عليه السلام الذي صنعته أمُّه في الزمن القديم ، وأوصله حتى حاضرة فرعون في " تانيس" ، حيث عاش وتربَّى في القصـر الكبـير . فقـالت له الشمس : إنها مازالت تذكر مشهد هروب قوم موسى من مصر لأرض التيه . فأخبرها النهر : إنه مازال يذكرهم أيضاًُ ، فلقد عاشوا هنا منذ عهد يوسف عليه السلام ، وأنه هو الذي يروي الأرض والزرع والضرع والجنان في أرض " جاسان " منذ آلاف السنين ، " جاسان " التي منحتْ لمدينة فاقـوس اسمـها . قالت له الشمـس : إنها تعرف ذلك ، وتبعثرتْ بغضب قطعاً ذهبية على قمم الموج وهي تشكو للنهر ، قالت : إنها تبكي بدموعٍ حارَّة عندما تشاهد جرائمهم كل يوم في رام الله ونابلـس وجنـين وغزَّة وبيت جالا في فلسطين . مـدَّ النهر كفَّه ولملم بحنو وجه الشمس وأعاده قرصاً لامعاً ، وخبط جرانيت حائط الكورنيش وهو يؤكِّـد لها : أن الحق واضح " مثلك يا أختاه " ولن يضيع . أشارت الشمس للمتظاهرين بأصابع أشعتها وقالت للنهر : قـلْ لهم ألاَّ ينسـوا التاريخ وأن يظلـُّوا يقظـين ..
واستمر الهمـس بين الشمـس والنـهر ..
هل وصل الهمس لمسامع الحاجة " بدريَّة " ؟ ، التي رفعتْ كفَّها فوق عينيها تستجمع وتركز بصرها في الحشود المتدافعة ، لمحتْ ولدها " منصور " ، لم تصدق عينيها ، كان وجهه مضرجاً بحمرة الدماء ولامعاً بحبَّات العرق وهو يجأر بالهتاف ، لم تتبين صوته المفرد المندفع من فمه في موجة غضب مع الهدير الجماعي ، لم تتبيَّن حتى بوضوح معنى الهتاف الصارخ ، إلاَّ بعـد أن اهتـزَّ بها الحنطور بشـدّة تحت قفزات السائق ، الذي صار مهتاجاً في موضعه وهو يصرخ معـهم :
" يا شارون يا خسيس ** دم العرب مش رخيص "
لوَّحـتْ بمنديلها الأبيض الصغير وهي تجاهد بعـلو الصوت :
ـ " منصـور .. منصـور يا بني .. منصـور " .
رأته يندفع مع التيَّار للأمام ، رأته صورة طبق الأصل من الخال الشهيد ، الذي أسلم الروح على مشارف " القنطرة " في آخر حرب مع إسرائيل ، هل تتناسخ الأرواح حقاً ؟ .. سبحان الله ! .. أخوها " منصور " آخر العنقود في إخوتها ، الولد الشقي الذي كان أقربهم لقلبها . كانت حاملاً حملها الثالث والأخير بعـد بطنين حملتْ فيهما " محمود" و " فاطمة " ، عندما جاءهم خبر استشهاده مع تحرير المدينة القابعة على ضفة القناة .. وانبثقت صوره في لحظة بكل الرءوس وعلى كل الحوائط : " منصور " الطفل .. " منصور " الطالب المشاغب بالرحلات المدرسيّة .. " منصور " المتظاهر مع طلبة الهندسة .. " منصور " المتفوق الذي يحمل الشهادة .. " منصور " الجندي المجنَّد بسلاح المهندسين .. " منصور " صانع البطولة بالمدينة المحررة .. " منصور " ...
ولمَّا جاءها المخاض وأنجبتْ آخر عنقودها بين يدي أمِّها ـ التي رحلتْ بعـد ذلك بعام ـ رفعته الجـدَّة العجوز بالقرب من عينيها ، وتأملتْ ملامحه الطفلة التي لم تبن معالمها بعـد ، وقالت كلمـةً واحـدةً بصوت مبحـوح :
ـ " منصـور " ..
ـ " منصـور .. منصـور يا بني .. منصـور " .
كانت تظن أنه ولابد يسمع صوتها ، فهو حتى بعـد أن صار رجلاً مازال في عينيها الطفل المطيع الذي يأتي لها على عجـل ، ويرفع كالعادة كفَّيها لشفتيه ، وأن هؤلاء الناس الغاضبين جـداً معه لابـد أنهم يعرفونه حق المعرفة ، هو معهم ومنهم ، لابـد أن ينبهوه ويقولـوا له :
" أمك بتـنادي عليك يا منصـور .. رحْ لها بسرعة " .
رأته وهو يهتـف ويندفع بغضـب ويختفي فجأة بين الجموع عن عينـيها ..
