الكلاب.. كيف ترانا
نعيم الغول
"جربها."
لكني ما كنت بحاجة إلى تلك النصيحة قبل ثلاث سنوات يوم سرقت فيللتي أول مرة. أنا لا أحمل كرها لها. أحمل رعبا من الكلاب.
أذكر كيف دخلت يوماً زقاقاً في آخره سور تقطع أوصاله بوابة كبيرة، ووجدت نفسي وجها لوجه مع كلب بدا غاضبا جدا. كنت في الثانية عشرة من عمري حينئذ. وصار وصرت.
فما مفتوحا تكدست فيه أنياب وأسنان ضخمة أسفل عيون ملتهبة.
وطفلا لا يدري سر غضب هذا المخلوق المرعب الذي يقفز للأعلى ويهبط للأسفل محاولا التخلص من حبل يقبض على عنقه،ويمنعه عن تنفيس غضبه المتصاعد عبر نشب أنيابه في لحمي وعظامي، ولا يدري الطفل ما يصنع. لكنه وعى أن يديه بدأتا تمسحان الأرض جيئة وذهابا بحثا عن شيء يرد غائلة هذا الهائج، فما وجدتا إلا رباطا معدنيا تـُربط به الصناديق عند تغليفها، وأخذ يلوّح به في وجه الطاغية الذي ظل ينبح كأنه يريد التخلص من حنجرته، ولم ينته الكرب إلا عندما خرج صاحب الدار وانتهره. فأقعى مرغما وهو يهمر غير راض عن هذا التدخل.
" يا أخي قلنا جربها!"
ورفضت في الثانية لأنه في ذلك الوقت كان لدي قناعة بوجود البديل. قدمت طلبا للحكومة بحراسة الفيلا باعتباري شخصية اقتصادية مهمة في الإمارة. ولكنهم اعتذروا بأدب وجعلوني بطريقة ما أفهم أن لو فعلها غيري لسخروا منه.
قالوا إنهم لا يستطيعون تعيين حارس على كل باب لمنع السرقات، ولكنهم سيحققون، ويسيّرون دوريات في الحي الذي اقطن، تتناوب في أوقات منتظمة.
وأردف رئيس مركز أمن حينا:" وبذلك لن يجرؤ اللصوص على تكرار ما فعلوا مستغلين خلو الفيلا في الصيف."
فقلت مبررا خلوها:" أهلي لا يصبرون على البقاء في البلد في الصيف، ولا يطيب لهم إلا هواء أوروبا وبالأخص باريس الحلوة."
فسارع إلى القول:" حقهم يا سعادة الشيخ. ولهذا أنصحك أن تتفق مع شركة أمن وحماية. أعرف شركة يمكنها تركيب أجهزة إنذار تعمل وفق ما تريد أنت:إما إرباك اللصوص ليتركوا كل شيء، ويغنموا سلامتهم، أو إسماع كل الحي صوت الإنذار فيجتمعوا على اللصوص، أو إطلاق إشارة في غرفة المراقبة لدينا. أو يمكن للشركة أن تؤمن حراسة دائمة للفيلا. والخدمة مضمونة عندي. صاحب الشركة أخي، وهو عميد متقاعد."
ولكن يبدو أن اللصوص كانوا من حملة الدكتوراة في اقتحام الفلل وإبطال أجهزة الإنذار حال انطلاقها. وفي صيف آخر ادعى أهل الحي أنهم لم يسمعوا شيئا مع أن أحدهم قدم شكوى عند تركيب وتجريب الأجهزة لأنها كسرت زجاج فيلته. ومرة جاءت الشرطة لتجد أن اللصوص غسلوا الفيلا وشطفوها ونشفوها بعد تفريغها.
ولم يكن أمامي إلا تنفيذ آخر أو. ولكن حين عدنا من الإجازة علمنا من الشركة أن الحراس اختـُطِفوا مع كل محتويات الفيلا. وطالبتني الشركة بالتعويض عن الفدية التي دفعتها، فرفعت قضية إهمال ضدها ما يزال القاضي المعين للنظر فيها يحلل في خطها السنسكريتي.
