رشفات من الحياة
قصة قصيرة
رشفات من الحياة
قصة: نعماء محمد المجذوب
مربعات رسمناها بالحكك فوق الأرض الملساء، أنا وسمية، تشابكت خلالها أرجلنا من القفز بينها، والحجر الصوان المستدير لا يهدأ، ولا يقر له قرار، تتقاذفه أقدامنا الصغيرة من مربع إلى آخر، وقد يكونان حجرين اثنين، يتصارعان، ويتسابقان نحو الهدف، ويغضبان، فيتطاير الشرر من بينهما، فتبرق منه أساريرنا
كنا على موعد كل يوم تحت القنطرة الأثرية في الحي، ولعبة "العفريتة" كما يسمونها كانت اللهو المفضل لدينا، نستمتع بالقفز داخلها كالعفاريت، وفي الشتاء كانت زخات المطر تنساب خيوطاً خيوطاً من حواف القنطرة، فتمتزج بالتراب، وتجعله لزجاً يعيق حركات أقدامنا، فنتغلب عليه بخفة قفزاتنا، ونحن نرُّد عن وجهينا شعورنا المبللة، وتزيدنا الرطوبة نضارة وبريقاً... نستغرق في القفز بنشاط وحيوية دون كلل أو ملل، لا ينبهنا إلى ضرورة الافتراق إلا خفوت الضوء، والشمس تنحدر نحو الأفق، وتغبش لدينا رؤية حدود مربعات "العفريتة" .
كالمعتاد، حددت شكل اللعبة، والحجران الصغيران يرقدان في مخبئي ينتظران سميحة.... تأخرتْ.. أخذتُ ألعبُ مع نفسي، ألقي الحجر، أقفز، وعيناي تجولان هنا وهنالك، عسى أن تطل سميحة من بين الناس.
كانت سميحة ذات شعر أحمر، ينسدل على كتفيها برقة، ووجهها مورّد، تناثرت فوق صفحته حبات النمش المنمنمة، وتكثفت فوق أنفها، وعندما تقبل يقفز المرح مع خطواتها، فتعبر بوابة القنطرة كالسهم، وتتلاقى ضحكاتنا بعفوية، وتتشابك أيدينا ببراءة، ونبدأ اللعب... نلقي حجرينا، تلاحقهما أقدامنا، تدفعها داخل المربعات المنسقة، نتجنب مسّ حدودها، وإن أخطأت إحدانا، ندّت من فم الأخرى ضحكة الفوز.
اليوم طال انتظاري لصديقتي، لم أستمتع باللعب من دونها، انتابني قلق، أحسست بخطوات الوقت ثقيلة، وضاقت بي مربعات "العفريتة" على تعددها، ثم.. راودتني فكرة استدعائها.
كان صدري كالماء الصافي، لم يكدر نقاءه تجربات الزمن، كنت كبرعم مغلق، يتفتح على أخلاق البيئة والحياة شيئاً فشيئاً، لترسخ ظلالها في أرضية أعماقي الغضة، لم تمتزج بحزن، أو ألم، أو اصطدام بأي عائق يعيق نموّ نفسي.
تأخر سميحة أربك تصوري،.. لم أتوقع أمراً ما وراء الانتظار، هرولت وأنا أقفز قفزاً مع إيقاع نشيدي المفضل:
"يا تراب الوطن ومقام الجدود ها نحن جينا لمّا دعينا إلى الخلود"
وصلت إلى حارة سميحة، والحجران يثرثران في مخبئي، صعدت السلم الحجري المصقول، وكثيراً ما تعثرت بذيل ثوبي الطويل، ولكن كفيّ الصغيرتين كانتا تردان الصدمة، فأتابع صعودي، وألتوي مع التواءات السلم الأثري، ونظراتي بين صعود وهبوط تقدر مدى تقلص الارتفاع.
واجهني الباب مفتوحاً على مصراعيه على غير عادة، لمحت في حوش البيت الواسع نسوة يمجن في اضطراب، وأصوات مرعبة تصدر منهن، تتزاحم ويختلط علي فهمها وإدراكها، كن يضربن وجوههن، ويشددن شعورهن، ويشققن جيوبهن، وقد تلفعن بالسواد، وزكم أنفي رائحة غريبة تفوح في فضاء الحوش.
هلعت.. انتابني فزع.. وبدافع من حب الاطلاع اخترقت الجموع المحتشدة كي أتعرف على الحدث الذي رجّ البيت الآمن، وحوّله إلى مأتم ضجّ بالنواح والعويل.. ارتعدت ركبتاي، وارتعش جسدي، وتسارعت دقات قلبي، وأنا أسمع اسم "سميحة" يتردد بين الشفاه، وينطلق مع الدموع والأنين.. تجاوزت حوض الزرع، لمحت هرة سميحة منزوية تحت شجرة الريحان تموء بصوت تفطّر منه فؤادي، ثم ساقتني قدماي إلى غرفة اشتد فيها زحام النسوة، واستطعت أن أمرق من بينهن.
يا للهول!!!
ماذا أرى!!!
سميحة مسجاة فوق طاولة وهي خامدة الأنفاس بوجهها الملائكي، مسبلة الجفون، شاحبة اللون، انسدل شعرها الأحمر حول كتفيها العاريتين، تحيط ابتسامتها الرقيقة وجهها الطفولي، وقد انفرجت شفتاها عن أسنانها التي تساقطت حبات منها أودعتها الشمس، لتستبدل بها أسنان الغزال كما كنا نعتقد.. وكان ما بقي من جسمها قد وشح بملاءة حريرية قُيّدت بها قدماها، وترك وجهها مكشوفاً لتلقى عليه نظرات الوداع، ونثرت الورود والأزهار فوقها.
شعرت بالحياة تنسلّ من جسمي، وقفت عند رأسها أمسح وجهها بكفي، ثم أمررهما على جسدها من فوق الملاءات، أبحث عن أناملها الغضّة التي طالما تلاقت مع أناملي، وتجاوز الحجر الصوّان بينها.. لم أعثر عليها، كانت قد دست داخل الملاءات العديدة.. لم تتحرك حبيبتي سميحة، لم تفرح بلقائي كعادتها.
الآن، فقط الآن، أدركت معنى الموت، عرفت ألم الفراق، وقفت أودعها في رحيلها الأبدي، وفارت دموعي من عيني، وقبلت شفتاي المرتعشتان وجهها البارد.. ثم خرجت وأبعاد الموت تلاحقني.. وفي طريقي انكببت على قطتها الحزينة أمسح جسمها المستكين بذل، وأواسيها بنظراتي ولمساتي، وكلماتي الطفولية عجزت عن التعبير عن موقف أكبر من سني عمري، بل ومن الحياة كلها.. ثم تابعت خطواتي وقد أثقلني الهمّ، وأنا أحمل في صدري أول صورة للحزن، لم تنطق شفتاي بشيء، كان في داخلي بحر يعوم بغم لزج وريشة بيدي ترسم وجه سميحة فوق كل مكان رتعنا فيه.