افترت شفتاها ببسمة واهنة .. ما هذه البسمة المعلَّقة على ركني شفتيها ؟ .. ولماذا طفر الدمع من بين جفونها ؟ .. عادتْ للوراء ومسحتْ دموعها بمنديلها الصغـير .
هل تحكي لسـائق الحنطور حكاية " المنصُورَيْن " ؟ .. " منصور " الأخ الذي استشهـد منذ سنين ، و" منصور " الابن الذي يتظاهر الآن من أجل القضية التي أخذت أحداثها ـ منذ أن وعتْ الدنيا ـ عمرها كلّه ؟ .. أين سائق الحنطور ؟! .. فُوجئت بأنه لم يكن في موضعه خلف الحصان ، تطلعت حواليها .. أين اختفى ؟ ، كيف يتركها ويترك عربته مصدر رزقه ؟! . قلَّبت عينيها يميناً وشمالاً ووجدت جموعاً أخرى متدافعة من فتيات المدارس الصغيرات بزيهن الأزرق الموحَّد ، كن يحملن صبيَّة جميلة جداً على الأكتاف ، ترفع بدورها صورة لفتاة أجمل اسمها " وفاء إدريس " ، وكن يهتفن لها بأصوات أنثوية حادة الوقع لم تستكمل نضجها بعـد . وعاد حصان العربة للصـهيل الحـاد ، وراح يـدق بحوافره الأرض بغضب ، وشعيرات كفله تبللتْ بماء العرق الغزير ، واهتـزَّ الحنطور بها بعنف ، وخافتْ أن تنقلب بها العربة وتسقط ، أو أن يندفع الحصان بغضب ويولِّي هارباً على غير هُدى في شوارع المدينة المترامية الأطراف .. فكَّرتْ بالنزول ، لكن حقيبة مشترياتها ثقيلة ، والـدار التي لم يعـد بإمكانها رؤيتها الآن كما كان في الماضي ما زالت بعـيدة ، ولم يعـد للعجَلة معنى ، و" منصور " مع المتظاهرين .. ما الذي أصاب السائق ؟ ، كيف يتركها وينضم للمظاهرة ؟ . الحصان يضرب بحوافره الأرض بشدَّة ، والأسئلة العشوائية تناوش رأسها بلا إجابات قاطعة ، وكل الاحتمالات واردة ، ونقطة الحنطور السوداء تتحرك ببطء كقارب يتأرجح عكس التيَّار .. خـفَّ الضجيج والهتاف قليلاً ، صار مبعثراًً في نهاية الحشد بين حناجر الشيوخ وكبار السن . مالتْ للأمام مرَّة أخرى واستجمعت نظرها الكليل ، خمَّنتْ أن زوجها الحاج " عطيَّة " لابـد أن يكون واحداً منهم ، سمعته ليلة البارحة يتصل بزوج " فاطمة " ويطلب منه أن يزود المكتبة بمزيد من الأعلام .. هل أوصد بابها وانضم إليهم ؟ ، بالتأكيد سيسمع صوتها وهي تناديه . حـدَّقت بتركيز ، لكنهم بانوا في عينيها متشابهين إلى حدٍ كبير ، برغم اختلاف ملبوساتهم أو رءوسهم المشتعلة بالشيب أو المغطَّاة بالطواقي أو الكوفيَّات الفلسطـينية .. كانت وجوههم المحفورة بالأخاديد ، ولحاهم النابتة أو الطويلة ، وأصواتهم الواهنة بالهتاف الحكيم تنبئ بالزمن الذي جرى بهم سريعاً وسلب منهم الكثير في مشوار العمـر .. يا الله ! .. كانوا كلّهم صوراً مستنسخةً من الحاج " عطيَّة " ..
عادتْ بظهرها للوراء ، ابتلعتْ ريقها وتنهدتْ ، ما هذا الدمع الذي يأخذ مجراه على أخاديد وجنتيها ؟ ، لماذا صارتْ دموعها قريبة هكذا وتبكي كثيراً هذه الأيام ؟ .. المنديل الأبيض الصغير يعصر ماء دموعها على كفِّها المرتعشة ..
قفز سائق الحنطور فجأة إلى موضعه أمامها وقبض على مقود الحصان وراح يهزّه ، أدار وجهه الذي ينضح بالعرق ناحيتها ، وصوته الناهــج بالاعتــذار يخاطبها :
ـ " معلهش يا أمي .. أنا آسـف .. عارف إنك مستعجلة " .
أشاحتْ بمنديلها الأبيض الصغير المبلول والمطرَّزة حوافه بورود حمراء ، وقبل أن ترفعـه لعينيـها الغارقتين بالدمع مرَّة أخرى ، كان صوتها يتهجَّـد بالتسامح :
ـ " خلاص يا بني .. على أقل من مهـلك .. ربنا يحميـكم لشبابكـم " .