جراح بغداد

هيثم البوسعيدي

سلطنة عمان - مسقط

[email protected]

 يقف أمام المرآة، يهتم بترتيب هندامه وتمشيط شعره، قبل أن يقذفه الهم نحو رحلة مملوءة بالتعب والمعاناة...هذا يومه الخامس منذ عودته من " دبـي "...لم ينم جيدا سوى ساعتين فقط..ليودع بذلك أيام الراحة والهدوء...بل آذاه انقطاع الكهرباء وأصوات الرصاص ...أشعلت القذائف سماء بغداد... لتشتعل في داخله نيران الأرق...يبتلعه الظلام الدامس ...يدثره السواد...ويزيد خوفه وحشة المكان.

لم يهمل المرآة كعادته، بل شده الغبار العالق على حوافها، ثم أمعن النظر إلى وجه المصاب بالذبول...تعجب من بروز صلعته وهو لا يزال على أعتاب الثلاثين..لم تدع له قسوة الظروف سوى شعيرات قليلة حتى توقظ أوجاعه الدفينة وتطرق أبوابه المغلقة، أكتشف إن أشياء كثيرة انسحبت من وجهه....أراد الهروب من مصارحة نفسه...لكنه أدار وجهه عن المرآة بسرعة...انتعل حذائه المهترأ....يتثاقل في المشي...ويستصعب الخروج من البيت...بغداد لم تعد آمنة في نظره...إذا لماذا قرر الرجوع، تتساءل نفسه: أهو الحنين إلى بغداد التي ترعرع في حواريها العتيقة ومدارسها التاريخية، أم هو الشوق إلى مقامات أوليائها ومراقد أئمتها.

لماذا عاد إلى بغداد؟ لا دفء أم ولا حنان أب ولا ضجيج أخوة ولا شوق حبيبة، أم هو البكاء على الأطلال الذي يتردد في أذنيه..كم تصدح جدران البيت بهرجهم ومرجهم ...أصوات أباه وأمه وأهله وجيرانه الذين قدموا من فلسطين منذ النكبة الأولى...عاشوا سنيين من الظلم والتشتت والقهر ليستقروا بعد طول ترحال في بغداد حينما أغراهم الأمان وجذبتهم طيبة القلوب.

لكن أين هم اليوم؟ تبزغ وجوه الموتى والأحياء أمام عينيه..غيب بعضهم الموت والإرهاب والتفجيرات، أما الآخرون فقد ارتحلوا إلى المجهول واصبحوا مبعثرين في المخيمات وبين الحدود، ولم يبقى منهم إلا قلة من الأفراد الذين تحدوا الخوف والإرهاب..أوجعه هذا الحال الذي آل إليه بني وطنه في بلاد الغربة، يحس بصوت غريب يخرج من جدران البيت..يناديهم..يشتاق لأحاديثهم..يحن لحفلات التشرد ورقصات الدبكة...يتوسلهم من أجل البقاء...لكن لا مجيب لهذا الصوت الحزين؟

رمق " أسامة" غرفة والدة بنظرة خاطفة..توقف لحظة ليشد انتباهه الصندوق الخشبي الذي يضم أقفال ومفاتيح بيوت حيفا القديمة..ظلت الأقفال والمفاتيح، لكن أصحابها رحلوا

...بجنب الصندوق هناك مجموعة كتب..تاريخ بغداد والقدس وحضارة ما بين النهرين...كتب "والده" الذي علمه تاريخ أجداده العظماء، وغذاه بعادات وتقاليد فلسطين، وزرع فيه حب العروبة، أوصاه بحق العودة لأرض الوطن مهما كانت قسوة الظروف وفضاعة الأحداث...لا ينسى أسامة كلمات والده عن بغداد وحرقة قلبه على احتلال المغول لها، كان يقول دائما إن بغداد قادرة على لملمت الالآمها وستظل شامخة حتى لو أدمتها الجروح.

قبل أن يفتتح الباب، عصر الألم مشاعره لان مأساة العذاب والهجرة يراها الآن واضحة أمام عينيه...كانت فيما مضى مجرد أحاديث تتناقلها الألسن...يخرج من الدار...يحس بالصمت يطبق على الزقاق..يتساءل أين الأطفال؟ خلى المكان منهم ومن أناشيدهم الجميلة...يتراءى إليه طيف خالد ابن أخته، وهو يلعب مع أبناء الجيران...يقفز ..يركض..يلهو...لا يعرف خالد معنى الألم حتى جاءت قذائف وقنابل المغول التي أسكنت في قلبه الخوف والهلع.

يواصل أسامة السير في السكك الضيقة..تتشقق جدران البيوت عن ليالي مظلمة سالفة..تذكره "بخالد" الذي لم يتذوق طعم النوم بكل ما فيه من وداعة...تزوره الكوابيس...تقتل أحلام البراءة في عينيه...كان أسامة دائما يضمه لحضنه ويمسح دموعه البريئة...هو ابنه الذي لم ينجبه...بكى عليه بحرقة عندما جاءه الاتصال الذي أخبره بطرد عشرات الفلسطينيين من بيوتهم في حي البلديات ومن ضمنهم أخته وابنها خالد وابنتها غفران ليقعوا فريسة سهلة بين أنياب الإرهاب ومخالب الميليشيات.

