أنا وهي..
قصة قصيرة
قصة: عبد الرحيم منصور
كنت
أسير ساهماً أفكر، وأنا في طريق عودتي إلى البيت حين ولدت حية.. حرة.. خرجت من
مسامات رأسي، من بين الشعر الأسود المطرز بالبياض، بخاراً، تكاثف وتكاثف، ثم تشكل
شرنقة ضبابية لامعة، وما إن لامست الهواء، واستحمّت في أشعة الشمس، حتى غادرت
شرنقتها، واستقرت بجانبي امرأة جميلة، صارت تثرثر، اعترتني قشعريرة الخوف، صرت
أتلفّت حولي خـائـفـاً
- عودي إلى شرنقتك الضبابية اللامعة، حاولي أن تنامي، فالوقت غير مناسب، توقفي عن النمو..
قالت محتجة:
- ولكني لم أولد من رحم أسئلة الخوف لأنام! ولدتُ كي أعيش، أنمو، أكبر.
زعقت.. صرخت.. ضجت.. استنفرت كريات دمي..
إنها تقف إلى جانبي بقوة وإباء، قلت معترفاً:
- إنها محقة، لماذا يعيش الناس؟ لماذا أعيش أنا إذن؟ إذا كنت أنا وأمثالي سنمنعها من الانطلاق؟
سألتْ مغضبة:
- هل أنت خائف؟
قلت: نعم.
قالت: لا.. أنت مهزوم، أنت لا تحب الحقيقة، شعورك الإنساني يتآكل يفنيه الخوف بدل أن يحييه.
إنها تسير إلى جانبي بكبرياء، قلبي يرتجف من الخوف. تمنيت لو أنها عادت إلى الشرنقة الضبابية اللامعة، ثم تلاشت في الهواء.. ولكنها بالرغم من ذلك جميلة.. مثيرة.. أحببتها من كل قلبي..
قالت بطلاقة وصرامة:
- الخائف يدافع أسباب خوفه، يثور عليها، يحاول أن يبرّدها.
ثم أردفت: الخوف مصنع الأفكار الحرة، مدد النور فيها، ملهم التدفق. الخوف هو البطولة تتفجر به وفيه، وكل فكرة ليس منبعها الخوف الدافع، تولد ميتة.. باهتة.. تأتي من رحم النفاق والغش..
قلت لها: أنا معك، أحبك، أصدقك، ولكني لا أستطيع أن أبوح.. لا أستطيع أن أتكلم، الرقابة صارمة، والقيد ضيق..
قالت: إذن دعني أذهب، أنا أستطيع أن أتنقل من مكان إلى مكان بسهولة ويسر، أنا عصفورة.. زهرة.. قطرة ماء.
قلت: أخشى عليك يا فكرتي الوليدة، أخشى عليك الذبح، فالأفكار الحية محاصرة، محكوم عليها بالموت جلداً وذبحاً.
قالت: حرتُ في أمرك، لماذا استدعيتني؟ لماذا مهدت لي طريق الولادة؟ لماذا أنا هنا معك أجري في دمائك، وأفترش أوعية دماغك، وأتدثر بتلابيب قلبك، لماذا؟!!
كل فكرة يحاصرها الخوف تموت إذا لم يدافع عنها صاحبها..
أنا عصفورة يجب أن يسمع أمثالك تغريدي وغنائي.
أنا زهرة يجب أن تمتد فروعها إلى القلوب، وتقبّلني الشفاه، ويشم عطري الخائفون لينهضوا.
أنا دمعة أخدُّ أخاديد الثورة في وجه الثوار.
أنا قطرة ماء أبلل شفاه العطاش إلى الحرية.
أنا.. أنا.. أنا.. حُرت فيك، أكاد أفقد فيك الأمل البازغ.
دعني.. دعني أخرج وأتجول، وتجلّد أنت وسوف ترى كيف تتهاوى أشباح الخوف ميتة عند أقدامك؟
قلت: لا أستطيع، لا أستطيع أن أتخلى عنك، لا يمكن أن تنفصلي عني، وتخرجي وحدك، إني أحبّك، وستبقين معي، فقط امنحيني فرصة كي ألملم شتات نفسي، أستجمع قوّتي.
وصلنا إلى البيت وقبل أن اختفي وراء بابه، تلفتُّ حولي في الشارع، وفي الطريق، هل من رقيب؟!!
ولكنها ما زالت تثرثر، تستفزني، توبّخني، تذكّرني بمواقفي "الشجاعة" في السنوات الماضية، بتشدّقي أمام الجموع، وفي السهرات والندوات..