" كم أنت عنيد! هل تنتظر حتى يبيعوا الفيلا مفروشة؟"
وبحثت في الإمارة كلها فلم أجد كلاب حراسة تحقق شرطي: أن أحس بالأمان حين أضع عيني في عين الكلب. وتنقلت في بقية دول الخليج، وظلت الرعشة هي أول وآخر ما ينتابني في كل مرة تلتقي نظراتي بنظرات شبرد أو دوبرمان أو بولدوغ أو جوردون. وبالطبع أخرجت كلا من السلوقي والتشي واوا من دائرة بحثي لأنهما أول ما سيسرق.
" أريد حلا!" صرخت.
فاستجاب صديق لصرختي المعتمرة بكوفية اليأس، والثابتة بفضل عقال الأمل. ودلني على خبير كلاب. قال لي اسما وشرح لي عن مذاهب وأديان وخلافات لم ألق لها بالا. اهتممت فقط بالجزء المتعلق بخبرة هذا الشقيق اللبناني. وآخر ما أذكر من كلام صديقي أنه قال:" سيوصلك إلى الكلاب التي يراها ملائمة لك. أنا جربته."
قال الخبير لي عندما صافحني، وهو ينظر في عيني:" المشكلة في الكلب، وليست فيمن ينظر إليه. كيف يراك هو المهم. أنصحك باتباع خطوات محددة عند أول "مواجهة" مع أي كلب."
" لا تتحرك إذا كنت واقفا!"
" لا تتوقف إذا كنت تمشي!"
"لا تتراجع إذا كنت تسير إلى الأمام."
" إذا نظرت إليه أغمض عينيك نصف إغماضة وابتسم."
" في كل الأحوال اترك مسافة بينك وبينه. مع الأيام سيألفك ويطيعك، وسيقبل منك أي تصرف. إنها كلاب يا سعادة الشيخ. وأنا خبير بالكلاب. نصيحة أخيرة لا تعط الكلاب أكثر ما يبقيها حية، ولا تسمح لها بمغادرة المكان الذي خصصته لها." قال اللبناني الشقيق.
وعدت إلى محلات بيع الكلاب في المدينة، لكني لم أستطع أن أطبق طريقته. لم يحدث أن عصتني عيناي كما في تلك اللحظات. كنت أستطيع إغماضهما عند رؤية نساء تذوب الركب وينخلع القلب لرؤيتهن.وكذلك عن بعض ممارسات وزراء شركاء معي في الشركة. أما أمام كلاب حقيقية فلا.
قال لي اللبناني الخبير بالكلاب وبطباعها وبمنافع عزلها:" والله يا سعادة الشيخ ما في حل إلا السفر إلى بيروت. وهناك لا بد أن تجد ما تريد. هذه عندي؛ فهناك بصراحة تتجلى خبرتي بالكلاب أكثر من أي مكان آخر."
قبل الذهاب إلى أماكن الكلاب التي يعرفها أصر على اصطحابي في جولة في شوارع وساحات بيروت العامة ومطاعمها ومقاهيها. واقترح أن نسير على الأقدام. وقال معللا:" كي نريح بالنا بشيء آخر." وشكرته على المشوار. فبيروت ليست مدينة تنظر إليها بعينيك، بل بمسامات جلدك، وحجيرات قلبك، ونخاع عظامك. إلا أنه لرجل جاوز الخمسين مثلي لا بد أن يستخدم عينيه مرغما حين تمر به غادة من غاداتها اللواتي لديهن مهمة واحدة يؤدينها - منذ يقال للواحدة منهن "أنت بنت!" إلى أن يقال لها " لم تعودي بنتا؟!"- يُسخـّرنً لها كل علم وشهادة ودخل وعقل، مهمة إيجاد جواب يلتمسنه في كل عين على السؤال:" كيف تراني؟"
وفي بيروت اكتشفت أن للعري فلسفة في كل مكان إلا فيها. في باريس رأيت كثيرا من ساحراتها لكن عريهن كان استجابة لنداء طبيعي فيهن، وتعبيرا تلقائيا عن حرية دخلت في جيناتهن. أما هنا فهو امرأة تقذف المساحيق على وجهها كيفما اتفق لأنها سمعت في باريس أن المساحيق تعجب الرجال، أو لأنه لا يكلف الواحدة جهدا عقليا يذكر للوصول.
