نار وظلام
نار وظلام
بقلم غرناطة الطنطاوي
وقفت في مفترق الطرق حائرة مضطربة لا تدري إلى أين تذهب...
قادتها قدماها المرتجفتان نحوي، دقّت الباب بعصبيّة، هرولت لأفتح الباب لصديقتي ذات السبعة عشر ربيعاً، دهشت لرؤيتها، فوجهها الجميل المرح تحوّل إلى بركان من القهر والعذاب، باهت اللون، شفتاها تهتزان كعصفور جريح، أمسكت بيدها الباردة وأجلستهـا وسكّنت من روعها، فقصّت عليّ قصتها وروحها تكاد تخرج مع كلماتها.. إنها تعيش مأساة والديها المختلفين في كل شيء، كالمستقيمين المتوازيين اللذين لا يلتقيان.
أمّها امرأة متحررة والتحرر في نظرها يعني الانسلاخ عن كل ما يمتّ إلى الدين والأخلاق السويّة بصلة ، تزوجها والدها على أمل أن يهديها إلى الطريق السوي ، بالحب والتفاهم والإقناع. كان يحاول إقناعها بعظمة الإسلام، وبسمو المرأة الطاهرة المحجبة ومكانتها في المجتمع. ولكنه كان - في الوقت نفسه - عصبي المزاج متسرعاً. ويحسب أن في وسعه أن يحوّل هذه النكتة السوداء في قلب زوجته إلى نور يشعّ عليها ويغيّر من موازين حياتها بين عشية وضحاها ، كأنّه يمتلك عصاً سحرية ..
في بداية الأمر لاحظت (أم خلود) سخف الحياة التي كانت تعيشها وتفاهتها، فهي تتنقل دائماً من حفلة لأخرى، تعلمت من خلالها الكذب والتلاعب واحتكار العواطف، وتقديمها دفعة واحدة عندما تلوح لها مصلحة أو منفعة ، فهي تعيش في دنس مستمر إلى أن جاءها العريس الذي انتشلها من مستنقع الوحل والجرب النفسي إلى منتجع الطهارة والنقاء، فلبست المحتشم من الثياب، وهجرت المبتذل من الكلام، ولكن زوجها لم يقنع بهذا ، فالمرأة عنده يجب أن تكون رهينة البيت، بعيدة عن كل ما يسمَّى بالعلاقات الاجتماعية.. حاول الأصدقاء الأوفياء أن يفهموه أن ديننا دين يسر وليس دين عسر "يسّروا ولا تعسّروا".. وأنه وأمثاله يشوّهون الإسلام بسلوكياتهم الخاطئة ولكن لا حياة لمن تنادي.. فالمرأة للطبخ والجلي وتربية الأطفال والحبس في البيت.
استغلت صديقاتها القديمات هذه الثغرة في حياتها، ورحن ينفثن من خلالها السموم والشكوك.. (إن زوجك يريدك أن تكوني متخلّفة.. يريد أن يقتل طموحك ويطفئ جذوة شبابك.. إنه..إنه..إنه..) حتى داخت المسكينة، وخُيّل إليها أنها وقعت فريسة مؤامرة دنيئة من زوجها المتعصّب المتخلّف.. انتفضت جوانحها أوتيت من قوة.. وراحت تفكر في الطريقة التي تثأر فيها لنفسها، فلم تجد غير ابنتها (خلود) بنت السبعة عشر ربيعاً لتنتقم من زوجها بها.. بابنته التي طالما تعب في تربيتها..
راحت تغري الصبية الجميلة البريئة ، بفاخر الثياب ، وأحلى النزهات ، وأفخم المسابح المختلطة، وألبستها (المايوه) ، والوالد في تجارته ومشكلات السوق سادر لا يدري ما يجري في بيته ، وبدأت الذئاب تحوم حول (خلود) والأم فرحة لانتصارها على زوجها وعندما علم زوجها بالأمر جُنّ جنونه، وطلّقها طلاقاً بائناً لا رجعة فيه.. وحبس ابنته في غرفة صغيرة، حرمها من مدرستها وصديقاتها كأنه يريد أن يغسلها من أدرانها ليعيد إليها الطهر والعفاف، ولكن الصبيّة المرحة التي لا تكلّ من اللعب والمرح.. ضاقت بما هي فيه ، وأعلنت عليه وعلى أفكاره الحرب .. وهربت من غرفتها بطريقة تعلمتها من إحدى الممثلات في فلم تلفزيوني .
جاءتني تشكو حالها مع أبيها ، وتسبّ وتشتم هذه الأخلاق البالية التي لن تستطيع الصبر عليها أكثر مما صبرت.. حاولت أن أقنعها بالعودة لوالدها وحذّرتها من أن الطريق مليء بالأشواك والذئاب والشياطين الذين يوسوسون لها ويلوّحون بالمغريات، وأن الأيام كفيلة بإصلاح ما مضى ، وليس لها من حصن يحميها من عوادي الزمان إلاّ بيت والدها، والاعتصام بحشمتها وأخلاقها.. وأن عليها أن تصبر عليه وتتحمله من أجل اجتياز هذه المحنة بالصبر والتحمل: (فأنت فتاة متعلمة ولا يجوز لك أن تغلطي مثل هذا الغلط الذي يقودك إلى الهاوية.. وأن الأيام كفيلة بإصلاح ما مضى..)..
وهكذا بقيتُ ساعة من الزمان أتحدث إليها ، وأثير فيها معاني الفضيلة ، وهي مستسلمة
لما أقول ، قد أسندت رأسها إلى صدري كقطة أليفة ، ولكن.. يبدو أن فظاعة ما جرى أمام
عينيها ، بين والديها، وما تعرّضت له من سوء معاملة ، ومن مغريات كانت أقوى من
كلماتي التي كنت أدغدغ بها عواطفها، وألمس جوانب من عقلها ومكامن الفضيلة فيها،
ضحكت خلود ضحكة هستيرية متوحشة، وانفلتت من بين يدي مهرولة، ولفّها الظلام .