 يواجه أسامة الآن واقع صعب، يغرقه في بحور المعاناة، مهمته شاقة...يبحث عن امرأة  معذبة وأيتام ينهشهم التشرد بعد أن ففقدوا الأب الذي زج به قدره إلى سجون بغداد، لا يجدون المأوى ..يتضمرون جوعا...يطاردهم الموت..ويتسع المنفى في وجوههم.

سحبته ذكرى أخته وأولادها من أزقة الجعيفر الفقيرة لترميه في أحضان شارع حيفا...تمطر الأجواء وابلا من الرصاص...يختبأ في أحد الزوايا..يتوقف لبرهة..تاه نظره بعيدا..زرقة السماء..شدته إلى أيامه الخوالي في دبي حيث أخوه " صبحي" وأسرته، كان سفره خارج العراق بمثابة الهجرة نحو الجنة والابتعاد عن الجحيم، ولم يكن ذلك سهلا لأنه لم يستطيع الخروج من العراق إلا بجواز سفر مزور، وبمجرد وصوله " دبي " تراقص قلبه فرحا وانتعشت أحلامه الخامدة، وصعقه الأمان المنتشر في كل مكان: فلا احتلال ولا أصوات رصاص ولا دماء ولا قذائف مورتر.

مكث هناك أكثر من شهرين ليحس بثقل وجوده بعد أن أضناه التعب وهو يبحث عن عمل في شركات الأعمار والتعمير وهو الذي يحمل شهادة البكالوريس في هندسة التعمير، كان وضع أخيه يثير العطف والشفقة..صبحي يعمل طبيب في وزارة الصحة...نصف راتبه يذهب للسكن...يركض هو وزوجته المعلمة وراء العيش الصعب وسط غلاء الأسعار وتربية الأبناء ومدينة المباني الضخمة التي لا تعرف سوى اللاهثون وراء السراب.

سكت الرصاص فجأة ليستكمل " أسامة " طريقه نحو الشارع...تبتعث من الشارع روائح التاريخ..يشم رحيق الأصالة...يستدل من التراب على آثار العظماء...رغم أكوام الرماد وركام الدمار وحدة الأشواك التي تفترش ثراء القرى وتغوص بها الشوارع.

وقف على حافة الشارع، ينتظر الباص...يتعجب من بغداد..طوت تماثيل الصنم الأوحد...لتمتلأ الشوارع اليوم بأصنام وأحجار من نوع آخر...تأسره النخيل المزروعة في أنحاء مختلفة من بغداد، تلك النخيل تعانق الأرض...تظلل البشر ...تحنو عليهم...بل هي نخيل باسقة ...حية وصامدة في وجه الأهوال.. ترتشف جراح بغداد ..تدون الالالم ..وتغسل الاوجاع...وتطفئ النيران التي تحرق الالاف البؤساء والمحرومين.

توقف أمامه أحد الباصات...ركب سريعا ثم رمى بجسده النحيف على الكرسي الأمامي... التفتت يمينا وشمالا...نظرات خاطفة لكل من في الباص...يرى الوجوه ذابلة وجلة...الكل ينظر للآخر نظرة كلها قلق وارتباك..يحوي الباص قلة من الركاب..أشاح " أسامة " وجهه ناحية " دجلة "، ثم انتابه شعور غريب... يريد القفز من الباص...والركض مسرعا الى دجلة حتى يغمس قدماه في مياهه المغرية..كان يرافق أباه دائما إلى هناك...أباه الذي رآه غارقا في دمائه، وشهد انتحاره أمام عيناه ولم يستطع فعل أي شي...ففي إحدى الليالي السوداء ووسط المطاردات وعمليات الاختطاف، ذهب أباه لزيارة صديقه " أبو العبد " الذي أصيب بطلق ناري في إحدى رجليه...طالت الساعات والدقائق ولم يعود...خرج " أسامة " يبحث عنه في كل جهة...سأل عنه الأهل والجيران والأصحاب حتى أبو العبد نفسه...لكن بحثه كان بلا فائدة...تعوث الميليشات في كل مكان، لتحصد المئات والآلاف من الأرواح...يبحث في كل مكان لكن الفزع واليأس جعله يختبأ في البيت..تلاطمت الأفكار والمشاعر في داخله...لم ينم تلك الليلة وبدأ عملية بحث متعبة منذ صلاة الفجر..ليجد جثمان أباه كتلة لحم بلا معالم...والدم مختلط بأقراص الخبز..لا ينسى أسامة ذلك اليوم المشهود وتلك اللحظات الرهيبة حينما أطبق على شفتيه بقوة ...شعر بالقهر...صك أسنانه بشدة...أنخرط في بكاء هستيري لتنهمر دموع الضياع وتهذي شفتيه بكلمات كلها ألم ولوعة: مات الغريب..مات الغريب..لن يحلم بحيفا وفلسطين بعد اليوم ...كم مزق الظلم أركان نفسه وكم حملت دواخل نفسه غصة سوف تستمر معه لمدة طويلة لا يعلم بنهايتها إلا الله.