كان كلبا عاديا من فصيلة دوبرمان ذلك الذي قبل أن يدير رأسه الأسود، ويرخي لسانه الأحمر الذي يشبه وشاح بائعة هوى أخذ جسدي لمنظره يرتعش، وساقاي تتلاطمان، وعرقي صار مرقي مع أن المحل مُكيّف.
سحبني الخبير إلى الوراء وقال بحزم :" خذ نفسا عميقا. أنظر في عيني. قل ماذا ترى؟"
لم أقل له بعد الثواني القصيرة التي تأملت فيها عينيه العسليتين إنني أرى ديكا ناصبا ريشه الملون، ويحسب نفسه يفهم في كل شيء، ويظن أنه جاء إلى خم الشرق هذا من مزارع فرنسية راقية، وأنه يراني متخلفا، وبالكاد يخفي ازدراءه لي."
قلت" رجل سيشير إلى كلب أو أكثر ويقول:" ها هو طلبك."
فضحك وقال:" " لن أخذلك. الآن نعود إلى الفندق لتنام ، وغدا أتي إليك، وأصحبك إلى نوع من الكلاب تراه على القنوات الفضائية فقط، لكأنه نوع من البشر، وتحتار حين ينبح كيف تسكته، ويخطر ببالك أن المال قد يفعل مع أن رصاصة قد تساعد."
في السيارة نثرت نظراتي على البساط العشبي المفروش على جانبي الطريق كأطفال تلبس الأخضر وتلوح لزائر هام من بلد آخر.
سألته منتزعا نفسي من جمال الطبيعة الذي لم تصل إليه يد الإنسان بالكثير من الإفساد:" كيف صرت خبيرا بالكلاب؟"
فقال مبتسما:" بالتعامل مع البشر."
لم أشعر بأنني مقصود بذلك، فقد كان خبيرا قبل أن يلقاني. فعدت لسؤاله:" أتذكر يوم قلت لي إن المهم كيف ترانا الكلاب؟"
فهز رأسه وهو ما يزال ينظر إلى الأمام:"
فتابعت:" كيف ترانا الكلاب؟"
فابتسم ولم يجب. ونشر الصمت ضبابه بيننا حتى وصلنا إلى مجموعة من بيوت صفيح وأخرى من طوب عار تلاصقت كنساء ورجال ضربهم شبق. وسرنا على أقدامنا في شوارع ضيقة بعضها ترابي وبعضها إسمنتي، وفي وسطها قنوات مكشوفة، يجري فيها ماء أسود له رائحة كريهة، وفي بعض الساحات تجمع الكثير من الفضلات والزبالة يلقيها أصحاب هذا المكان.
كان هناك أولاد يلعبون كرة قدم. ثيابهم ممزقة تظهر أجزاء من أجسادهم . بدوا عراة غير أنه عري بالإكراه. ورجال في ثياب رثة ووجوه مصها الشقاء، بعضهم وقف أمام علبة صفيحِه، وثلاثة أو أربعة جلسوا على كراسي بلاستيكية. وكان كل من نمر به يرمقنا بنظرات لم أفهمها. لكني أحسست أن شيئا ما فيّ وفي الشقيق اللبناني أشعرهم أننا لا ننتمي إلى المكان. ربما كان لباسي الخليجي المعروف، وبدلته السفاري من الفوتيك الأخضر. وكان هناك ظل استغراب في العيون، ومع هذا طاف بي وهم أنني لمحت بريقا من ود إنساني في العيون.
قلت له:" أين نحن؟"
كان يسير إلى الأمام، تاركا مسافة عن الجميع، عيناه نصف مغمضتين وعلى شفتيه ابتسامة.
أجاب وهو يتنهد كمن يتمنى إزاحة جبل يجثم على صدره:" في مخيم لاجئين من فلسطين. هل لاحظت نظراتهم؟ هل تجيبك على سؤالك؟"
لذت بالصمت محاولا إخفاء ارتعاشي.