القطة السوداء
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
كانت تعليقات أصدقائه و أحبائه تلاحقه كظله و ترافقه كمتطفل يحشر أنفه. تحمر وجنتاه و تتلعثم الكلمات على شفتيه و هو يحاول أن يبدد تهمة الخوف من القطط و خاصة السوداء.
- أنا لا أخشى الظلام و لا القطط السوداء ، إلا أنني أعترف لكم بمحض إرادتي بأنني لا أستلطفها و لا أحبذ رؤيتها ، و أتمنى أن تختفي آثارها من الحديقة و الأزقة المجاورة.كانت فرحتي عارمة ذات ظهيرة وأنا أرى أحشاء بعض القطط ملقاة على الطريق السريع و أنا في طريق عودتي من العمل .حاول جاهداً أن يبعد عنه تهمة الخوف ، إلا أن أصدقاءه أقسموا أغلظ الأيمان بأنه يصاب بالرعب و تنتابه قشعريرة غريبة عندما يشاهد قطاً أسوداً على سور حديقته أو على أغصان إحدى الأشجار ، أو كان يحاول أن يجد ضالته في بعض أكياس القمامة !
- نريد معرفة سر الجفاء و العداوة بينكما ، سأل أحدهم بخبث واضح من نبرات صوته.
- ليس ثمة جفاء و لا توجد أسباب محددة لأوهام تعشعش في أذهانكم أيها الأصدقاء ، و أمام إصرار بعضهم العنيد لمعرفة الأسباب الحقيقية بدأ بسرد حكايته و أماط اللثام عن بعض خفايا حكايته مع جماعة القطط السوداء ، و ألح عليهم أن يبقوا كل ذلك طي الكتمان.
- " ذات يوم ربيعي أخاذ عدت للمنزل و ألقيت نظرة على الحديقة قبيل الغروب على أمل الاستمتاع بمشهد بعض الأزهار و التأمل بالكسوة الخضراء التي اتشحت بها الحديقة ، فإذا به يحدق بي ..
- من هو ؟ تساءل صديقه وهو فاغر فاه.
- قط أسود عيناه كالبلور ، هيئته كمن يستعد للانقضاض على فريسته . ارتعدت فرائصي و صار الخوف عندي وحشاً له مخالب و أنياب .انحرفت قليلاً عند المدخل الجانبي للمنزل ، خيل الي أن ثمة خطوات تتبعني و مواء قريب و غريب يطوقني و مخالب تنغرز في كتفي ! حاولت التحرر من قلقي و الانعتاق من تسارع نبضاتي . اقتربت بهدوء من الباب المغلق و نظرت خلسة عبر النافذة السحرية . توقف شعر راسي ! يا الهي ! على مسافة قريبة كانت هناك أربع او خمس قطط فاحمة السواد لا أدري من أين أتت. كانت تحرك أذيالها و تكشر عن أنيابها جائعة. تظاهرت أنني لم أر شيئاً ، و عدت بهدوء و انزويت في إحدى الغرف . قمت بمحاولة نوم فاشلة وسط قلق عارم ووجوم قاتل.
شرد بي الفكر إلى سنوات خلت تداخلت فيها الصور . بعد أسبوع من الحادثة الولى و في ليلة حالكة الظلام نزلت درجات إسمنتية بهدوء تام حيث أن لمبة الكهرباء قد احترقت قبل مدة وجيزة . كنت أتحسس طريقي على أطراف أقدامي. ثمة خشخشة لأوراق و صفحات جرائد قديمة. يا الهي ! من ؟ و انشقت الأرض ، دفعتني أيدي سوداء خشنة لأعماق سحيقة .انتابني رعب لم اشعر به من قبل و اعترتني نوبة حمى مفاجئة. تصببت عرقاً و حاولت وسط الوجوم القاتل أن أتأمل المكان. عتمة تبدد أستارها خيوط ضوء خافت ينبعث من فتائل موضوعة في قوارير فخارية صغيرة، و أمامي أناس يلبسون عمائم و جلابيب غريبة و أمامهم مطرقة خشبية ضخمة . اجل إن لهم هيئة قضاة غريبي الأطوار و الأشكال و هيئتهم ليست إنسية. كانت هناك صور معلقة على جدار البناء الذي يشبه الكهف المهجور لقطط مختلفة الأحجام متباينة الألوان.صوت المطرقة الذي هز المكان و الصدى الذي عمت موجاته برودة المكان كان مؤذناً ببداية الجلسة.
- الأدلة تشير إلى انك تسببت بمقتل قطة من بني جنسنا سوداء من فصيلة القطط السيامية. قال أحدهم وفي نبرة صوته حدة.
اقسم بأنني لم أشهد أية حادثة قتلت فيها قطة أو سلحفاة ، و لم يسبق لي أن تسببت في إيذاء احد على هذا الكوكب !قلت مدافعاً وسط حالة انكسار و ذهول.
حدق القاضي في وجوه هيئة المحكمة على يمينه و يساره ، ثم نظر الى قائلا: لقد داهمت إحدى القطط النائمة في ليلة نعرف أنها كانت شديدة السواد فلفظت أنفاسها الأخيرة تحت حذائك المهتريء الثقيل...ماذا تقول في ذلك ؟
- أجل . وأقسم ثانية أنني لم أتعمد الإيذاء و إنما كان الظلام أشد من قدرتي على الإبصار و كنت أنتعل حذاء ثقيلا من مخلفات والدي ، وفجأة وجدت نفسي فوق شيء لم أتبين كنهه إلا بعد أن سمعت ذاك المواء الحزين في لحظات الاحتضار ، فأخذت الجثة إلى أطراف الحديقة و دعوت لها بالشفاء ، إلا أنها لفظت أنفاسها الأخيرة بين يدي هاتين_ و الله على ما أقول شهيد – و انحدرت دمعتان ساخنتان على وجنتي حزناً و رعباً.
- خفت صوت القاضي و مستشاريه ، و مرت لحظات تشاور ثم هز رأسه قليلا و همس في أذن أحدهم و كان جالساً على ميسرته ، و إذا بدخان يعبق المكان و يغطي الوجوه بأبخرة متعددة الألوان.أصابني دوار غريب لم أعهده من قبل لم أصح منه إلا و أنا وحدي عند زاوية بيني طليقاً قد برأتني محكمتهم. حمدت الله على نجاتي من الكابوس و منذئذ لم تعترض طريقي قطة أبدا.
تمشيت و زملائي على امتداد الكورنيش ذات مساء. كانت الأمواج تتهادى تحت ضوء القمر لتسترخي عند أقدام الشاطئ. اقترحت على زملائي الاقتراب من بعض الصخور الملساء لنتأمل الموج المندفع ، نالت الفكرة استحسانهم و بدأوا بالدنو .شمر أحدهم بنطاله حتى الركبة و بدأ يقترب خطوة خطوة.الماء بارد و كل شيء يبعث على الابتهاج. اقترب الجميع و توقفت وحدي ...!
- تعال ، أقترب ، أتخشى الماء .؟ نادى أحدهم
- - و هل هناك شيء أشهى على لنفس من الموج و الشاطئ في هذه الليلة القمراء؟ أجبتهم متسائلاً
- ظل أصدقائي يدعوني للاقتراب غير مدركين أنني شاهدت للتو قطتين سوداوين تسيران بمحاذاة الصخور و تتجهان إلى مكان ما. استعدت ذكرياتي و كوابيس الماضي و قررت الاكتفاء بضوء القمر رفيقاً و تسمرت في مكاني.