أفاق من تلك الذكرى المريرة..وضع يديه بين رأسه...شدته إحدى الخيام المنصوبة بعيدا عن الشارع..أعاد التفكر بمهمته الشاقة..أين يمكن أن يجد أخته وأطفالها؟ سأل كثير من الفلسطينيين في عدة أماكن في نادي حيفا الرياضي وحي البلديات والمنصور ولكن لم يجد لهم أي اثر...ينزف فؤاده الجريح دموع حارقة على مصير كل من يسكن على هذه الأرض المعذبة..الجميع يتقاسمون الألم والمعاناة...يتجه به الباص نحو شارع الرشيد لرؤية جاره السابق أبو علي ...يرن فجأة هاتفه..أنه صبحي..ملهوف لسماع خبر عن الأخت وأولادها...أراد " أسامة " الهروب...لم يجب على الاتصال..يقول لنفسه:كم الهموم التي سيتحملها صبحي ..هم عمله أو هم أسرته..أم هم الأخت المشردة وأولادها...أم هم الغربتين.

يشفق أسامة على أخيه...كان يراه يسهر لساعات متأخرة...ينقل معه الى البيت أعمال الوزارة لأن مدراءه يعاملونه مثل الآلة وهو من الذين يمشون بجانب الحائط.

تلفون صبحي نبش لحظات اليأس المنسية..يتذكر جيدا قرار العودة..يتذكر جيدا أقسى لحظة عاشها هناك..كان يمشي على الكورنيش في دبي ..يلفحه الهواء الحار..ويمتلأ المكان بالحركة وألوان البشر..نفذ صبره من الحصول على العمل..وتسلل الضعف إلى روحه..يئن قلبه لتشرد أخته وأولادها..يشتاق لقبر والده... أفكار وصور كثيرة تزاحمت في ذهنه المتعب..أعقبها فرار دمعة غالية من عينيه...ليقرر بداية رحلة العودة إلى بغداد المحفوفة بالمخاطر.

يمر الباص على عدة نقاط تفتيش..ليقذفه الجسر إلى شارع الرشيد ...يتوق" أسامة" الآن للقاء جارهم القديم أبو علي الذي له علاقة بكثير من الفلسطينيين القاطنين في حي البلديات، كان في رحلة عمل إلى البصرة الأيام الماضية، لعله يرشده على مكان أخته وأولادها.

وصل " أسامة " إلى شارع الرشيد..تكثر في هذا الشارع المحلات والمقاهي..زفر بعمق وهو يهم بالخروج من الباص...أتجه إلى المحلات والمقاهي..أبصر أبو علي في أحد المقاهي...طفح تفكيره بالأمل...اتجه صوب المقهى...لوح أبو علي بيديه دلالة على رؤية أسامة...هو على بعدة أمتار من المقهى ...يعج المكان بالمارة...شخص غريب يلتف بالسواد بأكمله...يقترب قريبا من المقهى...يدخل المقهى...عيناه تشع الشرار..يرمق أسامة بنظرة كره...يركز أسامة انتباه على أبو علي ويفتح شفتيه على ابتسامة مصطنعة وكأنه يقول سوف أعرف الآن أين مكان أختي وأولادها.

فجأة يخرج من ذلك الجسد الملتف بالسواد كتلة كبيرة من النار والدخان...لتلف المكان بأكمله...تصطدم الكراسي والأشياء ببعضها...يلف المكان دخان وروائح كريهة...أصوات وأنات ...ترتطم الأجساد...يسقط " أسامة " مغشيا عليه بعد أن تلقى ضربات قوية من كل جهة ليدخل في عالم آخر...يصحو بعد دقائق ليجد جسده ملقى على الأرض..يخرج من فمه دم كثيف...يسمع أصوات الأحياء...تتراءى إليه أصابع يديه اليمنى الممزقة..تخمد أصوات الموتى...ويسمع صراخ الناس المذعورين...يرى أشلاء مبعثرة ورؤوس متدحرجة...يشم روائح الأجساد المشوية..شي ما يبلله بالكامل إنها الدماء تصدر من كل أجزاء جسمه...أحس بوجع قادم وسخونة قاتلة تأتي من رجليه...لمح رجليه فوجد رجله اليمنى مبتورة وتسبح في بركة من الدماء.

أحس بضياع كل شي...تطبق السماء على صدره ...في تلك اللحظات تمتزج دمائه بتراب بغداد..تعانق جراحه جراح بغداد..يضيع الأمل...وتدخل أوجاعه مرحلة أخرى لتبدأ رحلة شقاء أخرى وتستمر قصة الحزن الأبدية التي سيكون بطلها صبحي الذي سيواجه عاصفة من الهموم والكروب التي لا طاقة له بحملها.