دخلتُ الغرفة، أغلقتُ الباب بإحكام، أوصدتُ النوافذ وأسدلتُ الستائر، وهي تضحك.. تقهقه، قالت هازئة:
- والآن: هل تخشى الاستماع إلى المذياع؟
ثم تمددتُ على السرير، إني أحاول أن أستريح، ولكنها تمنعني، تقلقني في الحلم وفي اليقظة. قلت:
"سأهادنها، سأحقق بعض رغباتها"..
التفتُّ حولي أبحث عن المذياع.. لم يكن في الغرفة، الجو مشحون بالخوف، اضطررت لفتح الباب ثانية، والخروج من الغرفة إلى غرفة أخرى، لأحضر المذياع. ماذا أفعل؟ إني متسربل بالخوف، وهي تضحك..
هرة قفزت من السطح، كانت تركض، يحاصرها هرٌّ ضخم يجري خلفها، الهرة الخائفة تعثرت ببعض الصحون لما فوجئت بي أمامها مشدوهاً كالعمود.. ضحكت وأنا أرتجف من أعماقي.. لقد أفزعتني يا هرتي!! فهل خفتِ أنتِ مني أيضاً؟
أحضرت المذياع، بلا شعور، أدرت بصري في أرجاء الدار، وعلى حوافّ الأسطح، هل رآني أحد؟ ثم دخلت غرفتي وأغلقت الباب بإحكام، قلت لها:
- هيه لقد أحضرت المذياع، أين تريدين؟
قالت: أية محطة!.
قلت: أرى أنك تتعاطفين مع الصمت، مع التعتيم، مع النفاق، مع الكذب، فمعظم الإذاعات لا تبثُّ إلا الغازات السامة أو الملوثة.
قالت: ما دامت رقبتك تحت السكين، وما دمت تستنشق أنفاس الخوف القاتل، فماذا يضيرك نفث الإذاعة؟ فقط افتح المذياع، ودعنا نستمع، من أنفاس الكذب والنفاق، نستشف نسمات الحقيقة.
فتحت المذياع طائعاً، صوت المذيع يجلجل، يهدر، يخور اغتنمت الفرصة السانحة، هي تستمع إلى المذيع، وأنا أغط في نوم عميق..
لم أهنأ في نومي كثيراً، فقد زاحمتني، لاحقتني، انسلت في دماغي، اندسّت بيني وبين النوم، أخذتني في سياحة إلى أروقة الخوف، أدخلتني في دهاليز القيد، وقالت:
- انظر، تأمل..
ضاق صدري، أوشك نفسي أن ينقطع، صرت ألهث، أرجوها أن تعطيني إجازة قصيرة، أحسّ فيها بالراحة، بالهدوء، قلت لها معاتباً متودداً:
- ألستِ أنتِ زهرة كما قلت؟
قالت: بلى.
قلت: دعيني أشمّ عبقك لأنتعش قليلاً.
ابتسمت، استنار وجهها:
- إذن لقد بدأت تتجاوب، انتبه إلي، اصغ لما سأقوله لك:
- أنا فكرة وُلدتُ من رحم أسئلة الخوف، أحمل نسغ الحرية، أبحث عن أرض تعشق الحرية، وتستعلي على الطغيان، إن اقتنعت بي فكن جاداً قوياً، صلباً، ازرعني بعناد في مكان تذهب إليه، وأروني دماء قانية حرة، إذا عزّ الماء، كي تهنأ أنت ومن معك بالنوم واليقظة، بالحلم والحقيقة، وإلا.. فدعني أهرب من قفص خوفك، أنا لا أحب الجبناء.
صوت زعيق قوي، أيقظني من نومي جعلني أرتجف.. خلّصني من حلمي معها..
ما زال الزعيق يدوّي، إنها هرتي، تتنمّر في وجه الهر، تدافع عن نفسها، عن كرامتها..
ما أعجزني!! بل ما أكذبني!
من يحبّ يضحي، والفكرة الحية تقتات قلب إنسان حي..
هل أحببت الفكرة الوليدة؟ ادعاء كاذب، ما زلت أجهل كيف يكون الحب، لأني لم أغامر في بحار التضحية، رحم الله من قال: طوقت عنقي بذراعيها، وقالت: ماذا قال؟
قلت بصوت مسموع:
- قال: إن كلماتنا وأفكارنا ما هي إلا عرائس من شمع فإذا متنا في سبيلها، دبّت فيها الحياة..
عندها فقط رأيت الصرامة والجدّ في ملامحها وهي تنسلّ إلى شراييني وادعة لتنام..